منتدى ميراث الرسول

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون

    avatar
    اسرة التحرير
    Admin


    عدد المساهمات : 3695
    تاريخ التسجيل : 23/01/2014

    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون Empty الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون

    مُساهمة من طرف اسرة التحرير الإثنين مايو 22, 2017 9:25 am

    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون
    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون 1410
    ● [ الحديث السادس والأربعون ] ●

    عَنْ أَبي بُردَةَ ، عن أَبيه أَبي مُوسى الأَشعَريِّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ ، فسأَلَهُ عَنِ أَشربةٍ تُصنَعُ بها ، فقال : ( ومَا هِي ؟ ) قالَ : البِتْعُ والمِزْرُ ، فقيل لأبي بُردَةَ : وما البِتْعُ ؟ قال : نَبيذُ العسلِ ، والمِزْرُ نَبيذُ الشَّعير ، فقال : ( كُلُّ مُسكرٍ حَرامٌ ) خرَّجه البُخاريُّ.
    وخرَّجه مسلم، ولفظه قال : بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذٌ إلى اليمنِ ، فقلتُ : يا رسولَ الله ، إنَّ شراباً يُصنع بأرضنا يقال له : المِزْرُ مِنَ الشَّعير ، وشرابٌ يقالُ له : الِبتع من العسل ، فقال : ( كلُّ مسكرٍ حرامٌ ) . وفي رواية لمسلم : فقال : ( كُلُّ ما أسكر عن الصَّلاةِ فهو حرامٌ ) ، وفي رواية له قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامعَ الكلم بخواتمه ، فقال : ( أنهى عن كلِّ مسكر أسكر عن الصَّلاةِ ).
    هذا الحديثُ أصلٌ في تحريم تناول جميع المسكرات ، المغطِّيةِ للعقل ، وقد ذكر الله في كتابه العلَّةَ المقتضية لتحريم المسكرات ، وكان أوَّل ما حُرِّمتِ الخمرُ عند حضورِ وقتِ الصلاة لما صلَّى بعضُ المُهاجرين ، وقرأ في صلاته ، فخلط في قراءته، فنَزل قولُه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي : لا يقرب الصَّلاةَ سكران، ثم إنَّ الله حرَّمها على الإطلاق بقوله تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }.
    فذكر سبحانه علَّة تحريم الخمر والميسر ، وهو القمار ، وهو أنَّ الشيطان يُوقعُ بهما العداوةَ والبغضاء ، فإنَّ مَنْ سَكِرَ اختلَّ عقلُه ، فربَّما تَسَلَّط على أذى الناسِ في أنفسهم وأموالهم ، وربما بَلَغَ إلى القتل ، وهي أمُّ الخبائث ، فمن شَربها ، قتلَ النفس وزنى ، وربما كفر . وقد روي هذا المعنى عن عثمان وغيره، وروي مرفوعاً أيضاً.
    ومن قامر ، فربما قُهرَ ، وأُخذ ماله منه قهراً ، فلم يبق له شيء ، فيشتدُّ حِقدُه على من أخذ ماله . وكلُّ ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراماً ، وأخبر سبحانه أنَّ الشيطان يصدُّ بالخمر والميسر عن ذكر الله وعنِ الصَّلاةِ ، فإنَّ السَّكران يزولُ عقلُه ، أو يختلُّ ، فلا يستطيعُ أنْ يذكرَ الله ، ولا أنْ يُصلِّي ، ولهذا قال طائفة مِنَ السَّلف : إنَّ شاربَ الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه ، والله سبحانه إنَّما خلق الخلق ليعرفوه ، ويذكروه ، ويعبدوه ، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناعِ من ذلك ، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته ، كان محرَّماً ، وهو السكر ، وهذا بخلاف النَّوم ، فإنَّ الله تعالى جَبَل العباد عليه ، واضطرهم إليه ، ولا قِوام لأبدانهم إلا به ، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب ، فهو من أعظم نِعَمِ الله على عباده ، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه ، كان نومُه عوناً له على الصلاة والذكر ، ولهذا قال من قال من الصحابة : إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
    وكذلك الميسرُ يَصُدُّ عن ذكر الله وعنِ الصَّلاة ، فإنَّ صاحبه يَعْكُفُ بقلبه عليه ، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ، ولهذا قال عليٌّ لما مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج : ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل . وجاء في الحديث : ( إنَّ مدمِنَ الخمرِ كعابدِ وثنٍ )، فإنَّه يتعلق قلبُه بها ، فلا يكادُ يُمكنه أنْ يدعَها كما لا يدعُ عابدُ الوثنِ عبادتَه.
