2 مشترك
ذكر أيام العرب في الجاهلية [ 3 ]
الرسالة- عدد المساهمات : 223
تاريخ التسجيل : 02/03/2014
- مساهمة رقم 1
ذكر أيام العرب في الجاهلية [ 3 ]
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
وأما يوم الكلاب الثاني : فإن رجلاً من بني قيس بن ثعلبة قدم أرض نجران على بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، فسألوه عن الناس خلفه فحدثهم أنه أصفق على بني تميم باب المشقر وقتلت المقاتلة وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها. فاجتمعت بنو الحارث من مذحج، وأحلافها من نهد وجرم بن ربان، فاجتمعوا في عسكر عظيم بلغوا ثمانية آلاف، ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة، وساروا يريدون بني تميم، فحذرهم كاهن كان مع بني الحارث واسمه سلمة بن المغفل وقال: إنكم تسيرون أعياناً، وتغزون أحياناً، سعداً ورياناً، وتردون مياهها جياباً، فتلقون عليها ضراباً، وتكون غنيمتكم تراباً، فأطيعوا أمري ولا تغزوا تميماً. فعصوه وساروا إلى عروة، فبلغ الخبر تميماً فاجتمع ذوو الرأي منهم إلى أكثر بن صيفي، وله يومئذ مائة وتسعون سنة، فقالوا له: يا أبا جيدة حقق هذا الأمر فإنا قد رضيناك رئيساً. فقال لهم:
وهو يوم بين طيء وأسد بن خزيمة
وكان من حديثه أن اللهازم تجمعت، وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعها عجل بن لجيم وعنزة ابن أسد بن ربيعة بن نزار لتغير على بني تميم وهم غارون. فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري، وكان أسيراً في قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رجلاً أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له:ترسله ونحن حضور ؟ قال: نعم. فأتوه بغلام مولد، فقال: أتيتموني بأحمق ؟! فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق ! فقال: إني أراك مجنوناً ! قال: والله ما بي جنون ! قال: أتعقل ؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: فالنيران أكثر أم الكواكب ؟ قال: الكواكب، وكلٌّ كثيرة، فملأ كفه رملاً وقال: كم في كفي ؟ قال: لا أدري فإنه لكثير. فأومأ إلى الشمس بيده وقال: ما تلك ؟ قال: الشمس. قال: ما أراك إلا عاقلاً، اذهب إلى قومي فأبلغهم السلام وقل لهم ليحسنوا إلى أسيرهم فإني عند قوم يحسنون إلي ويكرموني، وقل لهم فليعروا جملي الأحمر ويركبوا ناقتي العيسار بآية ما أكلنا منهم حيساً وليرعوا حاجتي في بني مالك، وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد اشتكت، وليعصوا همام بن بشامة فإنه مشؤوم مجدودٌ، وليطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون، واسألوا الحارث عن خبري.
وهو يوم بين تميم وعامر بن صعصعة. وكان سببه أنه التقى قعنب بن عتاب الرياحي وبحير بن عبد الله بن سلمة العامري بعكاظ، فقال بحير لقعنب: ما فعلت فرسك البيضاء ؟ قال: هي عندي، وماسؤالك عنها ؟ قال: لأنها نجتك مني يوم كذا وكذا، فأنكر قعنب ذلك وتلاعنا وتداعيا أن يجعل الله ميتة الكاذب بيد الصادق، فمكثا ما شاء الله. وجمع بحير بني عامر وسار بهم فأغار على بني العنبر بن عمرو بن تميم بإرم الكلبة وهم خلوفٌ، فاستاق السبي والنعم ولم يلق قتالاً شديداً، وأتى الصريخ بني العنبر بن عمرو بن تميم وبني مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني يربوع بن حنظلة، فركبوا في الطلب، فتقدمت عمرو ابن تميم. فلما انتهى بحير إلى المروت قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً عارضةً رماحها على كواهل خيلها. قال: هذه عمرو بن تميم وليست بشيء، فلحق بهم بنو عمرو فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير، ثم قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ناصبةً رماحها. قال: هذه مالك بن حنظلة وليست بشيء، فلحقوا فقاتلوا شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير وقال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ليست معها رماح وكأنما عليها الصبيان. قال: هذه يربوع رماحها بين آذان خيلها، إياكم والموت الزؤام، فاصبروا ولا أرى أن تنجوا.
وهو بين عامر بن صعصعة والحارث بن كعب، وكان خبره أن بني عامر كانت تطلب بني الحارث بن كعب بأوتارٍ كثيرة، فجمع لهم الحصين ابن يزيد بن شداد بن قنان الحارثي، وهو ذو الغصة، واستعان بجعفي وزبيد وقبائل سعد العشيرة ومراد وصداء ونهد وخثعم وشهران وناهس وأكلب ثم أقبلوا يريدون بني عامر وهم منتجعون مكاناً يقال له فيف الريح، ومع مذحج النساء والذراري حتى لا يفروا. فاجتمعت بنو عامر، فقال لهم عامر بن الطفيل: أغيروا بنا على القوم فإني أرجو أن نأخذ غنائمهم ونسبي نساءهم ولا تدعوهم يدخلون عليكم. فأجابوه إلى ذلك وساروا إليهم. فلما دنوا من بني الحارث ومذحج ومن معهم أخبرتهم عيونهم وعادت إليهم مشايخهم، فحذروا فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيام يغادونهم القتال بفيف الريح، فالتقى الصميل بن الأعور الكلابي وعمرو بن صبيح النهدي، فطعنه عمرو، فاعتنق الصميل فرسه وعاد، فلقيه رجل من خثعم فقتله وأخذ درعه وفرسه.
ويعرف أيضاً بقارات حوق
وهو يوم الصمد، ويوم أودٍ أيضاً، وهو بين بكر وتميم، وكان من حديثه أن عميرة بن طارق بن أرثم اليربوعي التميمي تزوج مرية بنت جابر العجلي أخت أبجر وسار غل عجل ليبتني بأهله. وكان له في بني تميم امرأة أخرى تعرف بابنة النطف من بني تميم، فأتى أبجر أخته يزورها وزوجها عندها. فقال لها أبجر: إني لأرجو أن آتيك بابنة النطف امرأة عميرة. فقال له: ما أراك تبقي علي حتى تسلبني أهلي. فندم أبجر وقال له: ما كنت لأغزو قومك ولكنني مستأسر في هذا الحي من تميم، وجمع أبجر والحوفزان بن شريك الشيباني، الحوفزان على شيبان وأبجر على اللهازم، ووكلا بعميرة من يحرسه لئلا يأتي قومه فينذرهم. فسار الجيش، فاحتال عميرة على الموكل بحفظه وهرب منه وجد السير إلى أن وصل إلى بني يربوع فقال لهم: قد غزاكم الجيش من بكر بن وائل، فأعلموا بني ثعلبة بطناً منهم، فأرسلوا طليعة منهم فبقوا ثلاثة أيام، ووصلت بكر فركبت يربوع والتقوا بذي طلوح. فركب عميرة ولقي أبجر فعرفه نفسه، والتقى القوم واقتتلوا فكان الظفر ليربوع. وانهزمت بكر وأسر الحوفزان وابنه شريك وابن عنمة الشاعر، وكان مع بني شيبان فافتكه متمم بن نويرة، وأسر أكثر الجيش البكري؛ وقال ابن عنمة يشكر متمماً:
قال أبو عبيدة: غزا عمرو بن عمرو بن عدس التميمي بني عبس فأخذ إبلهم واستاق سبيهم وعاد حتى إذا كان أسفل ثنية أقرن نزل وابتنى بجارية من السبي، ولحقه الطلب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل أنس الفوارس ابن زياد العبسي عمراً وابنه حنظلة واستردوا الغنيمة والسبي، فنعى جريرٌ على بني دارم ذلك فقال:
قال أبو عبيدة: كان بنو عامر بن صعصعة حمساً، والحمس قريش ومن له فيهم ولادة، والحمس متشددون في دينهم، وكانت عامر أيضاً لقاحاً لا يدينون للملوك. فلما ملك النعمان بن المنذر ملكه كسرى أبرويز، وكان يجهز كل عام لطيمة، وهي التجارة، لتباع بعكاظ، فعرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه. فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه، وهو وبرة بن رومانس الكلبي، وبعث إلى صنائعه ووضائعه، والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزيه، والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، فأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه حبيش ابن دلف، وكان فارساً شجاعاً، فاجتمعوا في جيش عظيم، فجهز النعمان معهم عيراً وأمرهم بتسييرها وقال لهم: إذا فرغتم من عكاظ وانسلخت الحرم ورجع كل قوم إلى بلادهم فاقصدوا بني عامر فإنهم قريب بنواحي السلان. فخرجوا وكتموا أمرهم وقالوا: خرجنا لئلا يعرض أحد للطيمة الملك.
