بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ المدينة المنورة
ذكر احتراق المسجد الشريف
ذكر بلاعات المسجد وستائر صحنه والسقايات
قال الحافظ محب الدين: وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة، عليها أرحاء لها صمائم من حجارة، وكان أبو البحتري وهب بن وهب القاضي والياً على المدينة لهارون الرشيد وكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وتسعين ومائة فوجد فيه سبعين خشبة فأصلحها، وكان ماء المطر إذا كثر في صحن المسجد يغشى قبلة المسجد، فجعل بين القبلة والصحن "لاصقاً حجاراً من المربعة" التي في غربي المسجد إلى المربعة التي في شرقيه التي تلي القبر المقدس تمنع الماء والحصب.
● وأما الستائر التي كانت في صحن المسجد:
فذلك أنه لما قدم أبو جعفر المنصور سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد، على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط، وجعلت في الطيقان، فكانت لا تزال العمد تسقط على الناس، فغيرها وأمر بستور أكثف من تلك الستور، وحبال تأتي من جدة تسمى القنبار وجعلت مشتبكة، فكانت تجعل على الناس كل جمعة، فلم تزل حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذراريع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمان هارون فأخذت هذه الأستار اليوم، ولم يكن يستر بها في زمان بني أمية. قال عفيف الدين المرجاني: ثم إنها تركت لما جدد الملك الناصر الرواقين. وعن حسن بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل مكة فتنشر على الرضراض في مؤخر المسجد ثم يخرج بها إلى مكة، وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنين وثلاثين ومائة. انتهى وأما الآن فلا يؤتى بها إلى المدينة وإنما يؤتى بها صحبة الركب المصري.
● وأما السقايات:
فقال محمد بن الحسن بن زبالة: كان في صحن المسجد تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك، وثلاث لزيد البربري مولى أمير المؤمنين، وسقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون الرشيد، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر. قال الحافظ محب الدين: وأما الآن فليس به سقاية إلا أن في وسطه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب، بها درج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها تأتي من العين الزرقاء، ولا يكون فيها الماء إلا في المواسم، بناها بعض أمراء الشام تسمى شامة. قال الشيخ جمال الدين: وكان يحصل بهذه البركة انتهاك لحرمة المسجد فسدت لذلك. قال الحافظ محب الدين: وعملت الجهة أم الخليفة الناصر لدين الله في مؤخر المسجد سنة تسعين وخمسمائة سقاية فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئراً، وفتحت لها باباً إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في الموسم.
ذكر احتراق المسجد الشريف
واحترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وستمائة، بعد خروج نار الحرة الآتي ذكرها في السنة نفسها، فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر في الشهر المذكور، فواصل الصاع والآله في صحبة حجاج العراق وابتدئ فيه بالعمارة من أول سنة خمس وخمسين وستمائة، واستولى الحريق على جميع سقوفه حتى لم يبق فيه خشبة واحدة، وبقيت السواري قائمة وذاب رصاص بعضها فسقطت، واحترق سقف الحجرة المقدسة، وأنشد بعضهم في ذلك:
لم يحترق حرم النبي لحـادث * يخشى عليه ولا دهـاه الـعـار
لكنها أيدي الروافض لامست * ذاك الجناب فطـهـرتـه الـنـار