    وهذا كلُّه مضادٌّ لِما خَلَق اللهُ العبادَ لأجله مِنْ تفريغِ قلوبهم لمعرفته ، ومحبَّته ، وخشيته ، وذكره ، ومناجاتِه ، ودعائِه ، والابتهال إليه ، فما حالَ بين بالعبد وبين ذلك ، ولم يكن بالعبد إليه ضرورةٌ ، بل كان ضرراً محضاً عليه ، كان محرماً ، وقد رُوي عن عليٍّ أنّه قال لمن رآهم يلعبون بالشِّطرنج : ما لهذا خُلقتم. ومن هنا يعلم أنَّ الميسرَ محرَّمٌ ، سواء كان بِعوَضٍ أو بغيرِ عوضٍ ، وإنَّ الشطرنج كالنَّرد أو شرٌّ منه ؛ لأنَّها تشغلُ أصحابَها عن ذكر الله ، وعن الصَّلاةِ أكثر مِنَ النَّرد.
    والمقصودُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلُّ مسكر حرامٌ ، وكلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ) .
    وقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فخرَّجا في " الصحيحين " عن ابنِ عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ مسكرٍ خمرٌ ، وكلُّ خمر حرام ) ولفظ مسلم : ( وكل مسكر حرام ) . وخرّجا أيضاً من حديث عائشة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البِتع ، فقال : ( كلّ شراب أسكر فهوَ حرام ) ، وفي رواية لمسلم : ( كل شراب مسكر حرام ) وقد صحَّح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين، واحتجا به ونقل ابن عبد البرّ إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته ، وأنَّه أثبت شيء يُروى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر.
    وأمَّا ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معينٍ من طعنه فيه ، فلا يثبت ذلك عنه. وقد خرَّج مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلّ مسكر حرام ).
    وإلى هذا القول ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِنَ الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار ، وهو مذهبُ مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم.
    وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة ، وقالوا : إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً، وما عداها ، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر ، ولا يحرم ما دُونَه ، وما زال علماءُ الأمصار يُنكرون ذلك عليهم ، وإنْ كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم ، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين . قال ابنُ المبارك : ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم ، - يعني : النَّخعي - ، وكذلك أنكر الإمامُ أحمد أنْ يكونَ فيه شيءٌ يصحُّ ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئاً من الرخصة ، وصنَّف كتاباً في المسح على الخفين ، وذكر فيه عن بعض السَّلف إنكاره ، فقيل له : كيف لم تجعل في كتاب " الأشربة " الرخصة كما جعلت في المسح ؟ فقال : ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيح.
    ومما يدلُّ على أن كُلَّ مسكر خمر أنَّ تحريم الخمر إنَّما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عمّا عندهم من الأشربة ، ولم يكن بها خمرُ العنب ، فلو لم تكن آية تحريم الخمر شاملةً لِما عِندهم ، لما كان فيها بيانٌ لِما سألوا عنه ، ولكانَ محلُّ السبب خارجاً مِنْ عُموم الكلام ، وهو ممتنع ، ولمَّا نزل تحريمُ الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة ، فدلَّ على أنَّهم فَهِمُوا أنَّه منَ الخمر المأمور باجتنابه.
    وفي " صحيح البخاري " عن أنسٍ قال : حُرِّمت علينا الخمرُ حين حرمت وما نَجِدُ خمرَ الأعناب إلاّ قليلاً ، وعامة خمرنا البسرُ والتمرُ.
    وعنه أنَّه قال : إنِّي لأسقي أبا طلحة ، وأبا دُجانة ، وسهيلَ بن بيضاءَ خليطَ بُسرٍ وتمرٍ إذ حرمَتِ الخمر ، فقذفتها ، وأنا ساقيهم وأصغرُهم ، وإنا نَعُدُّها يومئذ الخمر.
    وفي " الصحيحين " عنه قال : ما كان لنا خمرٌ غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضيخَ.
    وفي " صحيح مسلم " عنه قال : لقد أنزل الله الآية التي حرَّم فيها الخمرَ ، وما بالمدينة شرابٌ يشرب إلاَّ من تمر.
