منتدى ميراث الرسول

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    المواعظ الإيمانية [ 13 ]

    avatar
    اسرة التحرير
    Admin


    عدد المساهمات : 3695
    تاريخ التسجيل : 23/01/2014

    المواعظ الإيمانية [ 13 ] Empty المواعظ الإيمانية [ 13 ]

    مُساهمة من طرف اسرة التحرير الخميس فبراير 20, 2014 7:16 am

    المواعظ الإيمانية [ 13 ] Quran010

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة علوم القرآن
    المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
    المواعظ الإيمانية [ 13 ] 1410
    ● [ سورة التغابن ] ●
    [ التغابن - 1 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول تعالى (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3)
    إن سورة التغابن سورة مدنية أشبه ما تكون بالسور المكية لاهتمامها بالعقيدة وأصول الدين، حتى قال بعض العلماء إنها مكية.
    استفتحت السورة بيان تسبيح من في السموات والأرض بحمد الله لأنه الخالق المالك للسموات والأرض وما فيهما. ثم حذّرت الكافرين من عاقبة الكفر الوخيمة، ولفتتْ أنظارَهم إلى مصارع الكافرين من قبلهم ليعتبروا بهم. ثم تحدثت عن البعث بعد الموت وردّت على منكريه، وبيّنت جزاء كلٍّ من المؤمنين والكافرين.
    كما بينت أن كل شيء بقضاء، وأن من يؤمن بقضاء الله يهد الله قلبه. وحذرت المؤمنين من الانشغال بأموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
    ثم ختمت بأمرهم بتقوى الله، والسمع والطاعة، والإنفاق في سبيل الله مما رزقهم الله، ووعدتْهم إن أنفقوا أن يضاعف الله لهم الأجر يوم القيامة: يوم لا ينفع مال ولا بنون {الشعراء: 88}.
    هذه السورة هي آخر المسبّحات، وقد مضى الكلام عن تسبيح الكائنات لبارئها ومالكها.
    وقوله - تعالى -: هو الذي خلقكم أي هو وحده، لا غيره، وهذه حقيقة، كان المشركون قديمًا مقرين بها، كما قال - تعالى -: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {الزخرف: 87}، حتى نشأت ناشئةٌ من الملحدين الذين أنكروا وجود الله بالكليّة، وردوا نشأتهم إلى الطبيعة فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون {غافر: 70 72}.
    هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن أي هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بدّ من وجود مؤمن وكافر، والمقصود بهذه الإرادة؛ الإرادةُ الكونية القدرية، لا الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية تتعلّق بالخلق والإيجاد، وأما الشرعية فإنها تتعلق بالأمر والنهي، وهذه التي تدل على الحب والكره، دون الأولى؛ فكل ما أمر الله به فهو يحبه، وإن لم تتعلق به الإرادة الكونية، وكلّ ما نهى عنه فهو يكرهه وإن تعلقت به الإرادة الكونية، فإنها أي الشرعية لا تتعلق إلا بما يحب، فإيمان المؤمن تعلقت به الإرادتان الشرعية والقدرية، وكفر الكافر تعلقت به الإرادة القدرية دون الشرعية، لأن الله لم يأمر بالكفر بل نهى عنه وتوعد عليه، قال - تعالى -: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " {الزمر: 7}.
    وقال - تعالى -: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربي بالقسط " {الأعراف: 28، 29}.
    وقال - تعالى -: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي "{النحل: 90}.
    وقدم - تعالى - ذكر الكافرين لكثرتهم وقلّة المؤمنين، ولذا قال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون {الأنعام: 116}.
    وقال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " {الرعد: 5}.
    ولذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يقول لآدم يوم القيامة: "ابعث بعث النار من ذريّتك. فيقول يا ربّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"
    {متفق عليه، رواه خ (4741-441-8)، المجتمع (222-201-1)}
    فلا تغتر يا عبد الله بكثرة السالكين طريق الباطل، ولا تستوحش من طريق الحق وإن قل سالكوه.
    وقوله - تعالى -: " والله بما تعملون بصير " أي: وهو - سبحانه - بصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء.
    وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ التغابن -2 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8)
    تفسير الآيات:
    يقول - تعالى - مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا" فكذَّبهم فيما أخبر عنهم به بنفس صيغة الخبر، فإن الزعم مطيةُ الكذب- كما يقولون-.
    ثم أمر اللهُ نبيه أن يقسم بربّه على أنّ البعث حق، لا كما زعموا، فقال - تعالى -: "قل بلى وربي لتبعثن"، وهذه ثالثةُ ثلاثِ آياتٍ أمر الله فيها نبيه أن يقسم بربه على أن البعث حق، قال - تعالى -: "ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين" {يونس: 53}. وقال - تعالى -: "وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم" {سبأ: 3}، وقد أقسم الرب - سبحانه - بنفسه على أن البعث حقّ، فقال - تعالى -: "ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" {مريم: 66- 68}، فأقسم الربُّ - سبحانه - بذاته على بعث عباده، وأمر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم أيضًا بربّه على ذلك، فمن كذّب بعد ذلك فالنار أولى به، "بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا" {الفرقان: 11- 14}.
    وقوله - تعالى -: "ثم لتنبؤن بما عملتم". كقوله - تعالى -: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" {القيامة: 13}، وكقوله: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" {الزلزلة: 7، 8}.
    عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنّ اللهُ يدني المؤمن فيضعُ عليه كنَفَه ويسترُه من الناس، ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنبَ كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنْ قد هلك، قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعْطَى كتابَ حسناتِه. وأما الكفارُ والمنافقون فيقولُ الأشهاد: "هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم، ألا لعنة الله على الظالمين". {متفق عليه}.