وقصة هذه النازلة على ما نقله ابن أبي شامة والمطري وغيرهما: وذلك أنه لما كانت الليلة ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلازل رجفت منها المدينة والحيطان ساعة بعد ساعة، وكان بين اليوم والليلة أربعة عشر زلزلة، واضطرب المنبر إلى أن سمع منه صوت الحديد، واضطربت قناديل المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير، وتمت الزلازل إلى يوم الجمعة ضحى ثم انبجست الأرض بنار عظيمة في واد يقال له: أخيلين بينه وبين المدينة نصف يوم، ثم انبجست من رأسه في الحرة الشرقية من وراء قريظة على طريق الشوارقية بالمقاعد، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، وللنار ألسن محمرة صاعدة في الهواء، وبقي الناس في مثل ضور القمر، وصارت النار قدر المدينة العظيمة، وما ظهرت إلا ليلة السبت، وكان اشتعالها أكثر من ثلاث منائر وهي ترمي بشرر كالقصر، وشررها صخر كالجمال، وسال من هذه النار واد يكون مقداره خمسة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهو يجري على وجه الأرض، ويخرج منه أمهاد وحبال يسير على وجه الأرض، وهو صخر يذوب حتى يصير كالآنك، فإذا جمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، وسالت من أخيلين نار تنحدر مع الوادي إلى الشظاة، والحجارة تسير معها حتى عادت تقارب حرة العريض، ثم وقعت أياماً تخرج من النار ألسن ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى نبت لها جبل، ولها كل يوم صوت من آخر النهار ورؤي ضوء هذه النار من مكة ومن الينبع، ولا يرى الشمس والقمر من يوم ظهور النار إلا كاسفين. قال ابن أبي شامة: ظهر عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نور الشمس على الحيطان، وكلنا حيارى من ذلك ما هو حتى أتى خبر النار.
قال المطري: سارت النار من مخرجها الأول إلى جهة الشمال ثلاثة أشهر تدب كدبيب النمل، تأكل كلما دبت عليه من جبل أو حجر ولا تأكل الشجر، فتثير كل ما مرت عليه فيصير سداً لا مسلك فيه لإنسان إلى منتهى الحرة من جهة الشمال، فقطعت في وسط وادي الشظاة إلى جبل وغيره، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم بالحجر المسبوك بالنار، كسد ذي القرنين، لا يصفه إلا من رآه طولاً وعرضاً وارتفاعاً وانقطع وادي الشظاة بسببه، وصار السيل منحبس خلف السد وهو واد عظيم، فيجتمع خلفه المياه حتى يصير بحراً كنيل مصر عند زيادته قال رحمه الله تعالى: شاهدته كذلك في شهر رجب من سنة تسع وعشرين وسبعمائة، قال: وأخبرني علم الدين سحر المغربي، من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة بن القاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، قال: أرسلني مولاي الأمير المذكور بعد ظهور النار بأيام ومعي شخص من العرب يسمى خطيب بن منان وقال لنا: اقربا من هذه النار وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها? فخرجنا إلى أن قربنا منها فلم نجد لها حراً، فنزلت عن فرسي وسرت إلى أن وصلت إليها وهي تأكل الصخر، ومددت يدي إليها بسهم فغرق النصل ولم يحترق واحترق الريش. انتهى. قال عفيف الدين المرجاني: انظر إلى عظم لطف الباري تعالى بعباده إذ سخرها بلا حرارة، إذ لو كانت كنارنا لأحرقت من مدى البعد، فناهيك بقربها وعظمها، ولكنها ليست بأول مكارمه صلى الله عليه وسلم وامتنان خالقها عز وجل إذ خمد حرها، وجعل سيرها تهويداً لا تنفيثاً، حفظاً لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته، ورفقاً بعباده ولطفاً بهم: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير". وقد ظهر بظهورها معجزات بان بها آيات وأسرار بديعة وعنايات ربانية منيعة، ففي انطماس نورها فكرة، وسببه عدم حرها، وفي عدم حرها عبرة، وسببه خفة سيرها، وفي استرسال دبيبها قدرة وسببه عدم أكلها، وفي عدم أكلها حرمة، وسببه لا يعضد نبتها. قال الشيخ جمال الدين: وأخبرتني بعض من أدركتنا من النساء إنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت.