    وفي " صحيح البخاري " عن ابنِ عمر ، قال : نَزَلَ تحريمُ الخمر وإنَّ بالمدينة يومئذ لخمسة أشربةٍ ما منها شراب العنب.
    وفي " الصحيحين " عن الشعبي ، عن ابنِ عمر ، قال : قام عمر على المنبر ، فقال : أما بعدُ ، نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمس : العنب والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ . والخمرُ : ما خامر العقل . وخرَّجه الإمامُ أحمد ، وأبو داود، والترمذي من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وذكر الترمذي أنَّ قولَ من قال : عن الشعبي عن ابن عمر ، عن عمر أصحّ ، وكذا قال ابنُ المديني.
    وروى أبو إسحاق عن أبي بُردة قال : قال عُمَرُ : ما خمرته فعتقته ، فهو خمر ، وأنّى كانت لنا الخمر خمر العنب.
    وفي " مسند " الإمام أحمد عن المختار بن فُلفل قال : سألت أنسَ بنَ مالك عن الشرب في الأوعية فقال : نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزفتة وقال : ( كُلُّ مسكر حرام ) قلتُ له : صدقت السكر حرام ، فالشربةُ والشربتان على طعامنا ؟ قال : المسكر قليلُه وكثيرُه حرامٌ وقال : الخمر من العنب والتمر والعسل
    والحنطة والشعير والذرة ، فما خمرتَ من ذلك فهو الخمر ، خرَّجه أحمد عن عبد الله ابن إدريس : سمعتُ المختار بن فلفل يقول فذكره ، وهذا إسنادٌ على شرط مسلم.
    وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الخمرُ مِنْ هَاتَينِ الشَّجرتين : النخلة والعِنبة ) ، وهذا صريح في أنَّ نبيذ التمر خمر.
    وجاء التصريحُ بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره ، كما خرَّجه أبو داود ، وابنُ ماجه ، والترمذي، وحسّنه من حديث جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أسكرَ كَثيرُهُ فَقَليلُهُ حَرامٌ ).
    وخرَّج أبو داود ، والترمذي، وحسّنه من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كُلُّ مُسكرٍ حَرَامٌ ، وما أسكر الفَرقُ ، فملءُ الكَفِّ منه حَرام ) ، وفي رواية ( الحسوة منه حرام ) ، وقد احتجَّ به أحمد ، وذهب إليه . وسئل عمن قال : إنَّه لا يصحُّ ؟ فقال : هذا رجلٌ مُغْلٍ ، يعني أنَّه قد غلا في مقالته . وقد خرَّج النَّسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرةٍ يطولُ ذكرُها.
    وروى ابنُ عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، حدثني أبو وهب الجيشاني ، عن وفد أهلِ اليمن أنَّهم قَدِموا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فسألوه عن أشربة تكون باليمن ، قال : فسَمَّوا له البِتْعَ مِن العسَل ، والمِزْرَ من الشعير ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تسكرون منها ؟ ) قالوا : إنْ أكثرنا سكِرنَا ، قال : ( فحرام قليل ما أسكر كثيره ) خرَّجه القاضي إسماعيل.
    وقد كانت الصحابةُ تحتجُّ بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ ) على تحريم جميع أنواع المسكرات ، ما كان موجوداً منها على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وما حدثَ بعده ، كما سُئِلَ ابن عباس عن الباذق ، فقال : سبق محمّدٌ الباذقَ ، فما أسكر ، فهو حرام ، خرَّجه البخاري، يشير إلى أنَّه إنْ كان مسكراً ، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة.
    واعلم أنَّ المسكرَ المزيل للعقل نوعان :
    أحدهما : ما كان فيه لَذَّةٌ وطربٌ ، فهذا هو الخمر المحرَّم شربه ، وفي " المسند " عن طلق الحنفيِّ أنَّه كان جالساً عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له رجل : يا رسولَ الله ، ما ترى في شراب نصنعُه بأرضنا من ثمارنا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سائلٌ عَنِ المسكر ؟ فلا تشربه ، ولا تسقه أخاك المسلم ، فوالذي نفسي بيده - أو بالذي يُحلف به - لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذَّة سُكره ، فيسقيه الله الخمر يومَ القيامة ).