    وقوله - تعالى -: "وذلك على الله يسير" أي: بعثكم ومجازاتكم، كما قال - تعالى -: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" {لقمان: 28}، وقوله - تعالى -: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" {الروم: 27}.
    ولما أخبرهم - سبحانه - أنهم مبعوثون، وبأعمالهم مجزّيون، أرشدهم إلى طريق النجاة، فقال: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا يعني القرآن.
    وقد سمّى الله كتابه نورًا في أكثر مِن آية، قال - تعالى -: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" {النساء: 174}، فبالقرآن يستضيء الحيارى في ظلمات الكفر والجهل والضلالة، قال - تعالى -: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" {المائدة: 15، 16}.
    وقوله - تعالى -: "والله بما تعملون خبير" لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، فراقبوه، واسْتحيُوا أن يراكم حيث نهاكم.
    وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ التغابن -3 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول - تعالى -: "يوم يجمعكم ليوم الجمع" وهو يوم القيامة؛ سمّي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال - تعالى -: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" {هود: 103}، وقال - تعالى -: "قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" {الواقعة: 49، 50}. ا.هـ من ابن كثير.
    وقوله - تعالى -: "ذلك يوم التغابن" والتغابن في الأصل: من الغبن وهو الخداع في البيع والشراء، فمن باع سلعةً بأقلّ مما تستحق، أو اشتراها بأكثرَ مما تستحق، فهو مغبون، فأراد الله أن يُعْلِمَ عباده أن الغبْن الحقيقي هو ما يكون في الآخرة، حين يَغْبِنُ أهلُ الجنة أهلَ النار، وذلك حين يأخذ المؤمن منزل الكافر في الجنة، ويعطيه منزله في النار، وتوضيح ذلك أن الله خلق لكلِّ عبد منزلين، منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فمن آمن فقد فاز بالجنة، ونجا من النار، ومن كفر فقد فاتته الجنة وفاز بالنار، فإذا كان يوم القيامة أَعطى المؤمنُ الكافرَ منزلَه في النار، وأخذ منزلَه في الجنة، وذلك هو التغابن الكبير.
    وقوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" فيه أن النجاة إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، والإيمان معروف، أما العمل الصالح فلا بد أن يكون خالصًا لله، وموافقًا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون مقبولاً، فمن آمن وعمل صالحًا فإنّ الله يكفّر عنه سيئاته، فلا يُجْزَى بها، بل يُجْزَى بحسناته، كما قال - تعالى -: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" {العنكبوت: 7}.
    وقوله - تعالى -: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير" واضح المعنى.
    ولما كانت الدنيا دار البلاء والمحن والشدائد والمصائب، أرشد اللهُ عباده إلى ما يستعينون به على هذه المصائب وهو الإيمان بأنها بقضاء الله، فقال - تعالى -: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم كما قال - تعالى - في سورة الحديد: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" {الحديد: 22، 23}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله، ومن يؤمن بالله فيعلم أن ما أصابه فبقضاء الله، فيصبر ويحتسب ويستسلم لقضاء الله، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيءٍ لم يضروه إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليه، من يؤمن بهذا يهد قلبه اللهُ - تعالى -، ويرزقْه السكينة والطمأنينة، فلا يجد حرَّ المصيبة، بل تكون على قلبه بردًا وسلامًا، فيكون أمره كله له خيرًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له". فوطِّن نفسك يا عبد الله على الرضا بقضاء الله، وإذا أصابتك مصيبة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون {البقرة: 156}، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها. ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين {الأعراف: 126}، فإنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن يتصبّر يصبرّه الله، وما أُعطي أحدُ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".
    وفي قوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه من الفوائد غير ما ذكرنا أن الإيمان من أسباب زيادة الهداية، كما قال - تعالى -: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" {محمد: 17} بينما أهل الزيغ والضلال يُزيغ اللهُ قلوبهم، كما قال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين" {الصف: 5}.
    وقوله - تعالى -: "والله بكل شيء عليم": أي: لا تخفى عليه خافيةٌ، وأنه - سبحانه - قد أحاطَ بكل شيء علمًا، كما قال - تعالى -: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين" {يونس: 61}، والآيات في ذلك كثيرة.
    وقوله - تعالى -: "وأطيعوا الله والرسول" فإن الفوز والنجاة في طاعة الله ورسوله، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين يعني: وقد أداه، فليس عليه من أوزاركم شيء.
    وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ التغابن -4 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13) يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15)
    تفسير الآيات:
    قوله - تعالى -: الله لا إله إلا هو خبرٌ متضمن الأمر بالتوحيد، ومعنى الله لا إله إلا هو أي: لا معبود بحق إلا الله: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه {الطلاق: 3}، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال- يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحيّ عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي": ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم {الممتحنة: 4} آمين.
    يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، فليس كل الأولاد والأزواج أعداء، ولكن منهم أعداء، فخذوا حذركم، لا يشغلوكم عن ذكر الله، ولا يحضوكم على معصيته، كما قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون {المنافقون: 9}. ولما أمر الله بالحذر من الأزواج والأولاد أرشد إلى العفْو والصفح لما يكون منهم من زلات، فقال: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
    عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعَوهُم، فلما أَتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
    ثم كرر الله - تعالى - التحذير فقال: إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي: اختبار من الله - تعالى - وابتلاء لخلقه: ليبلوكم أيكم أحسن عملا وليعلم من يطيعه ومن يعصيه.
    عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجاء الحسنُ والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمرانِ يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما".
    وختام الآية: والله عنده أجر عظيم يُشعر بأن ما عند الله من الأجر والثواب خيرٌ من الأموال والأولاد، كما قال - تعالى -: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا {الكهف: 46}، وكما قال - تعالى -: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب، ثم قال - تعالى -: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد.
    وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ التغابن -5 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم {التغابن: 13- 18}.
    وقوله - تعالى -: فاتقوا الله ما استطعتم أي: جهدكم وطاقتكم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية ناسخةٌ للتي في "آل عمران"، وهي قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، والراجح أنها ليست ناسخةً، ولكنها مفسرة، فمن اتقى الله قدر جُهده وطاقته فقد اتقى الله حق تقاته، وهكذا تختلف التقوى مِن واحدٍ لآخر، حسب جهدِ كلٍّ وطاقته. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في حقّ التقوى: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وقوله - تعالى -: واسمعوا وأطيعوا أي: كونوا منقادين لما يأمركم به الله ورسوله، اسمعوا وعوا واعملوا، وكونوا كما وصف الله عباده المؤمنين: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، كونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الخطب كثيرة، والمواعظ كثيرة، والدروس كثيرة، ولكن العمل قليل، والسببُ أن كثيرًا من الناس يسمعون للثقافة، يسمعون للتسلية، وليست عندهم نية العمل، والواجب على من يسمع أن يعمل، وإلا كان ما يسمعه من العلم حجةً عليه.
    فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا إن أنتم أنفقتم، ف أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن الشح داءٌ خطير، وشرٌّ مستطير، لا يجتمع والإيمان في قلب عبد أبدًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا". ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من الشح فيقول: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
    لهذا كله قال - تعالى -: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ولذا كان السلف حريصين على السلامة من الشح، حتى قال أبو الهياج الأسدي: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلتُ له، فقال: إني إذا وُقِيتُ شح نفسي لم أسرق ولم أزْن ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. نسأل الله أن يقينا شح أنفسنا.
    ثم تعود الآيات فتحثّ على الإنفاق في سبيل الله بطريقة أخرى، فتسمي الإنفاق قرضًا، وتعد بتضعيفه، فتقول: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم أضعافًا كثيرة، بينتها آية البقرة، وهي قوله - تعالى -: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، ففي تسمية الله الإنفاق قرضًا حث للعباد على الإنفاق، وترغيب لهم فيه، فإن هذا المال الذي ينفقونه قرضٌ مردود بخلاف الصدقة، والذي يعد بالوفاء الله - سبحانه -، ومن أوفى بعهده من الله. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، أو يسألني فأعطيه، ثم يقول: من يُقْرض غير عديم أو ظلوم". ومع الوعد بالتضعيف وعد آخر، وهو يغفر لكم ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، والله شكور، يجزي على القليل بالكثير، وهو - سبحانه - "حليم" يعفو ويغفر، ويتجاوز ويستر، ويمهل ولا يعجل، كما قال وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد.
    والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    ● [ سورة الحاقة ] ●
    [ الحاقة -1 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27) ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32)" {الحاقة: 13- 33}.
    يقول - تعالى - مخبرًا عن أهوال يوم القيامة: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، الصور خَلْقٌ عظيمٌ مثلُ البوق، وقد ذُكِرَ في القرآن الكريم، وثبت في السنة أن الله قد وكل به ملكًا من الملائكة المقربين وهو إسرافيل - عليه السلام -، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أخذ أهبة الاستعداد للنفخ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنعم وقد التقم صاحبُ القرْن القرنَ، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يُؤمَرَ فينفخ؟ " فكأنّ ذلك ثَقُلَ على أصحابه، فقالوا: فكيف نفعلُ يا رسول الله أو نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا". {صحيح. رواه الترمذي: 2548-42-4}.
    والنفخ مرتان: نفخة الإماتة، ونفخة الإحياء، قال - تعالى -: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" {الزمر}، وبين النفختين أربعون، كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين النفختين أربعون" قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيْت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت". {متفق عليه}.
    فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وهي نفخة الفزع والإماتة حصل بها تغير عظيمٌ في الكون كله، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة أي: قامت القيامة، والواقعة ثالث اسمٍ من الأسماء التي أطلقت على يوم القيامة في هذه السورة، فقد سبق تسميته بالحاقة والقارعة، ثم أطلق عليه هنا الواقعة لتحقّق كونه ووجوده، وانشقت السماء بسبب النفخ فهي يومئذ واهية أي ضعيفة بعد شدّتها، كما قال - تعالى -: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا {المزمل: 17، 18}، فإذا السماء انفطرت وانشقت، بسبب هذه النفخة، فكيف بكم أنتم معشر الناس؟!
    وقوله - تعالى -: "والملك على أرجائها" يعني: إذا انشقت السماء قامت الملائكة على حافاتها، يردّون الشارد، ويدفعون الهارب، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية من الملائكة، وقد حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظمة خلقهم فقال: "أُذِن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام". {صحيح. رواه أبو داود: 4701، 36-13}. وقوله - تعالى -: "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية" أي: تعرضون على الملك الكبير المتعال، كما قال - تعالى -: "وعرضوا على ربك صفا" {الكهف: 48}، "لا تخفى منكم خافية"، فالكل مكشوفٌ، مكشوفُ الجسد، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجبُ الأسرار، وتتعرّى النفوس وتُعَرَّى الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من حَيْطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصًا أن يستره حتى عن نفسه، وما أقسى الفضيحة على الملأ وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكلّ خافية مكشوفةٌ لها في كلّ آن، ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حقّ الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض، فها هو ذا يشعر به كاملاً وهو مجرد في يوم القيامة، وكل شيء بارز في الكون كله، الأرض مدكوكةٌ مسوّاة لا تحجب شيئًا وراء نتوءٍ ولا بروز، والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئًا، والأجسام معرّاة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.
    فاللهم استرنا بسترك "يوم تبلى السرائر" {الطارق: 9}، فإذا عُرِض العبادُ على الله - سبحانه - كانوا فريقين: "فريق في الجنة وفريق في السعير" {الشورى: 7}،
    وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ الحاقة -2 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى "فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه" (19) "إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية"، والمراد بالكتاب كتاب الأعمال، ولكلِّ عبدٍ كتاب، كما قال - تعالى -: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" {الإسراء: 13، 14}، فلكلّ عبدٍ كتاب، فإذا حُشر العبادُ تطايرت هذه الكتب حتى يقع كلّ كتابٍ في يد صاحبه، فمنهم الآخذ بيمينه، وذلك الناجي، ومنهم من تُطْوَى شمالُه وراءَ ظهره فيأخذ بها، وذلك الشقي الهالك، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول لكلّ مَنْ لقيه: هاؤم اقرءوا كتابيه، وذلك لاعتقاده أنه ليس فيه ما يسوؤه، إني ظننت أني ملاق حسابيه أي كنتُ على يقين أنني محاسبٌ بعملي ومَجزيٌّ به، فاتقيت المحارم، واجتهدت في طاعة الله، فالظنّ هنا بمعنى اليقين، لأن الظنّ الذي هو بمعنى الشك لا يسمن ولا يغني من جوع، قال - تعالى -: "فهو في عيشة راضية" أي مرضية في جنة عالية أي رفيعةٌ قصورُها، حسانُ صورها، نعيمةٌ دورُها، دائمٌ حبورُها، قطوفها دانية كما قال - تعالى -: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان" {الرحمن: 54}، وقال - تعالى -: "ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا" {الإنسان: 14}، ومع هذا النعيم الحسّي فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم: "كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية" بمعنى "إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا" {الإنسان: 22}، والمراد بالأيام الخالية يعني الماضية، وهي أيام الدنيا، وهكذا يحدّثنا الله عن الدنيا ونحن مازلنا فيها، يحدثنا عنها بلفظ الماضي لأن زوالها قريب، وهو متحقق، فهو يحدثنا عنها وكأنها قد زالت فعلاً، وكأن أهل الجنة قد تبوأوا منازلهم فيها، وكأن أهل النار
    قد تبوأوا منازلهم فيها، حتى لا يطول بالإنسان أملٌ، فيقعده عن خير العمل. وقد أخرج البيهقي عن نافع قال: خرج ابنُ عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابٌ له، ووضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعي غنم، فسلم فقال ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأَصِبْ من هذه السُفرة، فقال له: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارّ الشديد سَمُومه، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إنّي والله أبادرُ أيامي الخالية. فقال له ابن عمر- وهو يريدُ أن يختبر ورعه-: فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها فتفطر عليها؟ فقال: إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: فما عسى سيّدك فاعلاً إذا فقدها فقلت أكلها الذئب؟ فولّى الراعي عنه، وهو رافعٌ إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يردد قول الراعي، وهو يقول: قال الراعي: فأين الله؟ فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب منه العلم.
    فيا عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
    عن صفوان بن محرز قال: كنتُ آخذًا بيد ابن عمرَ إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يُدْني المؤمنَ فيضعُ عليه كنفَه ويسترُه من الناس ويقرِّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفَ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين". وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    [ الحاقة -3 ]