قال رحمه الله: وظهر بظهورها معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ". فكانت هي إذا لم يظهر قبلها ولا بعدها، ثم قال رحمه الله: وظهر لي أنه في معنى أنها كانت تأكل الحجر ولا تأكل الشجر، إن ذلك لتحريم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شجر المدينة فمنعت من أكله؛ لوجوب طاعته، وهذا من أوضح معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقدم إلى المدينة الشريفة في جمادى الآخرة من السنة المذكورة نجابة من العراق، وأخبروا أن بغداد أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوارها إلى البلد، وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير، واشرف الناس على الهلاك وتخرقت أزقة بغداد، ودخلت السفن وسط البلدان، وفي تلك السنة احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان المعظم. قال الشيخ جمال الدين: وانخرق السد من تحته في سنة تسعين وستمائة؛ لتكاثر الماء من خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنة كاملة سيلاً يملأ ما بين جانبي الوادي، ثم سنة أخرى دون ذلك، ثم انخرق في العشر الأول بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر أمطار عظيمة، وعلا الماء من جانبي السد من دونه مما يلي جبل أو غيره، فجاء السيل طام لا يوصف، ومجراه على مشهد حمزة رضي الله عنه وحفروا وادياً آخر قبلي الوادي ومشهد حمزة وقبلي جبل عنين، وبقي المشهد وجبل عنين في وسط السيل أربعة أشهر، ولو زاد الماء مقدار ذراع وصل إلى المدينة الشريفة. قال رحمه الله تعالى: وكنا نقف خارج باب البقيع على التل الذي هناك فنراه ونسمع خريره، ثم استقر في الوادي بين القبلي الذي أحدثته النار والشمالي قريباً من سنة، وكشف عن عين قديمة قبل الوادي، فجددها الأمير ودي بن جماز أمير المدينة الشريفة في ولايته. انتهى.
رجعنا إلى المقصود قال الشيخ جمال الدين: ولما ابتدأوا بالعمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور المقدسة فلم يجسروا، ورأوا من الرأي أن يطالعوا الإمام المستعصم في ذلك، وكتبوا له فلم يصل إليهم حول، وحصل للخليفة المذكور شغل باستيلاء التتار على بلادهم تلك السنة، فتركوا الردم وأعادوا سقفاً فوقه على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة، فإن الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه السواري التي حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ به السقف الأعلى، بل جعلوا فوق الحوائط وبين السواري إلى السقف شباكاً من خشب يظهر لمن تأمله من تحت الكسوة على دوران الحائط جميعه؛ لأنه أعيد بعد الاحتراق على ما كان عليه قبل ذلك، وسقفوا في هذه السنة وهي سنة خمس وخمسين الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل عليه السلام ومن جهة الغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر المنيف، ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان في المحرم ومنها واقعة بغداد وقتل الخليفة المذكور، ووصلت الآلة من مصر، وكان المتولى لها تلك السنة الملك المنصور علي بن الملك العزيز بن أبيك الصالحي، فأرسل الآلت والأخشاب فعملوا إلى باب السلام، ثم عزل صاحب مصر المذكور، وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، واسمه الحقيقي محمد بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه، وقع عليه السبي عند غلبة التتار فبيع بدمشق ثم انتقل بالبيع إلى مصر وتملك في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وفي شهر رمضان من السنة المذكورة كانت وقعة عين جالوت على يده، ثم قتل بعد الوقعة بشهر وهو داخل إلى مصر، وكان العمل في المسجد الشريف تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديماً بباب عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، كانت لها دار تقابل الباب فنسب لها كما نسب باب عثمان وباب مروان، ومن باب جبريل إلى باب النساء المعروف قديماً بباب ريطة بنت أبي العباس السفاح، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي المعروف بالبندقداري، فعمل
في أيامه باقي المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمالي المسجد ثم إلى باب النساء، وكمل سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفاً فوق سقف، ولم يزل على ذلك حتى جددوا السقف الشرقي والسقف الغربي في سنتي خمس وست وسبعمائة في أول دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فجعلا سقفاً واحداً يشبه السقف الشمالي فإنه جعل في عمارة الملك الظاهر كذلك.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
قال الحافظ محب الدين: وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة، عليها أرحاء لها صمائم من حجارة، وكان أبو البحتري وهب بن وهب القاضي والياً على المدينة لهارون الرشيد وكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وتسعين ومائة فوجد فيه سبعين خشبة فأصلحها، وكان ماء المطر إذا كثر في صحن المسجد يغشى قبلة المسجد، فجعل بين القبلة والصحن "لاصقاً حجاراً من المربعة" التي في غربي المسجد إلى المربعة التي في شرقيه التي تلي القبر المقدس تمنع الماء والحصب.