وهو يوم التقى فيه بنو عامر بن صعصعة وبنو أسد بذي علق فاقتتلوا قتالاً عظيماً. قتل في المعركة ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العمري أبو لبيد الشاعر وانهزمت عامر، فتبعهم خالد بن نضلة الأسدي وابنه حبيب والحارث ابن خالد بن المضلل وأمعنوا في الطلب، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أبو براء عامر بن مالك من وراء ظهورهم في نفر من أصحابه، فقال لخالد: يا أبا معقل إن شئت أجزتنا وأجزناك حتى نحمل جرحانا وندفن قتلانا. قال: قد فعلت. فتواقفوا. فقال له أبو براء: عل علمت ما فعل ربيعة ؟ قال: نعم، تركته قتيلاً. قال: ومن قتله ؟ قال: ضربته أنا وأجهز عليه صامت بن الأفقم. فلما سمع أبو براء بقتل ربيعة حمل على خالد هو ومن معه، فمانعهم خالد وصاحباه وأخذوا سلاح حبيب بن خالد، ولحقهم بنو أسد فمنعوا أصحابهم وحموهم، فقال الجميح:
قال أبو عبيدة: غزت عامر بن صعصعة غطفان، ومع بني عامر يومئذ عامر بن الطفيل شاباً لم يرئس بعد، فبلغوا وادي الرقم، وبه بنو مرة بن عوف بن سعد ومعهم قوم من أشجع بن ذئب بن غطفان وناس من فزارة ابن ذبيان، فنذروا ببني عامر وهجمت عليهم بنو عامر بالرقم، وهو وادٍ بقرب تضرع، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأقبل عامر بن الطفيل فرأى امرأةً من فزارة فسألها. فقالت: أنا أسماء بنت نوفل الفزاري. وقيل: كانت أسماء بنت حصن بن حذيفة. فبينا عامر يسألها خرج عليه المنهزمون من قومه وبنو مرة في أعقابهم. فلما رأى ذلك عامر ألقى درعه إلى أسماء وولى منهزماً، فأدتها إليه بعد ذلك، وتبعتهم مرة وعليهم سنان بن حارثة بن أبي حارثة المري، وجعل الأشجعيون يذبحون كل من أسروه من بني عامر لوقعة كانت أوقعتها بهم بنو عامر، فذلك البطن من بني أشجع يسمون بني مذبح، فذبحوا سبعين رجلاً منهم، فقال عامر بن الطفيل يذكر غطفان ويعرض بأسماء:
قال أبو عبيدة: غزت بنو ذبيان بني عامر وهم بساحوق، وعلى ذبيان سنان بن أبي حارثة المري، وقد جهزهم وأعطاهم الخيل والإبل وزودهم، فأصابوا نعماً كثيرة وعادوا، فلحقتهم بنو عامر واقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزمت بنو عامر وأصيب منهم رجالٌ وركبوا الفلاة، فهلك أكثرهم عطشاً، وكان الحر شديداً، وجعلت ذبيان تدرك الرجل منهم فيقولون له: قف ولك نفسك وضع سلاحك، فيفعل. وكان يوماً عظيماً على عامر، وانهزم عامر ابن الطفيل وأخوه الحكم، ثم إن الحكم ضعف وخاف أن يؤسر فجعل في عنقه حبلا وصعد إلى شجرة وشده ودلى نفسه فاختنق، وفعل مثله رجلٌ من بني غني، فلما ألقى نفسه ندم فاضطرب، فأدركوه وخلصوه وعيروه يجزعه؛ وقال عروة بن الورد العبسي في ذلك:
كان المثلم بن المشجر العائذي ثم الضبي مجاوراً لبني عبس؛ فتقامر هو وعمارة بن زياد، وهو أحد الكملة، فقمره عمارة حتى اجتمع عليه عشرة أبكر، فطلب منه المثلم أ، يخلي عنه حتى يأتي أهله فيرسل إليه بالذي له، فأبى ذلك، فرهنه ابنه شرحاف بن المثلم، وخرج المثلم فأتى قومه فأخذ البكارة فأتى بها عمارة وافتكّ ابنه.
قال أبو عبيدة: خرجت بنو عامر تريد غطفان لتدرك بثأرها يوم الرق ويوم ساحوق، فصادفت بني عبس وليس معهم أحد من غطفان، وكانت عبس لم تشهد يوم الرقم ولا يوم ساحوق مع غطفان ولم يعينوهم على بني عامر، وقيل: بل شهدها أشجع وفزارة وغيرهما من بني غطفان، على ما نذكره. قال: وأغارت بنو عامر على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها وعادوا متوجهين إلى بلادهم فضلوا في الطريق فسلكوا وادي النباة فأمعنوا فيه ولا طريق لهم ولا مطلع حتى قاربوا آخره. وكان الجبلان يلتقيان إذا هم بامرأة من بني عبس تخبط الشجر لهم في قلة الجبل. فسألوها عن المطلع، فقالت لهم: الفوارس المطلع، وكانت قد رأت الخيل قد أقبلت وهي على الجبل، ولم يرها بنو عامر لأنهم في الوادي، فأرسلوا رجلاً إلى قلة الجبل ينظر، فقال لهم: أرى قوماً كأنهم الصبيان على متون الخيل، أسنة رماحهم عند آذان خيلهم. قالوا: تلك فزارة. قال: وأرى قوماً بيضاً جعاداً كأن عليهم ثياباً حمراً. قالوا: تلك أشجع. قال: وأرى قوماً نسوراً قد قلعوا خيولهم بسوادهم كأنما يحملونها حملاً بأفخاذهم آخذين بعوامل رماحهم يجرونها. قالوا: تلك عبس، أتاكم الموت الزؤام ! ولحقهم الطلب بالوادي، فكان عامر بن الطفيل أول من سبق على فرسه الورد ففات القوم، وأعيا فرسه الورد، وهو المربوق أيضاً، فعقره لئلا تفتحله فزارة، واقتتل الناس، ودام القتال بينهم، وانهزمت عامر فقتل منهم مقتلة كبيرة، قتل فيها من أشرافهم البراء بن عامر بن مالك، وبه يكنى أبوه، وقتل نهشل وأنس وهزان بنو مرة بن أنس بن خالد بن جعفر، وقتلوا عبد الله بن الطفيل أخا عامر، قتله الربيع بن زياد العبسي، وغيرهم كثير، وتمت الهزيمة على بني عامر.
قال أبو عبيدة: أغار المثنى بن حارثة الشيباني، وهو ابن أخت عمران ابن مرة، على بني تغلب، وهم عند الفرات، وذلك قبيل الإسلام، فظفر بهم فقتل من أخذ من مقاتلتهم وغرق منهم ناسٌ كثير في الفرات وأخذ أموالهم وقسمها بين أصحابه، فقال شاعرهم في ذلك:
قال المفضل الضبي: إن بني تغلب والنمر بن قاسط وناساً من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق، وهي من أرض السواد، وأرسلوا وفداً منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم وأرادوا قصد تغلب ومن معهم، فقال زيد بن شريك الشيباني: إني قد أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم تصب تغلب بمثلها واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم، قتل الرجال ونهب الأموال وسبي الحريم، فقال أبو كلبة الشيباني:
وهو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر. قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الرادفة، وهي بمنزلة الوزارة، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك، كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيراً عن كبير. فلما كان أيام النعمان، وقيل أيام ابنه المنذر، سألها حاجب ابن زرارة الدرامي التميمي النعمان أن يجعلها للحارث بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي، فقال النعمان لبني يربوع في هذا وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك، فامتنعوا، وكان منزلهم أسفل طخفة، فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحساناً أخاه ابني المنذر، قابوس على الناس، وحسان على المقدمة، وضم إليهما جيشاً كثيفاً، منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزم قابسو ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناضيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، فأرسله. وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله. فعاد المنهزمون إلى النعمان، وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك، فقال له: يا شهاب أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم وأرد عليهم ردافتهم وأترك لهم من قتلوا وما غنموا وأعطيهم ألفي بعير. فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما، ووفى الملك لبني يربوع بما قال ولم يعرض لهم في ردافتهم؛ وقال مالك ابن نويرة:
قال أبو عبيدة: غزا قيس بن عاصم المنقري ثم التميمي بمقاعس، وهم بطون من تميم، وهم صريم وربيع وعبيد بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، وغزا معه سلامة بن ظرب الحماني في الأحارث، وهم بطون من تميم أيضاً، وهم حمان وريعة ومالك والأعرج بنو كعب بن سعد، فغزوا بكر بن وائل، فوجدوا اللهازم، وهم بنو قيس وتيم اللات ابناء ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومعهم بنو ذهل ابن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بالنباج وثيتل، وبينهما روحةٌ، فأغار قيس على النياح، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباج، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباح سقى خيله ثم أراق ما معهم من الماء وقال لمن معه: قاتلوا فالموت بين أيديكم والفلاة من ورائكم، فأغار على من به من بكر صبحاً فقاتلوهم قتالاً شديداً وانهزمت بكر وأصيب من غنائمهم ما لا يحد كثرة. فلما فرغ قيس من النهب عاد مسرعاً إلى سلامة ومن معه نحو ثيتل فأدركهم، ولم يغز سلامة على من به، فأغار عليهم قيس أيضاً، فقاتلوه وانهزموا، وأصاب من الغنائم نحو ما أصاب بالنباج، وجاء سلامة فقال: أغرتم على من كان لي، فتنازعوا حتى كاد الشر يقع بينهم، ثم اتفقوا على تسليم الغنائم إليه؛ ففي ذلك يقول ربيعة بن طريف:
قال أبو عبيدة: هذا يوم لبكر بن وائل على تميم. وسببه أن جمعاً من بكر ساروا إلى الصعاب فشتوا بها، فلما انقضى الربيع انصرفوا فمروا بالدو فلقوا ناساً من بني تميم من بني عمرو وحنظلة، فأغاروا على نعمٍ كثير لهم ومضوا، وأتى بني عمرو وحنظلة الصريخ فاستجاشوا لقومهم فأقبلوا في آثار بكر بن وائل فساروا يومين وليلتين حتى جهدهم السير وانحدروا في بطن فلج، وكانوا قد خلفوا رجلين على فرسين سابقين ربيئة ليخبراهم بخبرهم إن ساروا إليهم. فلما وصلت تميم إلى الرجلين أجريا فرسيهما وسارا مجدين فأنذرا قومهما، فأتاهم الصريخ بمسير تميم عند وصولهم إلى فلج، فضرب حنظلة بن يسار العجلي قبته ونزل فنزل الناس معه وتهيأوا للقتال معه، ولحقت بنو تميم فقاتلتهم بكر بن وائل قتالاً شديداً، وحمل عرفجة بن بحير العجلي على خالد بن مالك بن سلمة التميمي فطعنه وأخذه أسيراً. وقتل في المعركة ربعي بن مالك بن سلمة، فانهزمت تمي وبلغت بكر بن وائل منها ما أرادت، ثم إن عرفجة أطلق خالد بن مالك وجز ناصيته، فقال خالد:
اسرة التحرير- Admin
- عدد المساهمات : 3695
تاريخ التسجيل : 23/01/2014
- مساهمة رقم 2
تابع ذكر أيام العرب في الجاهلية
● [ يوم الشيطين ] ●قال أبو عبيدة: كان الشيطان لبكر بن وائل، فلما ظهر الإسلام في نجد سارت بكر قبل السواد، وبقي مقايس بن عمرو العائذي بن عائذة من قريش حليف بني شيبان بالشيطين. فلما أقامت بكر في السواد لحقهم الوباء والطاعون الذي كان أيا كسرى شيرويه فعادوا هاربين فنزلوا لعلع، وهي مجدبة، وقد أخصب الشيطان، فسارت تميم فنزلوا بها، وبلغت أخبار خصب الشيطين إلى بكر، فاجتمعوا وقالوا: نغير على تميم، فإن في دين ابن عبد المطلب، يعنون النبي، أن من قتل نفساً قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها، فارتحلوا من لعلع بالذراري والأموال ورئيسهم بشر بن مسعود ابن قيس بن خالد فأتوا الشيطين في أربع ليال، والذي بينهما مسيره ثماني ليالٍ، فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم لا يشعرون فقاتلوهم قتالاً شديداً وصبرت تميم ثم انهزمت، فقال رشيد بن رميض العنبري يفخر بذلك:
وما كان بين الشيّطين ولعلعٍ ... لنسوتنا إلاّ مناقل أربع
فجئنا بجمعٍ لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوديعة يطلع
بأرعن دهمٍ تنسل البلق وسطه ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمع
صبحنا به سعداً وعمراً ومالكاً ... فظلّ لهم يومٌ من الشرّ أشنع
وذا حسبٍ من آل ضبّة غادروا ... بجريٍ كما يجري الفصيل المفزّع
تقصّع يربوعٌ بسرّة أرضنا ... وليس ليربوع بها متقصّع
ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى بكر بن وائل على ما بأيديهم.