    قال طائفة من العلماء : وسواءٌ كان هذا المسكرُ جامداً أو مائعاً ، وسواءٌ كان مطعوماً أو مشروباً ، وسواءٌ كان من حبٍّ أو ثمرٍ أو لبنٍ ، أو غير ذلك ، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تُعمل من ورق القِنَّب ، وغيرها ممَّا يُؤْكَلُ لأجل لذَّته وسكره، وفي " سنن أبي داود " من حديث شهر بن حوشب ، عن أمِّ سلمة ، قالت : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلِّ مُسكرٍ ومُفتِّرٍ ) والمفتر : هو المخدر للجسد ، وإنْ لم ينته إلى حدِّ الإسكار.
    والثاني : ما يُزيلُ العقلَ ويسكر ، ولا لذَّة فيه ولا طرب ، كالبنج ونحوه ، فقال أصحابنا : إنَّ تناوله لحاجة التداوي به ، وكان الغالبُ منه السلامة جاز ، وقد رُوي عن عُروة بن الزُّبير أنَّه لمَّا وقعت الأكِلَة في رجله ، وأرادوا قطعَها ، قال له الأطباء : نسقيك دواءً حتى يغيبَ عقلُك ، ولا تُحِسَّ بألم القطع ، فأبى ، وقال : ما ظننتُ أنَّ خلقاً يشربُ شراباً يزولُ منه عقلُه حتّى لا يعرف ربّه. وروي عنه أنَّه قال : لا أشرب شيئاً يحولُ بيني وبين ذكر ربي - عز وجل -.
    وإنْ تناول ذلك لغير حاجة التداوي ، فقال أكثرُ أصحابنا كالقاضي ، وابنِ عقيل ، وصاحب " المغني " : إنَّه محرم ؛ لأنَّه تسبب إلى إزالة العقل لغير حاجة ، فحرم كشرب المسكر ، وروى حنش الرحبي - وفيه ضعف - عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً : ( مَنْ شرب شراباً يَذهَبُ بعقلِه ، فقد أتى باباً مِنْ أبواب الكبائر ).
    وقالت طائفة منهم ابنُ عقيل في " فنونه " : لا يَحرُمُ ذلك ؛ لأنَّه لا لذَّة فيه ، والخمرُ إنَّما حرِّمت لِما فيها مِنَ الشِّدَّةِ المطرِبَة ، ولا اطراب في البنج ونحوه ولا شدَّة.
    فعلى قولِ الأكثرين : لو تناول ذلك لِغير حاجة ، وسكر به ، فطلَّق ، فحكمُ طلاقه حكمُ طلاق السَّكران ، قاله أكثرُ أصحابنا كابن حامد والقاضي ، وأصحاب الشافعي ، وقالت الحنفية : لا يقعُ طلاقه ، وعلَّلوا بأنَّه ليس فيه لذَّة ، وهذا يدلُّ على أنَّهم لم يُحرِّموه . وقالت الشافعية : هو محرَّم ، وفي وقوع الطلاق معه وجهان ، وظاهرُ كلام أحمد أنّه لا يقعُ طلاقُه بخلافِ السَّكران ، وتأوله القاضي ، وقال : إنَّما قال ذلك إلزاماً للحنفية ، لا اعتقاداً له ، وسياق كلامه محتمل لذلك.
    وأمَّا الحدُّ ، فإنَّما يجبُ بتناول ما فيه شِدَّة وطربٌ مِنَ المسكراتِ ؛ لأنّه هو الذي تدعو النفوس إليه ، فجُعِلَ الحدُّ زاجراً عنه.
    فأمَّا ما فيه سكرٌ بغيرِ طربٍ ولا لذَّة ، فليس فيه سوى التعزير ؛ لأنَّه ليس في النفوس داع إليه حتّى يحتاج إلى حدٍّ مقدَّر زاجرٍ عنه ، فهو كأكل الميتة ولحم الخنزير ، وشرب الدم.
    وأكثرُ العلماء الذين يرونَ تحريمَ قليلِ ما أسكر كثيرُه يرونَ حدَّ مَنْ شربَ ما يُسكر كثيره ، وإنِ اعتقد حِلَّه متأولاً ، وهو قولُ الشافعي وأحمد ، خلافاً لأبي ثور ، فإنَّه قال : لا يحدُّ لتأوُّله ، فهو كالنَّاكح بلا وليٍّ . وفي حدِّ الناكح بلا
    وليٍّ خلاف أيضاً ، ولكنَّ الصحيح أنَّه لا يُحَدُّ ، وقد فرَّق من فرَّق بينه وبين شرب النبيذ متأوِّلاً بأنَّ شرب النبيذ المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه بخلاف الناكح بغير وليٍّ ، فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه ، وموجب للاستعفاف عنه . والمنصوصُ عن أحمد أنَّه إنَّما حدَّ شارب النبيذ متأوِّلاً ؛ لأنَّ تأويلَه ضعيف لا يُدرأُ عنه الحدُّ به ، فإنَّه قال في رواية الأثرم : يُحدُّ من شرب النبيذ متأوِّلاً ، ولو رُفِعَ إلى الإمام من طَلَّق البتة ، ثم راجعها متأوِّلاً أنَّ طلاق البتة واحدة ، والإمام يرى أنَّها ثلاث لا يُفرق بينهما ، وقال : هذا غيرُ ذاك ، أمره بيِّنٌ في كتاب الله ، وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ مسكرٍ خمر ) ، فهذا بيِّن ، وطلاق البتة إنَّما هو شيءٌ اختلفَ النَّاسُ فيه.

    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون Fasel10
    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون Game10

    ● [ الحديث السابع والأربعون ] ●

    عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِ يكرِبَ قالَ : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ : ( ما مَلأ آدميٌّ وِعاءً شَرّاً مِنْ بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أَكَلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فإنْ كَانَ لا مَحالَةَ ، فَثُلُثٌ لِطعامِهِ ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ ، وثُلُثٌ لِنَفسه ) رواهُ الإمامُ أحمَدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ ، وقَالَ التِّرمِذيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ.
    هذا الحديثُ خرَّجه الإمام أحمد والترمذيُّ من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام ، وخرَّجه النَّسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جدّه، وخرّجه ابنُ ماجه من وجه آخر عنه وله طرق أخرى.
    وقد رُوي هذا الحديث مع ذكر سببه ، فروى أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث عبد الرحمان بن المُرَقَّع ، قال : فتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وهي مخضرةٌ من الفواكة ، فواقع الناسُ الفاكهةَ ، فمغثتهمُ الحُمَّى ، فشَكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّما الحمى رائدُ الموت وسجنُ الله في الأرض ، وهي قطعةٌ من النار ، فإذا أخذتكم فبرِّدوا الماء في الشِّنان ، فصبُّوها عليكم بين الصَّلاتين ) يعني المغرب والعشاء ، قال : ففعلوا ذلك ، فذهبت عنهم ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لم يخلُقِ الله وعاءً إذا مُلِئَ شرّاً من بطن ، فإن كان لابدَّ ، فاجعلوا ثُلُثاً للطَّعام ، وثُلثاً للشَّراب ، وثُلثاً للرِّيح ).
    وهذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها . وقد رُوي أنَّ ابنَ أبي ماسويه الطبيبَ لمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة ، قال : لو استعملَ الناسُ هذه الكلمات ، سَلِموا مِنَ الأمراض والأسقام ، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة ، وإنَّما قال هذا ؛ لأنَّ أصل كلِّ داء التُّخَم ، كما قال بعضهم : أصلُ كُلِّ داء البردةُ ، وروي مرفوعاً ولا يصحُّ رفعه.
    وقال الحارث بن كَلَدَة طبيبُ العرب : الحِمية رأسُ الدواء ، والبِطنةُ رأسُ الداء ، ورفعه بعضهم ولا يصحُّ أيضاً.
    وقال الحارث أيضاً : الذي قتل البرية ، وأهلك السباعَ في البرية ، إدخالُ الطعام على الطعام قبل الانهضام .
    وقال غيره : لو قيل لأهل القبور : ما كان سببُ آجالكم ؟ قالوا : التُّخَمُ.
    فهذا بعض منافع تقليلِ الغذاء ، وتركِ التَّمَلِّي من الطَّعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته.
    وأما منافِعُه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب ، وقوَّة الفهم ، وانكسارَ النفس ، وضعفَ الهوى والغضب ، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك.
    قال الحسن : يا ابنَ آدم كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثٍ ، ودع ثُلُثَ بطنك يتنفَّس لتتفكر.
    وقال المروذي : جعل أبو عبد الله : يعني : أحمدَ يُعظِّمُ أمر الجوع والفقر ، فقلت له : يُؤجر الرجل في ترك الشهوات ، فقال : وكيف لا يؤجر ، وابنُ عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجلُ مِنْ قلبه رقَّة وهو يشبع ؟ قال : ما أرى.
    وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه ، فروى بإسناده عن ابن سيرين ، قال : قال رجل لابن عمر : ألا أجيئك بجوارش ؟ قال : وأيُّ شيء هو ؟ قال : شيءٌ يَهضِمُ الطعامَ إذا أكلته ، قال : ما شبعتُ منذ أربعةِ أشهر ، وليس ذاك أني لا أقدر عليه ، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثرَ مما يشبعون.
    وبإسناده عن نافع ، قال : جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر ، فقال : ما هذا ؟ قال : جوارش : شيءٌ يُهضَمُ به الطعامُ ، قال : ما أصنع به ؟ إنِّي ليأتي عليَّ الشهرُ ما أشبع فيه من الطعام.
    وبإسناده عن رجلٍ قال : قلتُ لابنِ عمر : يا أبا عبد الرحمان رَقَّتْ مضغتك ، وكَبِرَ سِنُّكَ ، وجلساؤك لا يعرفون لك حَقَّك ولا شَرَفَك ، فلو أمرتَ أهلك أنْ يجعلوا لك شيئاً يلطفونك إذا رجعتَ إليهم ، قال : وَيْحَكَ ، واللهِ ما شبعتُ منذ إحدى عشرة سنة ، ولا اثنتي عشرة سنة ، ولا ثلاث عشرة سنة ، ولا أربع عشرة سنة مرَّة واحدة ، فكيف بي وإنَّما بقي مني كظِمْءِ الحمار.
    وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنَّه كان يدعُ كثيراً من الشبع مخافة الأشر.
    وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " بإسناده عن نافع ، عن ابنِ عمر ، قال : ما شبعتُ منذُ أسلمت .
    وروى بإسناده عن محمد بن واسع ، قال : مَنْ قلَّ طُعْمُه فهم ، وأفهم ، وصفا ، ورقَّ ، وإنَّ كَثرةَ الطَّعام ليُثقل صاحبه عن كثير مما يُريد.
    وعن أبي عبيدة الخَوَّاص ، قال : حَتْفُكَ في شبعك ، وحَظُّك في جوعك ، إذا أنت شبعتَ ثقلتَ ، فنِمْتَ ، استمكن منك العدوُّ ، فجثم عليك ، وإذا أنت تجوَّعت كنت للعدو بمرصد.
    وعن عمرو بن قيس ، قال : إيَّاكُمْ والبِطنة فإنَّها تُقسِّي القلب.
    وعن سلمة بنِ سعيد قال : إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ.
    وعن بعض العلماء قال : إذا كنت بطيناً ، فاعدد نفسك زمناً حتى تخمص.
    وعن ابن الأعرابي قال : كانت العربُ تقول : ما بات رجلٌ بطيناً فتمَّ عزمُه.
    وعن أبي سليمان الداراني قال : إذا أردتَ حاجةً من حَوائجِ الدُّنيا والآخرة ، فلا تأكل حتَّى تقضيها ، فإنَّ الأكلَ يُغير العقل.
    وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أنْ يكونَ بطنه أكبرَ همه ، وأنْ تكونَ شهوته هي الغالبة عليه.
    قال : وحدثني الحسنُ بن عبد الرحمان ، قال : قال الحسن أو غيره : كانت بلية أبيكم آدم - عليه السلام - أكلةً ، وهي بليتُكم إلى يوم القيامة. قال : وكان يُقال : من ملك بطنه ، ملك الأعمالَ الصالحة كلها، وكان يُقال : لا تَسكُنُ الحِكمةُ معدة ملأى.
    وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان يُقال : قِلة الطعام عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات.
    وعن قثم العابد قال : كان يُقال : ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه ، ونديت عيناه.
    وعن عبد الله بن مرزوق قال : لم نَرَ للأشر مثل دوام الجوع ، فقال له أبو عبد الرحمان العمري الزاهد : وما دوامه عندك ؟ قالَ : دوامُه أنْ لا تشبع أبداً . قالَ : وكيف يقدر من كانَ في الدنيا على هذا ؟ قال : ما أيسرَ ذلك يا أبا عبد الرحمان على أهل ولايته ومن وفَّقه لطاعته ، لا يأكل إلا دونَ الشبع هو دوامُ الجوع.
    ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعامَ على بعض أصحابه ، فقال له : أكلتُ حتى لا أستطيع أنْ آكل ، فقال الحسن : سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل ؟.
    وروى أيضاً بإسناده عن أبي عمران الجوني ، قال : كان يقال : من أحبّ أن يُنوَّرَ لهُ قلبُه ، فليُقِلَّ طُعمَه.
    وعن عثمان بن زائدة قال : كتب إليَّ سفيان الثوري : إنْ أردت أنْ يصحَّ جسمك ، ويَقِلَّ نومك ، فأقلَّ من الأكل.
    وعن ابن السَّماك قال : خلا رجل بأخيه ، فقال : أي أخي ، نحن أهونُ على الله من أنْ يُجيعنا ، إنَّما يُجيع أولياءه.
    وعن عبد الله بن الفرج قال : قلت لأبي سعيد التميمي : الخائف يشبعُ ؟ قالَ : لا ، قلت : المشتاق يشبع ؟ قالَ : لا.
    وعن رياح القيسي أنه قُرِّبَ إليه طعامٌ ، فأكل منه ، فقيل لهُ : ازدد فما أراك شبعتَ ، فصاح صيحة وقال : كيف أَشبَعُ أيام الدنيا وشجرةُ الزقوم طعامُ الأثيم بين يدي ؟ فرفع الرجلُ الطعام من بين يديه ، وقال : أنت في شيء ونحن في شيء.
    قال المروذي : قال لي رجل : كيف ذاك المتنعمُ ؟ يعني : أحمد ، قلتُ له : وكيف هو متنعم ؟ قال : أليس يجد خبزاً يأكل ، وله امرأة يسكن إليه ويطؤها ، فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله ، فقال : صدق ، وجعل يسترجِعُ ، وقال : إنا لنشبع.
    وقال بشر بنُ الحارث : ما شبعت منذ خمسينَ سنة ، وقال : ما ينبغي للرجل أنْ يشبع اليوم من الحلال ؛ لأنَّه إذا شبع من الحلال ، دعته نفسُه إلى الحرام ، فكيف من هذه الأقذار ؟
    وعن إبراهيم بن أدهم قال : من ضبط بطنه ، ضبط دينَه ، ومن ملك جُوعَه ، ملك الأخلاق الصالحة ، وإنَّ معصية الله بعيدةٌ من الجائع ، قريبةٌ من الشبعان ، والشبعُ يميت القلبَ ، ومنه يكونُ الفرحُ والمرح والضحك .
    وقال ثابت البناني : بلغنا أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السّلام ، فرأى عليه معاليق من كلِّ شيءٍ ، فقال له يحيى : يا إبليس ، ما هذه المعاليقُ التي أرى عليك ؟ قال : هذه الشهواتُ التي أُصيبُ من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيءٌ ؟ قال : ربما شبعت ، فثقَّلناك عن الصَّلاة وعنِ الذِّكر ، قال : فهل غيرُ هذا ؟ قال :
    لا ، قال : لله عليَّ أنْ لا أملأ بطني من طعام أبداً ، قال : فقال إبليس : ولله عليَّ أنْ لا أنصحَ مسلماً أبداً.
    وقال أبو سليمان الداراني : إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت ، صفا القلب ورقَّ ، وإذا شبعت ورويت ، عمي القلبُ، وقال : مفتاحُ الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وأصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله - عز وجل - ، وإنَّ الله ليُعطي الدنيا من يُحبُّ ومن لا يُحبُّ ، وإنَّ الجوع عنده في خزائن مُدَّخَرة ، فلا يُعطي إلا من أحبَّ خاصة ؛ ولأنْ أدعَ من عشائي لقمةً أحبُّ إليَّ من أن آكلها ثم أقوم من أوَّل الليل إلى آخره.
    وقال الحسن بن يحيى الخشني : من أراد أن تَغْزُرَ دموعه ، ويرِقَّ قلبه ، فليأكل ، وليشرب في نصف بطنه ، قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت بهذا أبا سليمان ، فقال : إنَّما جاء الحديث : ( ثلثٌ طعام وثلثٌ شراب ) ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسَهم ، فربحوا سدساً، قلت : والخير والهدى والسداد في اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نصح في حديثه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الغاية في الورع والزهد ، أما المبالغة في الأمر فقد يخرج بالمرء إلى حيز التنطع والتشدد المنهي عنه.
    وقال محمد بن النضر الحارثي : الجوعُ يبعث على البرِّ كما تبعثُ البِطنة على الأشر.
    وعن الشافعي ، قال : ما شبعتُ منذ ستَّ عشرةَ سنة إلا شبعة اطرحتها ؛ لأنَّ الشبع يُثقِلُ البدن ، ويُزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة.