● وأما الستائر التي كانت في صحن المسجد:
فذلك أنه لما قدم أبو جعفر المنصور سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد، على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط، وجعلت في الطيقان، فكانت لا تزال العمد تسقط على الناس، فغيرها وأمر بستور أكثف من تلك الستور، وحبال تأتي من جدة تسمى القنبار وجعلت مشتبكة، فكانت تجعل على الناس كل جمعة، فلم تزل حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذراريع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمان هارون فأخذت هذه الأستار اليوم، ولم يكن يستر بها في زمان بني أمية. قال عفيف الدين المرجاني: ثم إنها تركت لما جدد الملك الناصر الرواقين. وعن حسن بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل مكة فتنشر على الرضراض في مؤخر المسجد ثم يخرج بها إلى مكة، وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنين وثلاثين ومائة. انتهى وأما الآن فلا يؤتى بها إلى المدينة وإنما يؤتى بها صحبة الركب المصري.
● وأما السقايات:
فقال محمد بن الحسن بن زبالة: كان في صحن المسجد تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك، وثلاث لزيد البربري مولى أمير المؤمنين، وسقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون الرشيد، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر. قال الحافظ محب الدين: وأما الآن فليس به سقاية إلا أن في وسطه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب، بها درج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها تأتي من العين الزرقاء، ولا يكون فيها الماء إلا في المواسم، بناها بعض أمراء الشام تسمى شامة. قال الشيخ جمال الدين: وكان يحصل بهذه البركة انتهاك لحرمة المسجد فسدت لذلك. قال الحافظ محب الدين: وعملت الجهة أم الخليفة الناصر لدين الله في مؤخر المسجد سنة تسعين وخمسمائة سقاية فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئراً، وفتحت لها باباً إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في الموسم.
ذكر احتراق المسجد الشريف
واحترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وستمائة، بعد خروج نار الحرة الآتي ذكرها في السنة نفسها، فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر في الشهر المذكور، فواصل الصاع والآله في صحبة حجاج العراق وابتدئ فيه بالعمارة من أول سنة خمس وخمسين وستمائة، واستولى الحريق على جميع سقوفه حتى لم يبق فيه خشبة واحدة، وبقيت السواري قائمة وذاب رصاص بعضها فسقطت، واحترق سقف الحجرة المقدسة، وأنشد بعضهم في ذلك:
لم يحترق حرم النبي لحـادث * يخشى عليه ولا دهـاه الـعـار
لكنها أيدي الروافض لامست * ذاك الجناب فطـهـرتـه الـنـار
وقصة هذه النازلة على ما نقله ابن أبي شامة والمطري وغيرهما: وذلك أنه لما كانت الليلة ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلازل رجفت منها المدينة والحيطان ساعة بعد ساعة، وكان بين اليوم والليلة أربعة عشر زلزلة، واضطرب المنبر إلى أن سمع منه صوت الحديد، واضطربت قناديل المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير، وتمت الزلازل إلى يوم الجمعة ضحى ثم انبجست الأرض بنار عظيمة في واد يقال له: أخيلين بينه وبين المدينة نصف يوم، ثم انبجست من رأسه في الحرة الشرقية من وراء قريظة على طريق الشوارقية بالمقاعد، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، وللنار ألسن محمرة صاعدة في الهواء، وبقي الناس في مثل ضور القمر، وصارت النار قدر المدينة العظيمة، وما ظهرت إلا ليلة السبت، وكان اشتعالها أكثر من ثلاث منائر وهي ترمي بشرر كالقصر، وشررها صخر كالجمال، وسال من هذه النار واد يكون مقداره خمسة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهو يجري على وجه الأرض، ويخرج منه أمهاد وحبال يسير على وجه الأرض، وهو صخر يذوب حتى يصير كالآنك، فإذا جمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، وسالت من أخيلين نار تنحدر مع الوادي إلى الشظاة، والحجارة تسير معها حتى عادت تقارب حرة العريض، ثم وقعت أياماً تخرج من النار ألسن ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى نبت لها جبل، ولها كل يوم صوت من آخر النهار ورؤي ضوء هذه النار من مكة ومن الينبع، ولا يرى الشمس والقمر من يوم ظهور النار إلا كاسفين. قال ابن أبي شامة: ظهر عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نور الشمس على الحيطان، وكلنا حيارى من ذلك ما هو حتى أتى خبر النار.