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    "وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه، فما كان يظن يومًا أنه محاسب بأعماله، كما قال - تعالى -: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13)" إنه ظن أن لن يحور أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته، فلما رأى ما لم يحسب حسابه لم يجد إلا أن يتمنى الموت بعد أن كان الموت أكره إليه من كل شيء، فقال: يا ليتها كانت القاضية التي تنهي وجوده أصلاً فلا يعود بعدها شيئًا، ثم تحسّر على عدم انتفاعه بماله ولا جاهه، فقال: ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه، وهذه حقيقة طالما ذكّر بها القرآن الأثرياء والوجهاء، ولكنهم نسوها أو تناسوها، قال - تعالى -: "إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار" {آل عمران: 10}، وقال - تعالى -: "وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى {الليل: 18- 19}.
    وقال - تعالى -: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون" {سبأ: 37}.
    ومِن دعاء الخليل إبراهيم - عليه السلام -: "ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم" {الشعراء: 87- 89}.
    وأما قوله: "هلك عني سلطانيه" فقد يُراد بالسلطان الجاه، فيكون تحسُّرًا على عدم انتفاعه بجاهه في هذا اليوم العصيب، وهذه أيضًا حقيقة طالما نبه عليها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلقد كان يهلل بعد الصلاة بهذه الكلمات: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". {متفق عليه}.
    والجدّ هو الحظّ والغنى والعظمة والسلطان، أي: لا ينفع ذا الحظّ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظّه، أي: لا ينجيه حظّه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح.
    وقد يرادُ بالسلطان الحجةُ والبرهان فيكون المعنى: هلك عني سلطانيه أي: بطلت حجتي، وضاع برهاني، وثبت خطئي، كما قال - تعالى -: "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد"، وبينما تنطلق منه هذه الحسرات في أسى وحزن إذ قرع سمعَه صوتُ الجبار - سبحانه - وهو يقول لملائكته: "خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه"، وما إن يقول الجبّار خذوه حتى يبتدره سبعون ألف ملك، الملك منهم يقول هكذا فيلقى سبعين ألفًا في النار، فيجعلون الأغلال في عنقه، ثم يسلكونه في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعًا- وكان ذراعٌ واحدٌ يكفيه- فتسلك في دبره حتى تخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه، أجارنا الله وإخواننا المسلمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

    المواعظ الإيمانية [ 13 ] Fasel10

    كتاب : المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
    المؤلف : أمير بن محمد المدري
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    ( صلى الله عليه وسلم )
    المواعظ الإيمانية [ 13 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 9:33 pm