الشيطان بالشين المعجمة، والياء المشددة المثناة من تحتها، وبالطاء المهملة، آخره نون.
● ● ● [ أيام الأنصار ] ● ● ●
وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهما
الأنصار لقب قبيلتي الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة. وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه، ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده، ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم ابن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق، وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم. فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام.
ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرع فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان ما نذكره إن شاء الله تعالى، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
● [ ذكر غلبة الأنصار على المدينة ] ●
وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون
قد ذكرنا أن الإستيلاء كان لليهود على المدينة لما نزلها الأنصار، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ملك عليهم الفطيون اليهودي، وهو من بني إسرائيل ثم من بني ثعلبة، وكان رجل سوء فاجراً، وكانت اليهود تدين له بأن لا تزوج امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها، وقيل: إنه كان يفعل ذلك بالأوس والخزرج أيضاً. ثم إن أختا لمالك بن العجلان السالمي الخزرجي تزوجت، فلما كان زفافها خرجت عن مجلس قومها وفيه أخوها مالك وقد كشفت عن ساقيها. فقال لها مالك: لقد جئت بسوء. قالت: الذي يراد بي الليلة أشد من هذا، أدخل على غير زوجي ! ثم عادت فدخل عليها أخوها فقال لها: هل عندك من خبر ؟ قالت: نعم، فما عندك ؟ قال: أدخل مع النساء فإذا خرجن ودخل عليك قتلته. قالت: افعل. فلما ذهب بها النساء إلى الفطيون انطلق مالك معهن في زي امرأة ومعه سيفه، فلما خرج النساء من عندها ودخل عليها الفطيون قتله مالك وخرج هارباً؛ فقال بعضهم في ذلك من أبيات:
هل كان للفطيون عقر نسائكم ... حكم النصيب فبئس حكم الحاكم
حتّى حباه مالك بمرشّةٍ ... حمراء تضحك عن نجيعٍ قاتم
ثم خرج مالك بن العجلان هارباً حتى دخل الشام فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم، وهو أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج، وكان قد ملكهم وشرف فيهم، وقيل: إنه لم يكن ملكاً وإنما كان عظيماً عند ملك غسان، وهو الصحيح، لأن ملوك غسان لم يعرف فيهم هذا، وهو أيضاً من الخزرج على ما ذكر.
فلما دخل عليه مالك شكا إليه ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع، فعاهد الله أبو جبيلة ألا يمس طيباً ولا يأتي النساء حتى يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها.
ثم سار من الشام في جمع كثير وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرضٍ، وأعلم الأوس والخزرج ما عزم عليه، ثم أرسل إلى وجوه اليهود يستدعيهم إليه وأظهر لهم أنه يريد الإحسان إليهم، فأتاه أشرافهم في حشمهم وخاصتهم. فلما اجتمعوا ببابه أمر بهم فأدخلوا رجلاً رجلاً وقتلهم عن آخرهم. فلما فعل بهم ذلك صارت الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فشاركوا اليهود في النخل والدور؛ ومدح الرمق بن زيد الخزرجي أبا جبيلة بقصيدة، منها:
وأبو جبيلة خير من ... يمشي وأوفاهم يمينا
وأبرّهم برّاً وأع ... ملهم بهدي الصالحينا
أبقت لنا الأيّام وال ... حرب المهمّة تعترينا
كبشاً له قرنٌ يع ... ضّ حسامه الذكر السّنينا
فقال أبو جبيلة: عسل طيب في وعاء سوء، وكان الرمق رجلاً ضئيلاً؛ فقال الرمق: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ورجع أبو جبيلة إلى الشام.
حرض بضم الحاء والراء المهملتين، وآخره ضاد معجمة.
● [ حرب سمير ] ●
ولم يزل الأنصار على حال اتفاق واجتماع، كان أول اختلاف وقع بينهم وحرب كانت لهم حرب سمير.
وكان سببها أن رجلاً من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان نزل على مالك بن العجلان السالمي فحالفه وأقام معه. فخرج كعب يوماً إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلاً من غطفان معه فرسه وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب. فقال رجل: فلان. وقال رجل آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي. وقال غيرهما: فلان بن فلان اليهودي أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكاً أفضلكم ؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير وشتمه وافترقا، وبقي كعب ما شاء الله.
ثم قصد سوقاً لهم قبا فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله. وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميراً وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها. وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف، وهي النصف. ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً وافترقوا. ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر يومئذ للأوس.
فلما افترقوا أسلت الأوس إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر ابن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر. فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر، فحكم بينهم المنذر بأن يدوا كعباً حليف مالك دية الصريح ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية وافترقوا، وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم.
[ ذكر حرب كعب بن عمرو المازني ]
ثم إن بني جحجبا من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وقع بينهم حرب كان سببها أن كعب بن عمرو المازني تزوج امرأةً من بني سالم فكان يختلف إليها. فأمر أحيحة بن الجلاح سيد بني جحجبا جماعةً فرصدوه حتى ظفروا به فقتلوه، فبلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو، فأمر قومه فاستعدوا للقتال، وأرسل إلى بني جحجبا يؤذنهم بالحرب. فالتقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو جحجبا ومن معهم وانهزم معهم أحيحة، فطلبه عاصم بن عمرو فأدركه وقد دخل حصنه، فرماه بسهم فوقع في باب الحصن، فقتل عاصم أخاً لأحيحة. فمكثوا بعد ذلك ليالي، فبلغ أحيحة أن عاصماً يتطلبه ليجد له غرة فيقتله، فقال أحيحة:
نبئت أنّك جئت تس ... ري بين داري والقبابة
فلقد وجدت بجانب ال ... ضّحيان شبّاناً مهابه
فتيان حربٍ في الحدي ... د وشامرين كأسد غابه
هم نكّبوك عن الطري ... ق فبتّ تركب كلّ لابه
أعصيم لا تجزع فإن ... نّ الحرب ليست بالدّعابه
فأنا الذي صبّحتكم ... بالقوم إذى دخلوا الرّحابه
وقتلت كعباً قبلها ... وغلوت بالسيف الذّؤابه
فأجابه عاصم:
أبلغ أحيحة إن عرض ... ت بداره عنّي جوابه
وأنا الذي أعجلته ... عن مقعدٍ ألهى كلابه
ورميته سهماً فأخ ... طأه وأغلق ثمّ بابه
في أبيات. ثم إن أحيحة أجمع أن يبيت بني النجار وعنده سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية، وهي أم عبد المطلب جد النبي، صلى الله عليه وسلم فما رضيت، فلما جنها الليل وقد سهر معها أحيحة فنام، فلما نام سارت إلى بني النجار فاعلمتهم ثم رجعت، فحذروا، وغدا أحيحة بقومه مع الفجر، فلقيهم بنو النجار في السلاح، فكان بينهم شيء من قتال، وانحاز أحيحة، وبلغه أن سلمى أخبرتهم فضربها حتى كسر يدها وأطلقها وقال أبياتاً، منها:
لعمر أبيك ما يغني مكاني ... من الحلفاء آكلةٌ غفول
تؤوّم لا تقلّص مشمعلاًّ ... مع الفتيان مضجعه ثقيل
تنزّع للحليلة حيث كانت ... كما يعتاد لقحته الفصيل
وقد أعددت للحدثان حصناً ... لو أنّ المرء ينفعه العقول
جلاه القين ثمّت لم تخنه ... مضاربه ولاطته فلول
فهل من كاهن آوي إليه ... إذا ما حان من آلٍ نزول
يراهنني ويرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل
وما تدري وإن أجمعت أمراً ... بأيّ الأرض يدركك المقيل
وما تدري وإن أنتجت سقباً ... لغيرك أم يكون لك الفصيل
وما إن أخوةٌ كبروا وطابوا ... لباقية، وأمّهم هبول
ستشكل أو يفارقها بنوها ... بموتٍ أو يجيء لهم قتول
[ ذكر الحرب بين بني عمرو وبني الحارث ]
وهو يوم السرارة
ثم إن بني عمرو بن عوف من الأوس وبني الحارث من الخزرج كان بينهما حرب شديدة.