قال المطري: سارت النار من مخرجها الأول إلى جهة الشمال ثلاثة أشهر تدب كدبيب النمل، تأكل كلما دبت عليه من جبل أو حجر ولا تأكل الشجر، فتثير كل ما مرت عليه فيصير سداً لا مسلك فيه لإنسان إلى منتهى الحرة من جهة الشمال، فقطعت في وسط وادي الشظاة إلى جبل وغيره، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم بالحجر المسبوك بالنار، كسد ذي القرنين، لا يصفه إلا من رآه طولاً وعرضاً وارتفاعاً وانقطع وادي الشظاة بسببه، وصار السيل منحبس خلف السد وهو واد عظيم، فيجتمع خلفه المياه حتى يصير بحراً كنيل مصر عند زيادته قال رحمه الله تعالى: شاهدته كذلك في شهر رجب من سنة تسع وعشرين وسبعمائة، قال: وأخبرني علم الدين سحر المغربي، من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة بن القاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، قال: أرسلني مولاي الأمير المذكور بعد ظهور النار بأيام ومعي شخص من العرب يسمى خطيب بن منان وقال لنا: اقربا من هذه النار وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها? فخرجنا إلى أن قربنا منها فلم نجد لها حراً، فنزلت عن فرسي وسرت إلى أن وصلت إليها وهي تأكل الصخر، ومددت يدي إليها بسهم فغرق النصل ولم يحترق واحترق الريش. انتهى. قال عفيف الدين المرجاني: انظر إلى عظم لطف الباري تعالى بعباده إذ سخرها بلا حرارة، إذ لو كانت كنارنا لأحرقت من مدى البعد، فناهيك بقربها وعظمها، ولكنها ليست بأول مكارمه صلى الله عليه وسلم وامتنان خالقها عز وجل إذ خمد حرها، وجعل سيرها تهويداً لا تنفيثاً، حفظاً لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته، ورفقاً بعباده ولطفاً بهم: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير". وقد ظهر بظهورها معجزات بان بها آيات وأسرار بديعة وعنايات ربانية منيعة، ففي انطماس نورها فكرة، وسببه عدم حرها، وفي عدم حرها عبرة، وسببه خفة سيرها، وفي استرسال دبيبها قدرة وسببه عدم أكلها، وفي عدم أكلها حرمة، وسببه لا يعضد نبتها. قال الشيخ جمال الدين: وأخبرتني بعض من أدركتنا من النساء إنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت.