    وقد ندب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام ، وقال : ( حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ). وفي " الصحيحين " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ( المؤمنُ يأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافرُ يأكل في سبعة أمعاء ) والمراد أنَّ المؤمن يأكلُ بأدبِ الشَّرع ، فيأكل في مِعًى واحدٍ ، والكافر يأكل بمقتضى الشَّهوة والشَّرَهِ والنَّهم ، فيأكلُ في سبعة أمعاء.
    وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلُّل منَ الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه ، فقال : ( طعامُ الواحدِ يكفي الاثنين ، وطعامُ الاثنين يكفي الثَّلاثة ، وطعامُ الثلاثة يكفي الأربعة ).
    فأحسنُ ما أكل المؤمن في ثُلُثِ بطنه ، وشرِبَ في ثلث ، وترك للنَّفَسِ ثُلثاً ، كما ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام ، فإنَّ كثرة الشرب تجلِبُ النوم ، وتفسد الطعام . قال سفيان : كُلْ ما شئتَ ولا تشرب ، فإذا لم تشرب ، لم يجئك النوم.
    وقال بعض السَّلف : كان شبابٌ يتعبَّدون في بني إسرائيل ، فإذا كان عند فطرهم ، قام عليهم قائم فقال : لا تأكلوا كثيراً ، فتشربوا كثيراً ، فتناموا كثيراً ، فتخسروا كثيراً.
    وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيراً ، ويتقلَّلون من أكل الشَّهوات ، وإنْ كان ذلك لِعدم وجود الطَّعام ، إلاَّ أنَّ الله لا يختارُ لرسوله إلا أكملَ الأحوال وأفضلها . ولهذا كان ابنُ عمر يتشبه بهم في ذلك ، مع قدرته على الطَّعام ، وكذلك كان أبوه من قبله.
    ففي " الصحيحين " عن عائشة ، قالت : ما شبع آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِمَ المدينة من خبز بُرٍّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض ، ولمسلم : قالت : ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.
    وخرَّج البخاري عن أبي هريرة قال : ما شَبِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض.
    وعنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.
    وفي " صحيح مسلم " عن عمر أنَّه خطب ، فذكر ما أصابَ الناسُ من الدنيا ، فقال : لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه.
    وخرَّج الترمذي، وابن ماجه من حديث أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاث مِنْ بين يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ إلا ما واراه إبط بلال ).
    وخرَّج ابنُ ماجه بإسناده عن سليمان بن صُرَد ، قال : أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمكثنا ثلاث ليالٍ لا نَقدِرُ - أو لا يقدر - على طعام.
    وبإسناده عن أبي هريرة ، قال : أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعامٍ سُخْن ، فأكل ، فلما فرغ ، قال : ( الحمدُ لله ، ما دخل بطني طعامٌ سخن منذ كذا وكذا ).
    وقد ذم الله ورسوله من اتَّبع الشهواتِ ، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ }.
    وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( خيرُ القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون ، ويَنذِرُون ولا يُوفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ ).
    وفي " المسند " أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً سميناً ، فجعل يومئُ بيده إلى بطنه ويقول : ( لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيراً لك ).
    وفي " المسند " عن أبي برزة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم شهواتُ الغي في بطونكم وفروجكم ، ومُضلات الهوى ).
    وفي " مسند البزار " وغيره عن فاطمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( شرارُ أمتي الذين غذوا بالنَّعيم يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدّقون في الكلام ).
    وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ، قال : تجشأ رجلٌ عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( كفّ عنا جُشاءك ، فإنَّ أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة ).
    وخرَّجه ابنُ ماجه من حديث سلمان أيضاً بنحوه ، وخرَّجه الحاكم من حديث أبي جُحيفة وفي أسانيدها كلِّها مقال.
    وروى يحيى بنُ منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسنادٍ له عن الإمامِ أحمد أنَّه سئل عن قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثُلث للطَّعام ، وثُلثٌ للشراب ، وثلث للنفس ) فقال : ثلث للطعام : هو القُوتُ ، وثلث للشراب : هو القوى ، وثلث للنفس : هو الروح ، والله أعلم.

    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون Fasel10

    جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
    منتدى ميراث الرسول
    صلى الله عليه وسلم
    الحديث السادس والأربعون والحديث السابع والأربعون E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 12:38 pm