وكان سببها أن رجلاً من بني عمرو قتله رجل من بني الحارث، فعدا بنو عمرو على القاتل فقتلوه غيلةً، فاستكشف أهله فعلموا كيف قتل فتهيأوا للقتال وأرسلوا إلى بني عمرو بن عوف يؤذونهم بالحرب، فالتقوا بالسرارة، وعلى الأوس حضير بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عبد الله بن سلول أبوى الحباب الذي كان رأس المنافقين. فاقتتلوا قتالاً شديداً. صبر بعضهم لبعض أربعة أيم، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك؛ وقال حسان بن ثابت في ذلك:
فدىً لبني النجّار أمّي وخالتي ... غداة لقوهم بالمثقّفة السّمر
وصرمٍ من الأحياء عمرو بن مالك ... إذا ما دعوا كانت لهم دعوة النصر
فوا لا أنسى حياتي بلاءهم ... غداة رموا عمراً بقاصمة الظهر
وقال حسان أيضاً:
لعمر أبيك الخير بالحقّ ما نبا ... عليّ لساني في الخطوب ولا يدي
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي
فلا الجهد ينسيني حياتي وحفظتي ... ولا وقعات الدهر يفللن مبردي
أكثّر أهلي من عيالٍ ساهم ... وأطوي على الماء القراح المبرّد
ومنها:
وإنّي لمنجاء المطيّ على الوجى ... وإنّي لنزّال لما لم أعوّد
وإنّي لقوّالٌ لذي اللّوث مرحباً ... وأهلا إذا ما ريع من كلّ مرصد
وإنّي ليدعوني الندى فأجيبه ... وأضرب بيض العارض المتوقّد
فلا تعجلن يا قيس واربع فإنّما ... قصاراك أن تلقى بكلّ مهنّد
حسام وأرماح بأيدي أعزّةٍ ... متى ترهم يا ابن الخطيم تلبّد
أسود لدى الأشبال يحمي عرينها ... مداعيس بالخّطّي في كلّ مشهد
وهي أبيات كثيرة. فأجابه قيس بن الخطيم:
تروح عن الحسناء أم أنت مغتدي ... وكيف انطلاق عاشقٍ لم يزوّد
تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي ... شريدٍ بملتفٍ من السّدر مفرد
وجيدٍ كجيد الرّيم حالٍ يزينه ... على النّحر ياقوتٌ وفصّ زبرجد
كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أيّ توقّد
ألا إنّ بين الشّرعبيّ وراتج ... ضراباً كتجذيم السيّال المصعّد
لنا حائطان الموت أسفل منهما ... وجمع متى تصرخ بيثرب يصعد
ترى اللابة السوداء يحمرّ لونها ... ويسهل منها كلّ ربع وفدفد
فإنّي لأغنى الناس عن متكلّفٍ ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتد
لساء عمراً ثوراً شقيّاً موعّظاً ... ألدّ كأنّ رأسه رأس أصيد
كثير المنى بالزاد لا صبر عنده ... إذا جاع يوماً يشتكيه ضحى الغد
وذي شيمةٍ عسراء خالف شيمتي ... فقلت له دعني ونفسك أرشد
فما المال والأخلاق إلاّ معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
متى ما تقد بالباطل الحقّ يأبه ... فإن قدت بالحقّ الرواسي تنقد
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
وهي طويلة. وقال عبيد بن ناقد:
لمن الديار كأنّهنّ المذهب ... بليت وغيّرها الدهور تقلّب
يقول فيها في ذكر الوقعة:
لكن فرا أبي الحباب بنفسه ... يوم السّرارة سيئ منه الأقرب
ولّى وألقى يوم ذلك درعه ... إذ قيل جاء الموت خلفك يطلب
نجّاك منّا بعدما قد أشرعت ... فيك الرماح، هناك شدّ المذهب
هي طويلة أيضاً. وأبو الحباب هو عبد الله بن سلول.
[ حرب الحصين بن الأسلت ]
ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين.
وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلاً من بني مازن، فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله، فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه. فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم. فتهيأوا للقتال، ولم يتخلف من الأوس والخزرج أحد، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس، فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال: لا يزال منهزمٌ من الخزرج، فقال أبو قيس لأخيه، ويكنى أبا حصين:
أبلغ أبا حصنٍ وبع ... ض القول عندي ذو كباره
أنّ ابن أمّ لي ... س من الحديد ولا الحجارة
ماذا عليكم أن يكو ... ن لكم بها رحلاً عماره
يحمي ذماركم وبع ... ض القوم لا يحمي ذماره
يبني لكم خيراً وبنيا ... ن الكريم له اثاره
في أبيات.
[ حرب ربيع الظفري ]
ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النيجار من الخزرج.
وكان سببها أن ربيعاً الظفري كان يمر في مال لرجلٍ من بني النجار إلى ملك له، فمنعه النجاري، فتنازعا، فقتله ربيع، فجمع قومهما فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أشد قتال بينهم، فانهزمت بنو مالك بن النجار؛ فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك:
أجدّ بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها
فإن تمس شطّت بها دارها ... وباح لك اليوم هجرانها
فما روضةٌ من رياض القطا ... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا نزهة ... ولوج تكشّف أدجانها
وعمرة من سروات النسا ... ء ينفح بالمسك أردانها
منها:
ونحن الفوارس يومالربي ... ع قد علموا كيف أبدانها
جنونا لحربي وراء الصري ... خ حتّى تقصّد مرّانها
تراهنّ يخلجن خلج الدّلا ... يبادر بالنّزع أشطانها
هي طويلة. فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها:
لقد هاج نفسك أشجانها ... وغادرها اليوم أديانها
ومنها:
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا التبس الحقّ ميزانها
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا أقحط القطر نوآنها
ويثرب تعلم إذ حاربت ... بأنّا لدى الحرب فرسانها
ويثرب تعلم أنّ النّبي ... ت عند الهزاهز ذلاّنها
ومنها:
متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهزّ القنا تخب نيرانها
وتعط القياد على رغمها ... وتنزل ملهام عقبانها
فلا تفخرن التمس ملجأً ... فقد عاود الأوس أديانها
[ حرب فارع ]
بسبب الغلامى القضاعي ومن أيامهم يوم فارع
وسببه أن رجلاً من بني النجار أصاب غلاماً من قضاعة ثم من بلي، وكان عم الغلام جاراً لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ، فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري. فأرسل معاذ إلى بني النجار: أن أدفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إي بقاتله أرى فيه رأيي. فأبوا أن يفعلوا. فقال رجل من بني عبد الأشهل: والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة، وعامر من أشراف الخزرج؛ فبلغ ذلك عامراً فقال:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... وقد تهدى النصيحة للنصيح
فإنّكم وما ترجون شطري ... من القول امزجّى والصريح
سيندم بعضكم عجلاً عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح
أبت لي عزّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
بذي شطبٍ كلون الملح صافٍ ... ونفسٍ لا تقرّ على القبيح
فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الإطنابة:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... فلا ظلمٌ لديّ ولا افتراء
فلست بغائظ الأكفاء ظلماً ... وعندي للملامات اجتزاء
فلم أر مثل من يدنو لخسفٍ ... له في الأرض سير واستواء
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناء
وبعض القول ليس له عناجٌ ... كمحض الماء ليسى له إناء
وبعض خلائق الأقوام داءٌ ... كداء الشّحّ ليس له دواء
وبعض الداء ملتمسٌ شفاءً ... وداء النّوك ليس له شفاء
يحبّ المرء أن يلقى نعيماً ... ويأبى الله إلاّ ما يشاء
ومن يك عاقلاً لم يلق بؤساً ... ينخ يوماً بساحته القضاء
تعاوره بنات الدهر حتّى ... تثلّمه كما ثلم الإناء
وكلّ شدائدٍ نزلت بحيٍّ ... سيأتي بعد شدّتها رخاء
فقل للمتّقي عرض المنايا: ... توقّ فليس ينفعك اتّقاء
فما يعطى الحريص غنىً بحرصٍ ... وقد ينمي لدى الجود الثراء
وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ... ولا مزرٍ بصاحبه الحباء
غنيّ النفس ما استغنى بشيء ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
يودّ المرء ما تفد ... كأنّ فناءهنّ له فناء
فلما رأى معاذ بن النعمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتلوا عند فارغ، وهو أطم حسان بن ثابت، واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة. فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك.
صرمت ظليمة خلّتي ومراسلي ... وتباعدت ضنّاً بزاد الراحل
جهلاً وما تدري ظليمة أنّني ... قد أستقلّ بصرم غير الواصل
ذللٌ ركابي حيث شئت مشيّعي ... أنّي أروع قطا المكان الغافل
أظليم ما يدريك ربّة خلّةٍ ... حسنٌ ترغّمها كظبي الحائل
قد بتّ مالكها وشارب قهوةٍ ... درياقةٍ روّيت منها وآغلي
بيضاء صافية يرى من دونها ... قعر الإناء يضيء وجه الناهل
وسراب هاجرةٍ قطعت إذا جرى ... فوق الإكام بذات لونٍ باذل
أجدٌ مراحلها كأنّ عفاءها ... سقطان من كتفي ظليمٍ جافل
فلنأكلنّ بناجزٍ من مالنا ... ولنشربنّ بدين عامٍ قابل
إنّي من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا ببرّ الله ثمّ النائل
المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل
والخاطلين غنيّهم بفقيرهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
والضاربين الكبش يبرق بيضة ... ضرب المهنّد عن حياض الناهل
والعاطفين على المصاف خيولهم ... والملحقين رماحهم بالقاتل
والمدركين عدوّهم بذحولهم ... والنازلين لضرب كلّ منازل
والقائلين معاً خذوا اقرانكم ... إنّ المنيّة من وراء الوائل
خزرٍ عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل
ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا ... ما الحرب شبّت أشعلوا بالشاعل
لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل
والقائلين فلا يعاب خطيبهم ... يوم المقالة بالكلام الفاصل
وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها.
[ حرب حاطب ]
ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب. وهو حاطب بن قيس من بني أمية ابن زيد بن مالك بن عوف الأوسي، وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة. وكان بينهما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور. وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام.
وكان سبب هذه الحرب أن حاطباً كان رجلاً شريفاً سيداً، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه، ثم إنه غدا يوماً إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم، وهي أمه. وهو من بني الحارث بن الخزرج. فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعةً سمعها من بالسوق. فنادى الثعلبي: يا آل حاطب كسع ضيفك وفضح ! وأخبر حاطب بذلك، فجاء إليه فسأله من كسعه، فأشار إلى اليهودي، فضربه حاطب بالسيف فلق هامته، فأخبر ابن فسحم الخبر، وقيل له: قتل اليهودي، قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله، فلقي رجلاً من بني معاوية فقتله. فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحارث بن الخزرج. وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي. وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب، فسار إليهم عببنه بنى حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بنى مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض، فأبوا، ووقعت الحرب عند الجسر، وشهدها عيينة وخيار. فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الإصلاح بينهم، فكان الظفر يومئذ للخزرج. وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب، فمنها:
● [ يوم الربيع ] ●
ثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع، وهو حائط في ناحية السفح، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً، فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم، وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم. فلما تبع الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح، فامتنعت بنو التجار من الخزرج عن إجابتهم. فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام، وهي الحصون، ثم كفت عنهم الخزرج؛ فقال صخر بن سلمان البياضي:
ألا أبلغا عنّي سويد بن صامتٍ ... ورهط سويدٍ بلّغا وابن الاسلت
بأنّا قتلن بالربيع سراتكم ... وأفلت مجروحاً به كلّ مفلت
فلولا حقوق في العشيرة إنّها ... أدلّت بحقٍ واجب إن أدلّت
لنالهم منّا كما كان نالهم ... مقانب خيل أهلكت حين حلّت
فأجابه سويد بن الصامت:
ألا أبلغا عنّي صخيراً رسالةً ... فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الاسلت
قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا ... وليس الذي ينجو إليكم بمفلت
ومنها:
● [ يوم البقيع ] ●
ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي:
لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ... جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا
دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ... إلى المكان الذي أصحابه حللوا
جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ... يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا
وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ... شطر النهار وحتّى أدبر الأصل
حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ... فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا
تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ... لولا المسالم والأرحام ما نقولا
تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ... أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا
لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ... قد كان حالفه القينات والحلل
جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ... ريّان واغله تشقى به الإبل
الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ... كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا
قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ... يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا
وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت ! فقال:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي
واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحرب غولٌ ذات أوجاع
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرّاً وتتركه بجعجاع
قد حصّتّ البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير نهجاع
أسعى على جلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي
أعددت للأعداء موضونةً ... فضفاضةً كالنّهي بالقاع
أحفزها عنّي بذي رونق ... مهنّدٍ كاللمع قطّاع
صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ... ومنحنٍ أسمر قرّاع
وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.
● [ يوم الفجار الأول ] ●
للأنصاروليس بفجار كنانة وقيس
فلما قتلت الأوس الغلمان جمع الخزرج وحشدوا والتقوا بالحدائق؛ وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد بعضهم يفنى بعضاً. وسمى ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغمان، وهو الفجار الأول، فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم، فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسناً وجرح جراحة شديدة، فمكث حيناً يتداوى منها، وأمر أن يحتمي عن الماء، فلذلك يقول عبد الله بن رواحة:
رميناك أيّام الفجار فلم تزل ... حميّاً فمن يشرب فلست بشارب
● [ يوم معبس ومضرس ] ●
ثم التقوا عند معبس ومضرس، وهما جداران، فكانت الخزرج وراء مضرس، وكانت الأوس وراء معبس، فأقاموا أياماً يقتتلون قتالاً شديداً، ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام، وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها. ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا: لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج. فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمرو بن عوف وأوس مناة، فعزمت الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة، فأغارت بنو سلمة على مال لبني عبد الأشهل يقال له الرعل، فقاتلوهم عليه، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة، واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي، فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على نذكره إن شاء الله.
ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشاً على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة. وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل. ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشاً وأبو جهل غائبٌ. فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل ! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه. قالوا: فما المخرج من حلفهم ؟ قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم. إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا خالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
ألا أبلغ أبا قيس رسولا ... إذا ألقى لها سمعاً تبين
فلست لحاصنٍ إن لم تزركم ... خلال الدار مسبلةٌ طحون
يدين لها العزيز إذا رآها ... ويهرب من مخافتها القطين
تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين
يطوف بكم من النجّار أسدٌ ... كأسد الغيل مسكنها العرين
يظلّ الليث فيها مستكيناً ... تله في كلّ ملتفت أنين
كأنّ بهاءها للناظريها ... من الأثلات والبيض الفتين
كأنّهم من الماذي عليهم ... جمالٌ حين يجتلدون جون
فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ ... وبعد بعاث ذلٌّ مستكين
وهي طويلة أيضاً.
● [ يوم الفجار الثاني للأنصار ] ●
كانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب، فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من فريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالاً لجذمان ضائعا
إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا
فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا ... وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا
أخذنا من الأولى اليهود عصابةً ... لغدرهم كانوا لدينا ودائعا
فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا ... مصانعة يخشون منّا القوارعا
وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضربٍ يترك العز خاشعا
فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم ! وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم. فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني. وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود.
يوم بعاثثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل ! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي ! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب ! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ... لعمرة ركباً غير موقف راكب
ديار التي كانت ونحن على منىً ... تحلّ بنا لولا رجاء الركائب
تبدّت لنا كالشمس تحت ... زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
ومنها:
وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ... فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب
أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ... عن الدفع لا تزداد غير تقارب
فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ... لبست مع البردين ثوب المحارب
مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب
ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ... تذرّع خرصان بأيدي الشواطب
وسامحني ملكاهنين ومالك ... وثعلبة الأخيار رهط القباقب
رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ... كمشي الجمال المشعلات المصاعب
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب
ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ... أذلّ من السّقبان بين الحلائب
يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ... ويرجعن حمراً جارحات المضارب
لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب
قتلناكم يوم الفجار وقبله ... ويوم بعاث كان يوم التغالب
أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ... كمشي الأسود في رشاش الأهاضب
فأجابه عبد الله بن رواحة:
أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ... نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب
بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ... لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب
لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ... أراحت له من لبّه كلّ عازب
نحامي على أحسابنا بتلادنا ... لمفتقر أو سائل الحقّ واجب
وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ... وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب
ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ... مشينا له مشي الجمال المصاعب
برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ... وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب
وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ... أسوداً متى تنشا الرماح تضارب
معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ... مع الصدق منسوب السيوف القواضب
وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة.
● [ ذكر غلبة ثقيف على الطائف ] ●
والحرب بين الأحلاف وبني مالك
كانت أرض الطائف قديماً لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. كان بنو عامر يصيفون بالطائف ويشتون بأرضهم من نجد، وكانت مساكن ثقيف حول الطائف، وقد اختلف الناس فيهم، فمنهم من جعلهم من إياد فقال ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي ابن إياد من معد، ومنهم من جعلهم من هوازن فقال: هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها فقالوا لبني عامر: إن هذه الأرض لا تصلح للزرع وإنما هي أرض ضرع ونراكم على أن آثرتم الماشية على الغراس، ونحن أناس ليست لنا مواشٍ فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤونة ؟ تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطواء ولا نكلفكم مؤونة. نحن نكفيكم المؤونة والعمل، فإذا كان وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملاً ولنا النصف بما عملنا.
فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض، فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعتاب والثمار ووفوا بما شرطوا لبني عامر حيناً من الدهر، وكان بنو عامر يمنعون ثقيفاً ممن أرادهم من العرب.
فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا سور على الطائف وحصنوه ومنعوا عامراً مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار. وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا، وكانت ثقيف بطنين: الأحلاف وبني مالك، وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم، ولم تزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك.
ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم فحموا لها حمىً من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان، فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه، ولجت الحرب بينهم. وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف ابن عباد النصري ثم اليربوعي، ورأس الأحلاف مسعود بن عنب. فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب ابن عوف بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف، فحالفوا بني يربوع على الأحلاف.
فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا. وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من ني نصر يوم الطائف، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى وادٍ من وراء الطائف يقال له الحب، وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان. ثم اقتتلوا بعد ذلك مسميات، منهن يوم غمر ذي كندة، من نحو نخلة، ومنهن يوم كرونا من نحو حلوان، وصاح عفيف ابن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها، فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا. فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرهما على الأحلاف، وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك، فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو ابن عوف من الأوس، وكان أشرف الأنصار في زمانه، فطلب منه الحلف، فقال له أحيحة: والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه، فقال له مسعود: إني أخوك، وكان صديقاً له، فقال: أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه وصالحه ولو بجدع أنفك وأذنك فإن أحداً لن يبر لك في قومك إذ خالفته؛ فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً كان يبني الآطام، يعني الحصون، بالمدينة، فبنى لمسعود بن معتب أطماً، فكان أول أطمٍ بني بالطائف، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف. ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر.
وقالوا في حربهم أشعاراً كثيرة، فمن ذلك قول محبر، وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف:
وما كنت ممّن أرّث الشّرّ بينهم ... ولكنّ مسعوداً جناها وجندبا
قريعي ثقي أنشبا الشرّ بينهم ... فلم يك عنها منزعٌ حين أنشبا
عناقاً ضروساً بين عوفٍ ومالكٍ ... شديداً لظاها تترك الطّفل أشيبا
مضرّمةً شبّاً أشبّا وقودها ... بأيديهما ما أورياها وأثقبا
أصابت براء من طوائف مالكٍ ... وعوفٍ بما جرّا عليها وأجلبا
كجمثورةٍ جاؤوا تخطّوا مآبنا ... إليهم وتدعو في اللقاء معتّبا
وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى ... وتدعو علاجاً والحليف المطيّبا
حبيباً وحيّاً من رباب كتائباً ... وسعداً إذا الداعي إلى الموت ثوّبا
وقوماً بمكروثاء شنّت معتّبٌ ... بغارتها فكان يوماً عصبصبا
فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيفٌ إذا نادى بنصرٍ فطرّبا
عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء.
● [ يتمت أيام العرب في الجاهلية ] ●
قال أبو عبيدة: كان الشيطان لبكر بن وائل، فلما ظهر الإسلام في نجد سارت بكر قبل السواد، وبقي مقايس بن عمرو العائذي بن عائذة من قريش حليف بني شيبان بالشيطين. فلما أقامت بكر في السواد لحقهم الوباء والطاعون الذي كان أيا كسرى شيرويه فعادوا هاربين فنزلوا لعلع، وهي مجدبة، وقد أخصب الشيطان، فسارت تميم فنزلوا بها، وبلغت أخبار خصب الشيطين إلى بكر، فاجتمعوا وقالوا: نغير على تميم، فإن في دين ابن عبد المطلب، يعنون النبي، أن من قتل نفساً قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها، فارتحلوا من لعلع بالذراري والأموال ورئيسهم بشر بن مسعود ابن قيس بن خالد فأتوا الشيطين في أربع ليال، والذي بينهما مسيره ثماني ليالٍ، فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم لا يشعرون فقاتلوهم قتالاً شديداً وصبرت تميم ثم انهزمت، فقال رشيد بن رميض العنبري يفخر بذلك:
وما كان بين الشيّطين ولعلعٍ ... لنسوتنا إلاّ مناقل أربع
فجئنا بجمعٍ لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوديعة يطلع
بأرعن دهمٍ تنسل البلق وسطه ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمع
صبحنا به سعداً وعمراً ومالكاً ... فظلّ لهم يومٌ من الشرّ أشنع
وذا حسبٍ من آل ضبّة غادروا ... بجريٍ كما يجري الفصيل المفزّع
تقصّع يربوعٌ بسرّة أرضنا ... وليس ليربوع بها متقصّع
ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى بكر بن وائل على ما بأيديهم.
الشيطان بالشين المعجمة، والياء المشددة المثناة من تحتها، وبالطاء المهملة، آخره نون.
● ● ● [ أيام الأنصار ] ● ● ●
وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهما
وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهما
الأنصار لقب قبيلتي الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة. وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه، ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده، ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم ابن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق، وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم. فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام.
ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرع فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان ما نذكره إن شاء الله تعالى، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
● [ ذكر غلبة الأنصار على المدينة ] ●
وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون
وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون
قد ذكرنا أن الإستيلاء كان لليهود على المدينة لما نزلها الأنصار، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ملك عليهم الفطيون اليهودي، وهو من بني إسرائيل ثم من بني ثعلبة، وكان رجل سوء فاجراً، وكانت اليهود تدين له بأن لا تزوج امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها، وقيل: إنه كان يفعل ذلك بالأوس والخزرج أيضاً. ثم إن أختا لمالك بن العجلان السالمي الخزرجي تزوجت، فلما كان زفافها خرجت عن مجلس قومها وفيه أخوها مالك وقد كشفت عن ساقيها. فقال لها مالك: لقد جئت بسوء. قالت: الذي يراد بي الليلة أشد من هذا، أدخل على غير زوجي ! ثم عادت فدخل عليها أخوها فقال لها: هل عندك من خبر ؟ قالت: نعم، فما عندك ؟ قال: أدخل مع النساء فإذا خرجن ودخل عليك قتلته. قالت: افعل. فلما ذهب بها النساء إلى الفطيون انطلق مالك معهن في زي امرأة ومعه سيفه، فلما خرج النساء من عندها ودخل عليها الفطيون قتله مالك وخرج هارباً؛ فقال بعضهم في ذلك من أبيات:
هل كان للفطيون عقر نسائكم ... حكم النصيب فبئس حكم الحاكم
حتّى حباه مالك بمرشّةٍ ... حمراء تضحك عن نجيعٍ قاتم
ثم خرج مالك بن العجلان هارباً حتى دخل الشام فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم، وهو أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج، وكان قد ملكهم وشرف فيهم، وقيل: إنه لم يكن ملكاً وإنما كان عظيماً عند ملك غسان، وهو الصحيح، لأن ملوك غسان لم يعرف فيهم هذا، وهو أيضاً من الخزرج على ما ذكر.
فلما دخل عليه مالك شكا إليه ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع، فعاهد الله أبو جبيلة ألا يمس طيباً ولا يأتي النساء حتى يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها.
ثم سار من الشام في جمع كثير وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرضٍ، وأعلم الأوس والخزرج ما عزم عليه، ثم أرسل إلى وجوه اليهود يستدعيهم إليه وأظهر لهم أنه يريد الإحسان إليهم، فأتاه أشرافهم في حشمهم وخاصتهم. فلما اجتمعوا ببابه أمر بهم فأدخلوا رجلاً رجلاً وقتلهم عن آخرهم. فلما فعل بهم ذلك صارت الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فشاركوا اليهود في النخل والدور؛ ومدح الرمق بن زيد الخزرجي أبا جبيلة بقصيدة، منها:
وأبو جبيلة خير من ... يمشي وأوفاهم يمينا
وأبرّهم برّاً وأع ... ملهم بهدي الصالحينا
أبقت لنا الأيّام وال ... حرب المهمّة تعترينا
كبشاً له قرنٌ يع ... ضّ حسامه الذكر السّنينا
فقال أبو جبيلة: عسل طيب في وعاء سوء، وكان الرمق رجلاً ضئيلاً؛ فقال الرمق: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ورجع أبو جبيلة إلى الشام.
حرض بضم الحاء والراء المهملتين، وآخره ضاد معجمة.
● [ حرب سمير ] ●
ولم يزل الأنصار على حال اتفاق واجتماع، كان أول اختلاف وقع بينهم وحرب كانت لهم حرب سمير.
وكان سببها أن رجلاً من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان نزل على مالك بن العجلان السالمي فحالفه وأقام معه. فخرج كعب يوماً إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلاً من غطفان معه فرسه وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب. فقال رجل: فلان. وقال رجل آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي. وقال غيرهما: فلان بن فلان اليهودي أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكاً أفضلكم ؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير وشتمه وافترقا، وبقي كعب ما شاء الله.
ثم قصد سوقاً لهم قبا فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله. وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميراً وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها. وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف، وهي النصف. ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً وافترقوا. ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر يومئذ للأوس.
فلما افترقوا أسلت الأوس إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر ابن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر. فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر، فحكم بينهم المنذر بأن يدوا كعباً حليف مالك دية الصريح ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية وافترقوا، وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم.
[ ذكر حرب كعب بن عمرو المازني ]
ثم إن بني جحجبا من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وقع بينهم حرب كان سببها أن كعب بن عمرو المازني تزوج امرأةً من بني سالم فكان يختلف إليها. فأمر أحيحة بن الجلاح سيد بني جحجبا جماعةً فرصدوه حتى ظفروا به فقتلوه، فبلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو، فأمر قومه فاستعدوا للقتال، وأرسل إلى بني جحجبا يؤذنهم بالحرب. فالتقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو جحجبا ومن معهم وانهزم معهم أحيحة، فطلبه عاصم بن عمرو فأدركه وقد دخل حصنه، فرماه بسهم فوقع في باب الحصن، فقتل عاصم أخاً لأحيحة. فمكثوا بعد ذلك ليالي، فبلغ أحيحة أن عاصماً يتطلبه ليجد له غرة فيقتله، فقال أحيحة:
نبئت أنّك جئت تس ... ري بين داري والقبابة
فلقد وجدت بجانب ال ... ضّحيان شبّاناً مهابه
فتيان حربٍ في الحدي ... د وشامرين كأسد غابه
هم نكّبوك عن الطري ... ق فبتّ تركب كلّ لابه
أعصيم لا تجزع فإن ... نّ الحرب ليست بالدّعابه
فأنا الذي صبّحتكم ... بالقوم إذى دخلوا الرّحابه
وقتلت كعباً قبلها ... وغلوت بالسيف الذّؤابه
فأجابه عاصم:
أبلغ أحيحة إن عرض ... ت بداره عنّي جوابه
وأنا الذي أعجلته ... عن مقعدٍ ألهى كلابه
ورميته سهماً فأخ ... طأه وأغلق ثمّ بابه
في أبيات. ثم إن أحيحة أجمع أن يبيت بني النجار وعنده سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية، وهي أم عبد المطلب جد النبي، صلى الله عليه وسلم فما رضيت، فلما جنها الليل وقد سهر معها أحيحة فنام، فلما نام سارت إلى بني النجار فاعلمتهم ثم رجعت، فحذروا، وغدا أحيحة بقومه مع الفجر، فلقيهم بنو النجار في السلاح، فكان بينهم شيء من قتال، وانحاز أحيحة، وبلغه أن سلمى أخبرتهم فضربها حتى كسر يدها وأطلقها وقال أبياتاً، منها:
لعمر أبيك ما يغني مكاني ... من الحلفاء آكلةٌ غفول
تؤوّم لا تقلّص مشمعلاًّ ... مع الفتيان مضجعه ثقيل
تنزّع للحليلة حيث كانت ... كما يعتاد لقحته الفصيل
وقد أعددت للحدثان حصناً ... لو أنّ المرء ينفعه العقول
جلاه القين ثمّت لم تخنه ... مضاربه ولاطته فلول
فهل من كاهن آوي إليه ... إذا ما حان من آلٍ نزول
يراهنني ويرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل
وما تدري وإن أجمعت أمراً ... بأيّ الأرض يدركك المقيل
وما تدري وإن أنتجت سقباً ... لغيرك أم يكون لك الفصيل
وما إن أخوةٌ كبروا وطابوا ... لباقية، وأمّهم هبول
ستشكل أو يفارقها بنوها ... بموتٍ أو يجيء لهم قتول
[ ذكر الحرب بين بني عمرو وبني الحارث ]
وهو يوم السرارة
وهو يوم السرارة
ثم إن بني عمرو بن عوف من الأوس وبني الحارث من الخزرج كان بينهما حرب شديدة.
وكان سببها أن رجلاً من بني عمرو قتله رجل من بني الحارث، فعدا بنو عمرو على القاتل فقتلوه غيلةً، فاستكشف أهله فعلموا كيف قتل فتهيأوا للقتال وأرسلوا إلى بني عمرو بن عوف يؤذونهم بالحرب، فالتقوا بالسرارة، وعلى الأوس حضير بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عبد الله بن سلول أبوى الحباب الذي كان رأس المنافقين. فاقتتلوا قتالاً شديداً. صبر بعضهم لبعض أربعة أيم، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك؛ وقال حسان بن ثابت في ذلك:
فدىً لبني النجّار أمّي وخالتي ... غداة لقوهم بالمثقّفة السّمر
وصرمٍ من الأحياء عمرو بن مالك ... إذا ما دعوا كانت لهم دعوة النصر
فوا لا أنسى حياتي بلاءهم ... غداة رموا عمراً بقاصمة الظهر
وقال حسان أيضاً:
لعمر أبيك الخير بالحقّ ما نبا ... عليّ لساني في الخطوب ولا يدي
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي
فلا الجهد ينسيني حياتي وحفظتي ... ولا وقعات الدهر يفللن مبردي
أكثّر أهلي من عيالٍ ساهم ... وأطوي على الماء القراح المبرّد
ومنها:
وإنّي لمنجاء المطيّ على الوجى ... وإنّي لنزّال لما لم أعوّد
وإنّي لقوّالٌ لذي اللّوث مرحباً ... وأهلا إذا ما ريع من كلّ مرصد
وإنّي ليدعوني الندى فأجيبه ... وأضرب بيض العارض المتوقّد
فلا تعجلن يا قيس واربع فإنّما ... قصاراك أن تلقى بكلّ مهنّد
حسام وأرماح بأيدي أعزّةٍ ... متى ترهم يا ابن الخطيم تلبّد
أسود لدى الأشبال يحمي عرينها ... مداعيس بالخّطّي في كلّ مشهد
وهي أبيات كثيرة. فأجابه قيس بن الخطيم:
تروح عن الحسناء أم أنت مغتدي ... وكيف انطلاق عاشقٍ لم يزوّد
تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي ... شريدٍ بملتفٍ من السّدر مفرد
وجيدٍ كجيد الرّيم حالٍ يزينه ... على النّحر ياقوتٌ وفصّ زبرجد
كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أيّ توقّد
ألا إنّ بين الشّرعبيّ وراتج ... ضراباً كتجذيم السيّال المصعّد
لنا حائطان الموت أسفل منهما ... وجمع متى تصرخ بيثرب يصعد
ترى اللابة السوداء يحمرّ لونها ... ويسهل منها كلّ ربع وفدفد
فإنّي لأغنى الناس عن متكلّفٍ ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتد
لساء عمراً ثوراً شقيّاً موعّظاً ... ألدّ كأنّ رأسه رأس أصيد
كثير المنى بالزاد لا صبر عنده ... إذا جاع يوماً يشتكيه ضحى الغد
وذي شيمةٍ عسراء خالف شيمتي ... فقلت له دعني ونفسك أرشد
فما المال والأخلاق إلاّ معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
متى ما تقد بالباطل الحقّ يأبه ... فإن قدت بالحقّ الرواسي تنقد
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
وهي طويلة. وقال عبيد بن ناقد:
لمن الديار كأنّهنّ المذهب ... بليت وغيّرها الدهور تقلّب
يقول فيها في ذكر الوقعة:
لكن فرا أبي الحباب بنفسه ... يوم السّرارة سيئ منه الأقرب
ولّى وألقى يوم ذلك درعه ... إذ قيل جاء الموت خلفك يطلب
نجّاك منّا بعدما قد أشرعت ... فيك الرماح، هناك شدّ المذهب
هي طويلة أيضاً. وأبو الحباب هو عبد الله بن سلول.
[ حرب الحصين بن الأسلت ]
ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين.
وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلاً من بني مازن، فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله، فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه. فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم. فتهيأوا للقتال، ولم يتخلف من الأوس والخزرج أحد، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس، فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال: لا يزال منهزمٌ من الخزرج، فقال أبو قيس لأخيه، ويكنى أبا حصين:
أبلغ أبا حصنٍ وبع ... ض القول عندي ذو كباره
أنّ ابن أمّ لي ... س من الحديد ولا الحجارة
ماذا عليكم أن يكو ... ن لكم بها رحلاً عماره
يحمي ذماركم وبع ... ض القوم لا يحمي ذماره
يبني لكم خيراً وبنيا ... ن الكريم له اثاره
في أبيات.
[ حرب ربيع الظفري ]
ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النيجار من الخزرج.
وكان سببها أن ربيعاً الظفري كان يمر في مال لرجلٍ من بني النجار إلى ملك له، فمنعه النجاري، فتنازعا، فقتله ربيع، فجمع قومهما فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أشد قتال بينهم، فانهزمت بنو مالك بن النجار؛ فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك:
أجدّ بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها
فإن تمس شطّت بها دارها ... وباح لك اليوم هجرانها
فما روضةٌ من رياض القطا ... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا نزهة ... ولوج تكشّف أدجانها
وعمرة من سروات النسا ... ء ينفح بالمسك أردانها
منها:
ونحن الفوارس يومالربي ... ع قد علموا كيف أبدانها
جنونا لحربي وراء الصري ... خ حتّى تقصّد مرّانها
تراهنّ يخلجن خلج الدّلا ... يبادر بالنّزع أشطانها
هي طويلة. فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها:
لقد هاج نفسك أشجانها ... وغادرها اليوم أديانها
ومنها:
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا التبس الحقّ ميزانها
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا أقحط القطر نوآنها
ويثرب تعلم إذ حاربت ... بأنّا لدى الحرب فرسانها
ويثرب تعلم أنّ النّبي ... ت عند الهزاهز ذلاّنها
ومنها:
متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهزّ القنا تخب نيرانها
وتعط القياد على رغمها ... وتنزل ملهام عقبانها
فلا تفخرن التمس ملجأً ... فقد عاود الأوس أديانها
[ حرب فارع ]
بسبب الغلامى القضاعي ومن أيامهم يوم فارع
بسبب الغلامى القضاعي ومن أيامهم يوم فارع
وسببه أن رجلاً من بني النجار أصاب غلاماً من قضاعة ثم من بلي، وكان عم الغلام جاراً لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ، فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري. فأرسل معاذ إلى بني النجار: أن أدفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إي بقاتله أرى فيه رأيي. فأبوا أن يفعلوا. فقال رجل من بني عبد الأشهل: والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة، وعامر من أشراف الخزرج؛ فبلغ ذلك عامراً فقال:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... وقد تهدى النصيحة للنصيح
فإنّكم وما ترجون شطري ... من القول امزجّى والصريح
سيندم بعضكم عجلاً عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح
أبت لي عزّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
بذي شطبٍ كلون الملح صافٍ ... ونفسٍ لا تقرّ على القبيح
فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الإطنابة:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... فلا ظلمٌ لديّ ولا افتراء
فلست بغائظ الأكفاء ظلماً ... وعندي للملامات اجتزاء
فلم أر مثل من يدنو لخسفٍ ... له في الأرض سير واستواء
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناء
وبعض القول ليس له عناجٌ ... كمحض الماء ليسى له إناء
وبعض خلائق الأقوام داءٌ ... كداء الشّحّ ليس له دواء
وبعض الداء ملتمسٌ شفاءً ... وداء النّوك ليس له شفاء
يحبّ المرء أن يلقى نعيماً ... ويأبى الله إلاّ ما يشاء
ومن يك عاقلاً لم يلق بؤساً ... ينخ يوماً بساحته القضاء
تعاوره بنات الدهر حتّى ... تثلّمه كما ثلم الإناء
وكلّ شدائدٍ نزلت بحيٍّ ... سيأتي بعد شدّتها رخاء
فقل للمتّقي عرض المنايا: ... توقّ فليس ينفعك اتّقاء
فما يعطى الحريص غنىً بحرصٍ ... وقد ينمي لدى الجود الثراء
وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ... ولا مزرٍ بصاحبه الحباء
غنيّ النفس ما استغنى بشيء ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
يودّ المرء ما تفد ... كأنّ فناءهنّ له فناء
فلما رأى معاذ بن النعمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتلوا عند فارغ، وهو أطم حسان بن ثابت، واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة. فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك.
صرمت ظليمة خلّتي ومراسلي ... وتباعدت ضنّاً بزاد الراحل
جهلاً وما تدري ظليمة أنّني ... قد أستقلّ بصرم غير الواصل
ذللٌ ركابي حيث شئت مشيّعي ... أنّي أروع قطا المكان الغافل
أظليم ما يدريك ربّة خلّةٍ ... حسنٌ ترغّمها كظبي الحائل
قد بتّ مالكها وشارب قهوةٍ ... درياقةٍ روّيت منها وآغلي
بيضاء صافية يرى من دونها ... قعر الإناء يضيء وجه الناهل
وسراب هاجرةٍ قطعت إذا جرى ... فوق الإكام بذات لونٍ باذل
أجدٌ مراحلها كأنّ عفاءها ... سقطان من كتفي ظليمٍ جافل
فلنأكلنّ بناجزٍ من مالنا ... ولنشربنّ بدين عامٍ قابل
إنّي من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا ببرّ الله ثمّ النائل
المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل
والخاطلين غنيّهم بفقيرهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
والضاربين الكبش يبرق بيضة ... ضرب المهنّد عن حياض الناهل
والعاطفين على المصاف خيولهم ... والملحقين رماحهم بالقاتل
والمدركين عدوّهم بذحولهم ... والنازلين لضرب كلّ منازل
والقائلين معاً خذوا اقرانكم ... إنّ المنيّة من وراء الوائل
خزرٍ عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل
ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا ... ما الحرب شبّت أشعلوا بالشاعل
لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل
والقائلين فلا يعاب خطيبهم ... يوم المقالة بالكلام الفاصل
وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها.
[ حرب حاطب ]
ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب. وهو حاطب بن قيس من بني أمية ابن زيد بن مالك بن عوف الأوسي، وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة. وكان بينهما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور. وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام.
وكان سبب هذه الحرب أن حاطباً كان رجلاً شريفاً سيداً، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه، ثم إنه غدا يوماً إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم، وهي أمه. وهو من بني الحارث بن الخزرج. فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعةً سمعها من بالسوق. فنادى الثعلبي: يا آل حاطب كسع ضيفك وفضح ! وأخبر حاطب بذلك، فجاء إليه فسأله من كسعه، فأشار إلى اليهودي، فضربه حاطب بالسيف فلق هامته، فأخبر ابن فسحم الخبر، وقيل له: قتل اليهودي، قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله، فلقي رجلاً من بني معاوية فقتله. فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحارث بن الخزرج. وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي. وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب، فسار إليهم عببنه بنى حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بنى مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض، فأبوا، ووقعت الحرب عند الجسر، وشهدها عيينة وخيار. فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الإصلاح بينهم، فكان الظفر يومئذ للخزرج. وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب، فمنها:
● [ يوم الربيع ] ●
ثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع، وهو حائط في ناحية السفح، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً، فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم، وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم. فلما تبع الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح، فامتنعت بنو التجار من الخزرج عن إجابتهم. فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام، وهي الحصون، ثم كفت عنهم الخزرج؛ فقال صخر بن سلمان البياضي:
ألا أبلغا عنّي سويد بن صامتٍ ... ورهط سويدٍ بلّغا وابن الاسلت
بأنّا قتلن بالربيع سراتكم ... وأفلت مجروحاً به كلّ مفلت
فلولا حقوق في العشيرة إنّها ... أدلّت بحقٍ واجب إن أدلّت
لنالهم منّا كما كان نالهم ... مقانب خيل أهلكت حين حلّت
فأجابه سويد بن الصامت:
ألا أبلغا عنّي صخيراً رسالةً ... فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الاسلت
قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا ... وليس الذي ينجو إليكم بمفلت
ومنها:
● [ يوم البقيع ] ●
ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي:
لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ... جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا
دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ... إلى المكان الذي أصحابه حللوا
جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ... يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا
وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ... شطر النهار وحتّى أدبر الأصل
حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ... فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا
تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ... لولا المسالم والأرحام ما نقولا
تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ... أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا
لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ... قد كان حالفه القينات والحلل
جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ... ريّان واغله تشقى به الإبل
الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ... كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا
قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ... يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا
وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت ! فقال:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي
واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحرب غولٌ ذات أوجاع
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرّاً وتتركه بجعجاع
قد حصّتّ البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير نهجاع
أسعى على جلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي
أعددت للأعداء موضونةً ... فضفاضةً كالنّهي بالقاع
أحفزها عنّي بذي رونق ... مهنّدٍ كاللمع قطّاع
صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ... ومنحنٍ أسمر قرّاع
وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.
● [ يوم الفجار الأول ] ●
للأنصاروليس بفجار كنانة وقيس
للأنصاروليس بفجار كنانة وقيس
فلما قتلت الأوس الغلمان جمع الخزرج وحشدوا والتقوا بالحدائق؛ وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد بعضهم يفنى بعضاً. وسمى ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغمان، وهو الفجار الأول، فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم، فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسناً وجرح جراحة شديدة، فمكث حيناً يتداوى منها، وأمر أن يحتمي عن الماء، فلذلك يقول عبد الله بن رواحة:
رميناك أيّام الفجار فلم تزل ... حميّاً فمن يشرب فلست بشارب
● [ يوم معبس ومضرس ] ●
ثم التقوا عند معبس ومضرس، وهما جداران، فكانت الخزرج وراء مضرس، وكانت الأوس وراء معبس، فأقاموا أياماً يقتتلون قتالاً شديداً، ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام، وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها. ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا: لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج. فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمرو بن عوف وأوس مناة، فعزمت الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة، فأغارت بنو سلمة على مال لبني عبد الأشهل يقال له الرعل، فقاتلوهم عليه، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة، واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي، فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على نذكره إن شاء الله.
ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشاً على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة. وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل. ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشاً وأبو جهل غائبٌ. فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل ! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه. قالوا: فما المخرج من حلفهم ؟ قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم. إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا خالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
ألا أبلغ أبا قيس رسولا ... إذا ألقى لها سمعاً تبين
فلست لحاصنٍ إن لم تزركم ... خلال الدار مسبلةٌ طحون
يدين لها العزيز إذا رآها ... ويهرب من مخافتها القطين
تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين
يطوف بكم من النجّار أسدٌ ... كأسد الغيل مسكنها العرين
يظلّ الليث فيها مستكيناً ... تله في كلّ ملتفت أنين
كأنّ بهاءها للناظريها ... من الأثلات والبيض الفتين
كأنّهم من الماذي عليهم ... جمالٌ حين يجتلدون جون
فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ ... وبعد بعاث ذلٌّ مستكين
وهي طويلة أيضاً.
● [ يوم الفجار الثاني للأنصار ] ●
كانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب، فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من فريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالاً لجذمان ضائعا
إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا
فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا ... وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا
أخذنا من الأولى اليهود عصابةً ... لغدرهم كانوا لدينا ودائعا
فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا ... مصانعة يخشون منّا القوارعا
وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضربٍ يترك العز خاشعا
فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم ! وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم. فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني. وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود.
يوم بعاثثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل ! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي ! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب ! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ... لعمرة ركباً غير موقف راكب
ديار التي كانت ونحن على منىً ... تحلّ بنا لولا رجاء الركائب
تبدّت لنا كالشمس تحت ... زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
ومنها:
وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ... فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب
أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ... عن الدفع لا تزداد غير تقارب
فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ... لبست مع البردين ثوب المحارب
مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب
ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ... تذرّع خرصان بأيدي الشواطب
وسامحني ملكاهنين ومالك ... وثعلبة الأخيار رهط القباقب
رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ... كمشي الجمال المشعلات المصاعب
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب
ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ... أذلّ من السّقبان بين الحلائب
يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ... ويرجعن حمراً جارحات المضارب
لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب
قتلناكم يوم الفجار وقبله ... ويوم بعاث كان يوم التغالب
أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ... كمشي الأسود في رشاش الأهاضب
فأجابه عبد الله بن رواحة:
أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ... نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب
بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ... لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب
لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ... أراحت له من لبّه كلّ عازب
نحامي على أحسابنا بتلادنا ... لمفتقر أو سائل الحقّ واجب
وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ... وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب
ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ... مشينا له مشي الجمال المصاعب
برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ... وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب
وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ... أسوداً متى تنشا الرماح تضارب
معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ... مع الصدق منسوب السيوف القواضب
وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة.
● [ ذكر غلبة ثقيف على الطائف ] ●
والحرب بين الأحلاف وبني مالك
والحرب بين الأحلاف وبني مالك