قال رحمه الله: وظهر بظهورها معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ". فكانت هي إذا لم يظهر قبلها ولا بعدها، ثم قال رحمه الله: وظهر لي أنه في معنى أنها كانت تأكل الحجر ولا تأكل الشجر، إن ذلك لتحريم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شجر المدينة فمنعت من أكله؛ لوجوب طاعته، وهذا من أوضح معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقدم إلى المدينة الشريفة في جمادى الآخرة من السنة المذكورة نجابة من العراق، وأخبروا أن بغداد أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوارها إلى البلد، وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير، واشرف الناس على الهلاك وتخرقت أزقة بغداد، ودخلت السفن وسط البلدان، وفي تلك السنة احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان المعظم. قال الشيخ جمال الدين: وانخرق السد من تحته في سنة تسعين وستمائة؛ لتكاثر الماء من خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنة كاملة سيلاً يملأ ما بين جانبي الوادي، ثم سنة أخرى دون ذلك، ثم انخرق في العشر الأول بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر أمطار عظيمة، وعلا الماء من جانبي السد من دونه مما يلي جبل أو غيره، فجاء السيل طام لا يوصف، ومجراه على مشهد حمزة رضي الله عنه وحفروا وادياً آخر قبلي الوادي ومشهد حمزة وقبلي جبل عنين، وبقي المشهد وجبل عنين في وسط السيل أربعة أشهر، ولو زاد الماء مقدار ذراع وصل إلى المدينة الشريفة. قال رحمه الله تعالى: وكنا نقف خارج باب البقيع على التل الذي هناك فنراه ونسمع خريره، ثم استقر في الوادي بين القبلي الذي أحدثته النار والشمالي قريباً من سنة، وكشف عن عين قديمة قبل الوادي، فجددها الأمير ودي بن جماز أمير المدينة الشريفة في ولايته. انتهى.
رجعنا إلى المقصود قال الشيخ جمال الدين: ولما ابتدأوا بالعمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور المقدسة فلم يجسروا، ورأوا من الرأي أن يطالعوا الإمام المستعصم في ذلك، وكتبوا له فلم يصل إليهم حول، وحصل للخليفة المذكور شغل باستيلاء التتار على بلادهم تلك السنة، فتركوا الردم وأعادوا سقفاً فوقه على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة، فإن الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه السواري التي حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ به السقف الأعلى، بل جعلوا فوق الحوائط وبين السواري إلى السقف شباكاً من خشب يظهر لمن تأمله من تحت الكسوة على دوران الحائط جميعه؛ لأنه أعيد بعد الاحتراق على ما كان عليه قبل ذلك، وسقفوا في هذه السنة وهي سنة خمس وخمسين الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل عليه السلام ومن جهة الغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر المنيف، ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان في المحرم ومنها واقعة بغداد وقتل الخليفة المذكور، ووصلت الآلة من مصر، وكان المتولى لها تلك السنة الملك المنصور علي بن الملك العزيز بن أبيك الصالحي، فأرسل الآلت والأخشاب فعملوا إلى باب السلام، ثم عزل صاحب مصر المذكور، وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، واسمه الحقيقي محمد بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه، وقع عليه السبي عند غلبة التتار فبيع بدمشق ثم انتقل بالبيع إلى مصر وتملك في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وفي شهر رمضان من السنة المذكورة كانت وقعة عين جالوت على يده، ثم قتل بعد الوقعة بشهر وهو داخل إلى مصر، وكان العمل في المسجد الشريف تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديماً بباب عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، كانت لها دار تقابل الباب فنسب لها كما نسب باب عثمان وباب مروان، ومن باب جبريل إلى باب النساء المعروف قديماً بباب ريطة بنت أبي العباس السفاح، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي المعروف بالبندقداري، فعمل
في أيامه باقي المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمالي المسجد ثم إلى باب النساء، وكمل سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفاً فوق سقف، ولم يزل على ذلك حتى جددوا السقف الشرقي والسقف الغربي في سنتي خمس وست وسبعمائة في أول دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فجعلا سقفاً واحداً يشبه السقف الشمالي فإنه جعل في عمارة الملك الظاهر كذلك.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء