من طرف اسرة التحرير السبت نوفمبر 21, 2015 6:56 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثانى: الأمراض والأسباب والأعراض الكلية
تابع التعليم الثاني: الأسباب
● [ نهاية الجملة الأولى ] ●
الفصل الخامس عشر : موجبات ما يؤكل ويشرب
ما يؤكل ويشرب يفعل في بدن الإنسان من وجوه ثلاثة: فإنه يفعل فعلاً بكيفيته فقط، وفعلاً بعنصره، وفعلاً بجملة جوهره، وربما تقاربت مفهومات هذه الألفاظ بحسب التعارف اللغوي. إلا أنا نصطلح في استعَمالها على معان نشير إليها
فأما الفاعل بكيفيته فهو أن يكون من شأنه أن يتسخن إذا حصل في بدن الإنسان أو يتبرد فيسخن بسخونته ويبرد ببرده من غير أن يتشبه به.
وإما بعنصره: فأن يكون بحيث يستحيل عن طباعه فيقبل صورة جزء عضو من أعضاء الإنسان، إلا أن عنصره مع قبوله صورته قد يتفق أن يبقى فيه من أول الأمر إلى أن يتم الانعقاد. والتشبه بقية من كيفياته التي كانت له ما هو أشد في بابها من الكيفيات لبدن الإنسان مثل الدم المتولد من الخس، فإنه يصحبه من البرودة ماهوأبرد من مزاج الإنسان، وإن كان قد صار دماً وصلح أن يكون جزء عضو إنسان. والدم المتولد من النوم بالضد وأما الفاعل بجوهره، فهو الفاعل بصورته النوعية التي بها هو هو لا بكيفيته من غير تشبه بالبدن، أو مع تشته بالبدن، وأعني بالكيفية إحدى هذه الكيفيات الأربع، فالفاعل بالكيفية لا مدخل لمادته في الفعل والفاعل بالعنصر هو الذي إذا استحال عنصره عن جوهره استحالة يوجبها قوة في البدن قام بدل ما يتحلل أولاً، وذكى الحرارة الغريزية بالزيادة في الدم ثانياً، وربما فعل أيضاً بالكيفية الباقية فيه ثالثاً. والفاعل بالجوهر هو الذي يفعل بصورة نوعه الحاصلة بعد المزاج الذي إذا امتزجت بسائطه وحدث منها شيء واحد استعد لقبول نوع وصورة زائدة على بسائط تلك الصورة ليست الكيفيات الأول التي للعنصر ولا المزاج الكائن عنها، بل كمال يحصل للعنصر بحسب استعداد حصل له من المزاج مثل القوة الجاذبة في مغناطيس، ومثل طبيعة كل نوع من أنواع الحيوان والنبات المستفادة بعد المزاج بإعداد المزاج، وليست من بسائط المزاج ولا نفس المزاج، إذ ليست حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة لا بسيطة ولا ممزوجة، بل هي مثل لون أو رائحة أو نفس أو صورة أخرى ليست من المحسوسات.
وهذه الصورة الحادثة بعد المزاج، قد يتفق أن يكون كمالها الانفعال من الغير إذ كانت هذه الصورة قوة إنفعالية، وقد يتفق أن يكون كمالها فعلاً في الغير إذا كانت هذه الصورة قوية على فعل في الغير. وإذا كانت فعالة في الغير قد يتفق أن يكون فعلها في بدن الإنسان، وقد يتفق أن لا يكون. وإن كانت قوة تفعل في بدن الإنسان، فقد يتفق أن تفعل فعلاً ملائماً، وقد يتفق أن تفعل فعلاً غير ملائم. وتكون جملة الفعل فعلاً ليس مصدره عن مزاجه بل عن صورته النوعية الحادثة بعد المزاج فلهذا يسمى هذا فعلاً بجملة الجواهر، أي بصورة النوع لا بالكيفية، أي لا بالكيفيات الأربع وما هو مزاج عنها.
أما الملائم فمثل فعل "فاوانيا" في إبطاله الصرع.
وأما المنافي فمثل قوة البيش المفسدة لجوهر الإنسان. ونرجع الآن فنقول: إنا إذا قلنا للشيء المتناول أو المطلوخ أنه حار أو بارد، فإنما نعني أنه كذلك بالقوة لا بالفعل، ونعني أنه بالقوة أحر من أبداننا وأبرد من أبداننا ونعني بهذه القوة قوة معتبرة بوقت فعل حرارة بدننا فيها بأن يكون إذا انفعل حاملها عن الحار الغريزي الذي لنا حدث حينئذ فيها ذلك بالفعل، وربما عنينا بهذه القوة شيئاً آخر، وهو أن تكون القوة بمعنى جودة الاستعداد كقولنا إن الكبريت حار بالقوة، وربما اكتفينا بقولنا إن الشيء حار أو بارد إلى الأغلب في مزاجه من الأركان الأولى غير ملتفتين إلى جانب فعل بدننا فيه. وقد نقول للدواء إنه بالقوة كذا إذا كانت القوة بمعنى المَلَكَةِ، كقوة الكاتب التارك للكتابة على الكتابة، مثل قولنا إن البيش بالقوة مفسد. والفرق بين هذا وبين الأول أن الأول ما لم يُحِلْهُ البدن إحالَةً ظاهرة لم يخرج إلى الفعل، وهذا، بما أن يفعل بنفس الملاقاة كسم الأفاعي، أو بأدنى استحالة في كيفيته كالبيش. وبين القوة الأولى والقوة التي ذكرناها قوة متوسطة هي مثل قوة الأدوية السمية. ثم نقول إن مراتب الأدوية قد جعلت أربعة.
المرتبة الأولى منها: أن يكون فعل المتناول في البدن بكيفيته فعلاً غير محسوس مثل أن يسخن أو يبرّد تسخيناً أو تبريداً ليس يفطن له ولا يحس به إلا أن يتكرر أو يكثر.
والمرتبة الثانية: أن يكون الفعل أقوى من ذلك، ولكن لا يبلغ أن يضر بالأفعال ضرراً بيناًولا يغير مجراها الطبيعي إلا بالعرض، أو إلا أن يتكرر ويكثر.
والمرتبة الثالثة: أن يكون فعلها يوجب بالذات ضرراً بيناً، ولكن لا يبلغ أن يهلك ويفسد.
والمرتبة الرابعة: أن يكون بحيث يبلغ أن يهلك ويفسد، وهذه خاصية الأدوية السميّة فهذا ما يكون بالكيفية. وأما المهلك بجملة جوهره فهو السم.
ونقول من رأس إن جميع ما يرد على البدن مما يجري بينهما فعل وانفعال: إما أن يتغير عن البدن ولا يغيره، وإما أن يتغيّر عن البدن ويغيره، وإما أن لا يتغيّر عن البدن ويغيره.
فأما الذي يتغيرعن البدن ولا يغيره. تغييراً معتدًا به، فإما أن يتشبه بالبدن، وإما أن لا يتشبه. والذي يتشبّه به هو الغذاء على الإطلاق، وأما الذي لا يتشبه به فهو الدواء المعتدل.
وأما الذي يتغير عن البدن ويغيّره فلا يخلو، إما أن يكون كما يتغير عن البدن يغيّر البدن، ثم إنه يتغير عن البدن اَخر الأمر فيبطل بغيره، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون هو الذي يغير البدن آخر الأمر ويفسده. والقسم الأول، إما أن يكون بحيث يتشبه بالبدن، أو لا يكون بحيث يتشبّه به، فإن تشبه به فهو الغذاء الدوائي، وإن لم يتشبّه فهو الدواء المطلق. والقسم الثاني فهو الدواء السمّي.
وأما الذي لا يتغير عن البدن البتة ويغيره فهو السم المطلق، ولسنا نعني بقولنا إنه لا يتغير عن البدن أنه لا يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه، بل أكثر السموم ما لم يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه لم يؤثر فيه بل نعني أنه لا يتغير في صورته الطبيعية، بل لا يزال يفعل وهو ثابت القوة والصورة حتى يفسد البدن، وقد تكون طبيعة هذا حارة فتعين طبيعته خاصيته في تحليل الروح كسم الأفعى والبيش. وقد تكون باردة فتعين طبيعته خاصيته في إخماد الروح وإيهانه كسم العقرب والشوكران وجميع ما يبرّد، وقد يغيّر البدن آخر الأمر تغييراً طبيعياً وهو التسخين. فإنه إذا استحال إلى الدم زاد لا محالة في التسخين، حتى إن الخس والقرع يسخن هذا التسخين، إلا أنا لسنا نقصد بالتغيير هذا التسخين، بل ما كان صادراً عن كيفية الشيء ونوعه بعد باق. والدواء الغذائي يستحيل عن البدن بجوهره ويستحيل عنه بكيفيته، لكنه يستحيل أولاً في كيفيته، فمنه ما يستحيل أولاً إلى حرارة فيسخن كالثوم، ومنه ما يستحيل أولاً إلى برودة فيبرد كالخس. وإذا استتمت الاستحالة إلى الدم كان أكثر فعله التسخين بتوفير الدم ، وكيف لا يسخن وقد استحالت حارة وخلعت برودتها. لكنه قد يصحب أيضاً كل واحد منهما من الكيفية الغريزية شيء بعد الاستحالة في الجوهر، فيبقى في الدم الحادث من الخس تبريد ما، ومن الدم الحادث من الثوم تسخين ما ولكن إلى حين.
والأدوية الغذائية فمنها ما هو أقرب إلى الدوائية ومنها ما هو أقرب إلى الغذائية كما أن الأغذية نفسها منها ما هو قريب الطباع إلى جوهر الدم كالشراب ومح البيض وماء اللحم، ومنها ما هو أبعد منه يسيراً مثل الخبز واللحم، ومنها ما هو أبعد جداً كالأغذية الدوائية.
ونقول: إن الغذاء يغير حال البدن بكيفيته وكميته، إما بكيفيته فقد عرف ذلك، وإما بكميته فذلك إما بأن يزيد فيورث التخمة والسدد ثم العفونة، واما بأن ينقص فيورث الذبول والزيادة في كمية الغذاء مبردة دائماً، اللهم إلا أن يعرض منها عفونة فتسخن فإن العفونة، كما أنها إنما تحدث عن حرارة غريبة، كذلك تحدث عنها أيضاً حرارة غريبة.
ونقول أيضاً: إن الغذاء منه لطيف، ومنه كثيف، ومنه معتدل. واللطيف هو الذي يتولد منه دم رقيق، والكثيف هو الذي يتولد منه دم ثخين، وكل واحد من الأقسام، فإما أن يكون كثير التغذية، وإما أن يكون يسير التغذية. مثال اللطيف الكثير الغذاء: الشراب وماء اللحم ومح البيض المسخّن، أو النيمبرشت ، فإنه كثير الغذاء لأن كثر جوهره يستحيل إلى الغذاء.
ومثال الكثيف القليل الغذاء: الجبن والقديد والباذنجان وما يشبهها، فإن الشيء المستحيل منها إلى الدم قليل.
ومثال الكثيف الكثير الغذاء: البيض المسلوق ولحم البقر.
ومثال اللطيف القليل الغذاء: الجلاب والبقول المعتدلة القوام والكيفية. ومن الثمار التفاح والرمان وما يشبهه فإن كل واحد من هذه الأقسام قد يكون رديء الكيموس، وقد يكون محمود الكيموس . مثال اللطيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس: صفرة البيض والشراب وماء اللحم.
ومثال اللطيف القليل الغذاء الحسن الكيموس: الخس والتفاح والرمان.
ومثال اللطيف القليل الغذاء الرديء الكيموس: الفجل والخردل وأكثر البقول.
ومثال اللطيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس: الرئة ولحم النواهض.
ومثال الكثيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس: البيض المسلوق ولحم الحولي من الضأن .
ومثال الكثيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس: لحم البقر ولحم البط ولحم الفرس.
ومثال الكثيف القليل الغذاء الرديء الكيموس: القديد. وأنت تجد في هذه الجملة المعتدل.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السادس عشر : أحوال المياه ] ●
إن الماء ركن من الأركان، ومخصوص من جملة الأركان بأنه وحده من بينها يدخل في جملة ما يتناول، لا لأنه يغذو، بل لأنه ينفذ الغذاء ويصلح قوامه، وإنما قلنا إن الماء لا يغذو لأن الغاذي هو الذي بالقوة دم وبقوة أبعد من ذلك جزء عضو الإنسان. والجسم البسيط لا يستحيل إلى قبول صورة الدموية وإلى قبول صورة عضو الإنسان، ما لم يتركب، لكن الماء جوهر يعيّن في تسييل الغذاء وترقيقه وبذرقته نافذاً إلى العروق ونافذاً إلى المخارج لا يستغني عن معونته هذه في تمام أمر الغذاء. ثم المياه مختلفة لا في جوهر المائية ولكن بحسب ما يخالطها وبحسب الكيفيات التي تغلب عليها. فأفضل المياه مياه العيون ولا كل العيون ولكن ماء العيون الحرة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة، أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن العفونة الأرضية، ولكن التي من طينة حرّة خير من الحجرية، ولا كل عين حرة بل التي هي مع ذلك جارية، ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس والرياح، فإن هذا مما تكتسب بها الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسبت رداءة بالكشف لا تكتسبها بالغور والستر.
واعلم أنَ المياه التي تكون طينية المسيل خير من التي تجري على الأحجار، فإن الطين ينقّي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروقه، والحجارة لا تفعل ذلك، لكنه يجب أن يكون طين مسيلها حرًا لا حمأة، ولا سبخة ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمراً شديد الجرية تحيل كثرته ما يخالطه إلى طبيعته يأخذ إلى الشمس في جريانه، فيجري إلى المشرق خصوصاً إلى الصيفي منه، فهو أفضل لا سيما إذا بعد جداً من مبدئه، ثم ما يتوجه إلى الشمال. والمتوجّه إلى المغرب والجنوب رديء، وخصوصاً عند هبوب الجنوب. والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضائل أفضل. وما كان بهذه الصفة، كان عذباَ يخيل أنه حلو، ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلاً، وكان خفيف الوزن سريع التبرد والتسخّن لتخلخله، بارداً في الشتاء حاراً في الصيف، لا يغلب عليه طعم البتة ولا رائحة، ويكون سريع الإنحدار من الشراسيف سريع تهري ما يهرى فيه وطبخ ما يطبخ فيه واعلم أن الوزن من الدستورات المنجحة في تعرف حال الماء، فإن الأخف في أكثر الأحوال أفضل وقد يعرف الوزن بالمكيال، وقد يعرف بأن تبل خرقتان بماءين مختلفين، أو قطنتان متساويتان في الوزن، ثم يجففان تجفيفاً بالغاً ثم يوزنان، فالماء الذي قطنته أخف، فهو أفضل. والتصعيد والتقطيرمما يصلح المياه الرديئة، فإن لم يمكن ذلك فالطبخ فإن المطبوخ على ما شهد به العلماء أقل نفخاً وأسرع انحداراً. والجهال من الأطباء يظنون الماء المطبوخ يتصعد لطيفه ويبقى كثيفه فلا فائدة في الطبخ إذ يزيد الماء تكثيفاً، ولكن يجب أن تعلم أن الماء في حدّ مائيته متشابه الأجزاء في اللطافة والكثافة لأنه بسيط غير مركب، لكن الماء يكثف إما باشتداد كيفية البرد عليه، وإما بمخالطة شديدة من الأجزاء الأرضية التي أفرط صغرها ليس يمكنها أن تنفصل عنه وترسب فيه لأنها ليست بمقدار ما يقدر أن يشق اتصال الماء فيرسب فيه صغراً فيضطرها ذلك إلى أن يحدث لها بجوهر الماء امتزاج، ثم الطبخ يزيل التكثيف الحادث عن البرد أولاً ثم يخلخل أجزاء الماء خلخلة شديدة حتى يصير أدق قواماً، فيمكن أن تنفصل عنه الأجزاء الثقيلة الأرضية المحبوسة في كثافته وتخرقه راسبة وتباينه بالرسوب، ويبقى ماء محضاً قريباً من البسيط ويكون الذي انفصل بالتبخير مجانساً للباقي غير بعيد منه، لأن الماء إذا تخلص من الخلط تشابهت أجزاؤه في اللطافة فلم يكن لصاعدها كثير فضل على باقيها. فالطبخ إنما يلطف الماء بإزالة تكثيف البرد وبترسيب الخلط المخالط له. والدليل على هذا أنك إذا تركت المياه الغليظة مدة كثيرة لم يرسب منها شيء يعتد به،وإذا طبختها رسب في الوقت شيء كثير وصار الماء الباقي خفيف الوزن صافياً، وكان سبب الرسوب هو الترقيق الحاصل بالطبخ. ألا ترى أن مياه الأودية الكبار مثل نهر جيحون- وخصوصاً ما كان منها مغترفاً من آخره- يكون عند الاغتراف في غاية الكدر ثم يصفو في زمان قصير كرة واحدة بحيث إذا استصفيتها مرة أخرى لم يرسب شيء يعتدّ به البتة. وقوم يفرطون في مدح ماء النيل إفراطاً شديداً ويجمعون محامده في أربعة، بعد منبعه وطيب مسلكه وأخذه إلى الشمال عن الجنوب ملطف لما يجري فيه من المياه. وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. والمياه الردئية لو استصفيتها كل يوم من إناء إلى إناء لكان الرسوب يظهر عنها كل يوم من الرأس، ومع ذلك فإنه لا يرسب عنها ما من شأنه أن يرسب إلا بأناة من غير إسراع، ومع ذلك فلا يتصفى تصفياً بالغاً، والعلّة فيه أن المخالطات الأرضية يسهل رسوبها عن الرقيق الجوهر الذي لا غلظ له ولا لزوجة ولا دهنية ولا يسهل رسوبها عن الكثيف تلك السهولة. ثم الطبخ يفيد رقة الجوهر وبعد الطبخ المخض .
ومن المياه الفاضلة ماء المطر وخصوصاً ما كان صيفياً ومن سحاب راعد. وأما الذي يكون من سحاب ذي رياح عاصفة، فيكون كدر البخار الذي يتولد منه وكدر السحاب الذي يقطر منه فيكون مغشوش الجوهر غير خالصه، إلا أن العفونة تبادر إلى ماء المطر وإن كان أفضل ما يكون، لأنه شديد الرقة فيؤثر فيه المفسد الأرضي والهوائي بسرعة ، وتصير عفونته سبباً لتعفن الأخلاط ويضرّ بالصدر والصوت.
قال قوم: والسبب في ذلك أنه متولد عن بخار يصعد من رطوبات مختلفة ولو كان السبب ذلك لكان ماء المطر مذموماً غير محمود وليس كذلك ولكنه لشدة لطافة جوهره فإن كل لطيف الجوهر، قوامه قابل للإنفعال، وإذا بودر إلى ماء المطر وأغلي قلّ قبوله للعفونة. والحموضات إذا تنوولت مع وقوع الضرورة إلى شرب ماء مطر قابل للعفونة أمن ضرره. وأما مياه الأبار والقنى بالقياس إلى مياه العيون فرديئة، وذلك لأنها مياه محتقنة مخالطة للأرضيات مدة طويلة لا تخلو عن تعفين ما وقد استخرجت وحركت بقوة قاسرة لا بقوة فيها مائلة إلى الظهور والاندفاع، بل بالحيلة والصناعة بأن قرب لها السبيل إلى الرشوح. وأردؤها ما جعل لها مسالك في الرصاص فتأخذ من قوته وتوقع كثيراً في قروح الأمعاء . وماء النز أردأ من ماء البئر، لأن ماء البئر يستجدّ نبوعه بالنزح فتدوم حركته ولا يلبث اللبث الكثير في المحقن ولا يريث في المنافس ريثاً طويلاً. وأما ماء النزّ فماء يطول تردده في منافس الأرض العفنة ويتحرّك إلى النبوع والبروز. وحركته بطيئة لا تصدر عن قوة اندفاعها بل لكثرة مادتها ولا تكون إلا في أرض فاسدة عفنة.
وأما المياه الجليدية والثلجية فغليظة، والمياه الراكدة الأجمية خصوصاً المكشوفة فرديئة ثقيلة وإنما تبرد في الشتاء بسبب الثلوج وتولد البلغم وتسخن في الصيف بسبب الشمس والعفونة فتولّد المرارة ولكثافتها واختلاط الأرضية بها وتحلل اللطيف منها، تولد في شاربيها أطحلة، وترق مراقهم وتحبس أحشاءهم وتقضف منهم الأطراف والمناكب والرقاب ويغلب عليه شهوة الأكل والعطش وتحتبس بطونهم ويعسر قيؤهم، وربما وقعوا في الاستسقاء لاحتباس المائية فيهم، وربما وقعوا في ذات الرئة وزلق الأمعاء والطحال. وتضمر أرجلهم وتضعف أكبادهم وتقل من غذائهم بسبب الطحال، ويتولّد فيهم الجنون والبواسير والدوالي والأورام الرخوة خصوصاً في الشتاء، ويعسر على نسائهم الحبل والولادة جميعاً، وتلدن أجنّة متورمين ويكثر فيهن الرجاء والحبل الكاذب ويكثر لصبيانهم الأدر ، وبكبارهم الدوالي وقروح الساق، ولا تبرأ قروحهم وتكثر شهوتهم ويعسر إسهالهم ويكون مع أذى وتقريح الأحشاء، ويكثر فيهم الربع وفي مشايخهم المحرقة ليبس طبائعهم وبطونهم.
والمياه الراكدة كيفما كانت غير موافقة للمعدة وحكم المغترف من العين قريب من حكم الراكد لكنه يفضل الراكد بأن بقاءه في موضع واحد غير طويل، وما لم يجر فإن فيه ثقلاً ما لا محالة، وربما كان في كثير منه قبض وهو سريع الاستحالة إلى التسخّن في الباطن، فلا يوافق أصحاب الحميّات والذين غلب عليهم المرار بل هو أوفق في العلل المحتاجة إلى حبس أو إلى إنضاج. والمياه التي يخالطها جوهر معدني أو ما يجري مجراه، والمياه العلقية، فكلها أردأ، لكن في بعضها منافع وفي الذي تغلب عليه قوة الحديد منافع من تقوية الأحشاء ومنه الذرب وإنهاض القوى الشهوانية كلها. وسنذكر حالها وحال ما يجري مجراها فيما بعد.
والجمد والثلج إذا كان نقياً غير مخالط لقوة رديئة فسواء حلّل ماء، أو برد به الماء من خارج، أو ألقي في الماء فهو صالح، وليس تختلف أحوال أقسامه اختلافاً كثيراً فاحشاً، إلا أنه أكثف من سائر المياه ويتضرّر به صاحب وجع العصب، لماذا طبخ عاد إلى الصلاح. وأما إذا كان الجمد من مياه رديئة، أو الثلج مكتسباً قوة غريبة من مساقطه فالأولى أن يبرد به الماء محجوباً عن مخالطته.
والماء البارد المعتدل المقدار أوفق المياه للأصحاء وإن كان قد يضر العصب ويضر أصحاب أورام الأحشاء وهو مما ينبه الشهوة ويشد المعدة والماء الحار يفسد الهضم ويطفي الطعام، ولا يسكن العطش في الحال، وربما أدى إلى الاستسقاء والدق، ويذبل البدن.
فأما السخن فإن كان فاتراً غثى ، وإن كان أسخن من ذلك فتجرع على الريق، فكثيراً ما يغسل المعدة ويطلق الطبيعة، لكن الاستكثار منه رديء يوهن قوة المعدة. والشديد السخونة ربما حلل القولنج وكسر الرياح. والذين يوافقهم الماء الحار بالصنعة أصحاب الصرع وأصحاب الماليخوليا وأصحاب الصداع البارد وأصحاب الرمد. والذين بهم بثور في الحلق والعمور وأورام خلف الأذن وأصحاب النوازل ومن بهم قروح في الحجاب وانحلال الفؤاد في نواحي الصدر، ويدر الطمث والبول ويسكن الأوجاع.
وأما الماء المالح فإنه يهزل وينشف ويسهل، أولاً بالجلاء الذي فيه، ثم يعقل آخر الأمر بالتجفيف الذي في طبعه، ويفسد الدم فيولد الحكة والجرب. والماء الكدر يولد الحصى والسدد فليتناول بعده ما يدر. على أن المبطون كثيراً ما ينتفع به وبسائر المياه الغليظة الثقيلة لاحتباسها في بطنه وبطء انحدارها ومن ترياقاته الدسم والحلاوات والنوشادرية يطلق الطبيعة، شرب منها أو جلس فيها، أو احتقن والشبّية تنفع من سيلان فضول الطمث، ومن نفث الدم وسيلان البواسير. غير أنها شديدة الإثارة للحمى في الأبدان المستعدة لها. والحديدي يزيل الطحال ويعين على الباه. والنحاسي صالح لفساد المزاج، وإذا اختلطت مياه مختلفة جيدة ورديئة غلب أقواها. ونحن قد بينا تدبير المياه الفاسدة في باب تدبير المسافرين. ونذكر باقي أحكام الماء وصفاته وقرى أصنافه في باب الماء في الأدوية المفردة فاطلب ما قلناه من هنالك.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السابع عشر : موجبات الاحتباس والاستفراغ ] ●
احتباس ما يجب أن يستفرغ بالطبع يكون، إما لضعف الدافعة، أو لشدة القوة الماسكة، فتشبث به، أو لضعف الهاضمة فيطول لبث الشيء في الوعاء تلبثاً من القوى الطبيعية إياه إلى استيفاء الهضم، أو لضيق المجاري والسدد فيها، أو لغلظ المادة أو لزوجتها، أو لكثرتها فلا تقوى عليها الدافعة، أو لفقدان الإحساس بالحاجة إلى دفعها إذ كان قد تعين في الاستفراغ قوة إرادية كما يعرض في القولنج اليرقاني، أو لانصراف من قوة الطبيعة إلى جهة أخرى كما يعرض في البحارين من شدّة احتباس البول أو احتباس البراز بسبب كون الاستفراغ البحراني من جهة أخرى، وإذا وقع احتباس ما يجب أن يستفرغ عرض من ذلك أمراض.
أما من باب أمراض التركيب، فالسدة والاسترخاء والتشنج الرطب وما يشبه ذلك، وأما من أمراض المزاج فالعفونة، وأيضاً الحار الغريزي واستحالته إلى النارية، وأيضاً انطفاء الحرارة الغريزية من طول الاحتقان أو شدته فيعقبه البرد، وأيضاً غلبة الرطوبة على البدن. وأما من الأمراض المشتركة فانصداع الأوعية وانفجارها. والتخمة من أردأ أسباب الأمراض وخصوصاً إذا وافت بعد اعتياد الخواء مثل ما يقع من الشبع المفرط في الخطب عقيب جوع مفرط في الحدب. وأما من الأمراض المركبة فالأورام والبثور. واستفراغ ما يجب أن يحتبس يكون إما لقوة الدافعة أو لضعف الماسكة أو لإيذاء المادة بالثفل لكثرته أو بالتمديد لريحته أو باللذع لحدته وحرافته أو لرقة المادة، فيكون كأنها تسيل من نفسها فيسهل اندفاعها وقد يعينها سعة المجاري كما يعرض لسيلان المني أو من إنشافها طولاً أو انقطاعها عرضاً أو انفتاحها عن فوهاتها كما في الرعاف وقد يحدث هذا الاتساع بسبب حادث من خارج أو من داخل وإذا وقع استفراغ ما يجب أن يحتبس، عرض من ذلك برد المزاج باستفراغ المادة المشعلة التي يغتذي منها الحار الغريزي، وربما عرض منه حرارة مزاج إذا كان ما يستفرغ بارد المزاج، مثل البلغم، أو قريباً من اعتدال المزاج، مثل الدم فيستولي الحار المفرط كالصفراء فيسخن، قد يعرض من ذلك اليبس دائماً وبالذات، وربما عرضت منه الرطوبة على القياس الذي ذكرناه في عروض الحرارة وذلك عند اعتدال من استفراغ الخلط المجفف أو يعجز من الحرارة الغريزية عن هضم الغذاء هضماً تاماً فيكثر البلغم، لكن هذه الرطوبة لا تنفع في المزاج الغريزي ولا تكون غريزية، كما أن تلك الحرارة لم تكن غريزية بل كل استفراغ مفرط يتبعه برد ويبس في جوهر الأعضاء وغريزتها وإن لحق بعضها حرارة غريبة ورطوبة غير صالحة. وقد يتبع الاستفراغ المفرط من الأمراض لأولي السدة أيضاً لفرط يبس العروق وانسدادها، ويتبعه التشنج والكزاز وأما الاحتباس والاستفراغ المعتدلان المصادفان لوقت الحاجة إليها، فهما نافعان حافظان للحالة الصحية فقد تكلمنا في الأسباب الضرورية بجنسيتها، وإن كانت قد لا يكون أكثر أنواعها ضرورية فلنأخذ في الأسباب الأخرى.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
●[الفصل الثامن عشر: أسباب تتفق للبدن غير ضرورية ولا ضارة]●
ولنتكلم الآن في الأسباب الغير الضرورية ولا الضارة وهي التي ليست بجنسيتها في الطبع ولا هي مضادة للطبع، وهذه هي الأشياء الملاقية للبدن غير الهواء، فإنه ضروري بل مثل الاستحمامات وأنواع الدلك وغيرها، ولنبدأ بقول كلي في هذه الأسباب فنقول: إن الأشياء الفاعلة في بدن الإنسان من خارج بالملاقاة تفعل فيه على وجهين: فإنها تفعل فيه إما بنفوذ ما لطف منها في المسام لقوة فيها غواصة نافذة، أو لجذب الأعضاء إياها من مسامها، أو بتعاون من الأمرين. وإما أن تفعل لا بمخالطة البتة، بل بكيفية صرفه محيلة للبدن وذلك إما لأن هذه الكيفية بالفعل كالطلاء المبرد بالفعل فيبرد، أو الطلاء المسخن بالفعل فيسخن، أو الكماد المسخن بالفعل فيسخن وإما لأن لها هذه الكيفية بالقوة، لكن الحار الغريزي منها يهيج فيها قوة فعالة ويخرجها إلى الفعل. وإما بالخاصية. ومن الأشياء ما يغير بالملاقاة ولا يغير بالتناول مثل البصل، فإنه إذا ضمد به من خارج قرح ولا يقرح من داخل، ومن الأشياء ما هو بالعكس مثل الاسفيداج فإنه إن شرب غير تغييراً عظيماً، وإن طلي لم يفعل من ذلك شيئاً. ومنها ما يفعل من الوجهين جميعاً والسبب في القسم الأول أحد أسباب ستة:
أن مثل البصل إذا ورد على داخل البدن بادرت القوة الهاضمة فكسرته وغيرت مزاجه فلم تتركه بسلامته مدة في مثلها يمكنه أن يفعل فعله ويقرح في الباطن.
والثاني: أنه في أكثر الأمر يتناول مخلوطاً بغيره.
والثالث: أنه يختلط أيضاً في أوعية الغذاء برطوبات تغمره وتكسر قوته.
والرابع: أنه إنما يلزم من خارج موضعاً واحداً، وأما من داخل فلا يزال ينتقل.
والخامس: أنه إما من خارج فيلتصق إلصاقاً موثقاً، وأما من داخل فإنما يماس مماسة غير ملتصقة.
والسادس: أنه إذا حصل في الباطن تولت تدبيره القوة الطبيعية، فلم يلبث الفضل منه أن يندفع والجيد أن يستحيل دماً وأما ما يختلف من حال الاسفيداج فالسبب فيه أنه غليظ الأجزاء، فلا ينفذ في المسام من خارج وإن نفذ لم يمعن إلى منافس الروح وإلى الأعضاء الرئيسة، وأما إذا تنوول كان الأمر بالعكس، وأيضاً ف!ن الطبيعة السمية التي فيها لا تثور إلا بفرط تأثير الحار الغريزي الذى فينا فيه، وذلك مما لا يحصل بنفس الملاقاة خارجاً، وربما عاد عليك في كتاب الأدوية المفردة كلام من هذا القبيل.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [الفصل التاسع عشر: موجبات الإستحمام والتضحّي بالشمس] ●
والإندفان في الرمل والاستنقاع في الأدهان ورش الماء على الوجه
قالى بعض المتحذلقين: خيرُ الحَمام ما قدَمُ بناؤه واتسع هواؤه وعذب ماؤه وزاد آخر وقدر الأتون توقد بقدر مزاج من أراد وروده. واعلم أن الفعل الطبيعي للحمام هو التسخين بهوائه أو الترطيب بمائه. والبيت الأول مبرد مرطب. والثاني مسخن مرطب. والثالث مسخّن مجفّف. ولا يلتفت إلى قول من يقول: إن الماء لايرطب الأعضاء الأصلية تشرّباً ولا لفًا لأنه قد يعرض من الحمام بعدما وصفناه من تأثيراته وتغييراته تغييرات أخرى، بعضها بالعرض، وبعضها بالذات، فإن الحمام قد يعرض له أن يبرد بهوائه من كثرة التحليل للحار الغريزي، وأن يجفف أيضاً جوهر الأعضاء التحليلية لكثير الرطوبات الغريزية، وإن أفاد رطوبات غريبة. وإذا كان ماؤه شديد السخونة يتقشعر منه الجلد فيستحصف مسامه، لم يتأد من رطوبته إلى البدن شيء ولا أجاد تحليله. وماؤه قد يسخن ويبرد أما تسخينه، فبحماه إن كان حاراً إلى السخونة ما هو دون الفاتر فإنه يبرّد ويرطب، وبالحقن إذا كان بارداً فإنه يحقن الحرارة المستفادة من هوائه ويجمعها في الأحشاء إذا أورد بارداَ على البدن، وأما تبريده، فذلك إذا كثر فيه الاستنقاع فيبرد من وجهين: أحدهما لأن الماء بالطبع بارد فيبرد آخر الأمر، وإن سخن بحرارة عرضية لا يثبت بل يزول ويبقى الفعل الطبيعي لما تشربه البدن من الماء وهو التبريد، وأيضاً فإن الماء وإن كان حاراً أو بارداً فهو أرطب، وإذا أفرط في الترطيب حقن الحار الغريزي من كثرة الرطوبة فيطفئها فيبرد. والحمام قد يسخن بالتحليل أيضاً إذا وجد غذاء لم ينهضم وخلطاَ بارداً لم ينضج فيهضم ذلك.
والحمام قد يستعمل يابساً فيجفف وينفع أصحاب الإستسقاء أو الترهل ، وقد يستعمل رطباً فيرطب وقد يقعد فيه كثيراً فيجفف بالتحليل والتعريق وقد يقعد فيه قليلاً فيرطب بانتشاف البدن منه قبل التعرق. والحمام قد يستعمل على الريق والخواء فيجفّف شديداً ويهزل ويضعف، وقد يستعمل على قرب عهد بالشبع فيسمن بما يجذب إلى ظاهر البدن من المادة إلا أنه يحدث السدد بما ينجذب بسببه إلى الأعضاء من المعدة والكبد من الغذاء الغير النضج، وقد يستعمل عند آخر الهضم الأول قبل الإخلاء فينفع ويسمن باعتدال ومن استعمل الحمّام للترطيب كما يستعمله أصحاب الدق، فيجب عليهم أن يستنقعوا في الماء، ما لم تضعف قواهم ثم يتمرخوا بالدهن ليزيد في الترطيب وليحبس المائية النافذة في المسام ويحقنها داخل الجلد، وأن لا يبطئوا المقام، وأن يختاروا موضعاً معتدلاً، وأن يكثروا صب الماء على أرض الحمام ليكثر البخار فيرطب الهواء، وأن ينقلوا من الحمام من غير عناء ومشقة يلزمهم بل على محفة تتخذ لهم، وأن يطيبوا بالطيب البارد كما يخرجون وأن يتركوا في المسلخ، ساعة إلى أن يعود إليهم النفس المعتدل، وأن يسقوا من المرطبات شيئاً مثل ماء الشعير ومثل لبن الأتان. ومن أطال المقام في الحمام خيف عليه الغشي بإسخائه القلب. ويثرر به أولاً الغثي .
وللحمام مع كثرة منافعه مضار فإنه يسهل انصباب الفضول إلى الأعضاء التي بها ضعف، ويرخي الجسد ويضرّ بالعصب، ويحلل الحرارة الغريزية، ويسقط الشهوة للطعام، ويضعف قوة الباه. وللحمام فضول من جهة المياه التي تكون فيه، فإنها إن كانت نطرونية كبريتية أو بحرية أو رمادية أو مالحة طبعاً أو بصنعة بأن يطبخ فيها شيء من ذلك، أو يطبخ فيها مثل الميوزج ومثل حب الغار، ومثل الكبريت وغير ذلك، فإنها تحلل وتلطف وتزيل الترهل والتربّل ويمنع انصباب المواد إلى القروح وينفع أصحاب العرق المديني. والمياه النحاسية والحديدية والمالحة أيضاً تنفع من أمراض البرد والرطوبة ومن أوجاع المفاصل والنقرس والإسترخاء والربو وأمراض الكلي، وتقوي جبر الكسر تنفع من الدماميل والقروح. والنحاصية تنفع الفم واللهاة والعين المسترخية ورطوبات الأذن. والحديدية نافعة للمعحة والطحال. والبورقية المالحة تنفع الرؤوس القابلة للمواد والصدر الذي بتلك الحال وتنفع المعدة الرطبة وأصحاب الإستسقاء والنفخ. وأما المياه الشبية والزاجية فينفع الاستحمام فيها من نفث الدم ومن نزف المقعدة والطمث ومن تقلب المعدة ومن الإسقاط يغر سبب ومن التهيّج وفرط العرق. وأما المياه الكبريتية فإنها تنقي الأعصاب وتسكن أوجاع التمدّد والتشنج وتنقي ظاهر البدن من البثور والقروح الرديئة المزمنة والآثار السمجة والكلف والبرص والبهق، ويحلل الفضول المنصبة إلى المفاصل وإلى الطحال والكبد وتنفع من صلابة الرحم، لكنها ترخي المعدة وتسقط الشهوة. وأما مياه القفرية فإن الاستحمام فيها يملأ الرأس، ولذلك يجب أن لا يغمس المستحم بها رأسه فيها، وفيها تسخين في مدة متراخية وخصوصاً للرحم والمثانة والقولون ولكنها رديئة للنساء. ومن أراد أن يستحم في الحمامات فيجب أن يستحم فيها بهدوء وسكون ورفق وتدريج غير بغتة، وربما عاد عليك في باب حفظ الصحة من أمر الحمام ما يجب أن يضيف النظر فيه إلى النظر إلى ما قيل وكذلك القول في استعمال الماء البارد. وأما التضحي إلى شمس الحارة وخصوصاً متحركاً لا سيما متحركاً حركة شديدة، كالسعي والعدو مما يحلل الفضول بقوة، ويعرّق النفخ ويحلل أورام التربل والاستسقاء، وينفع من الربو ونفس الانتصاب، ويحلل الصداع البارد المزمن ويقوي الدماغ الذي مزاجه بارد، وإذا لم يتبل من تحته بل كان مجلسه يابساً نفع أوجاع الورك والكي وأوجاع الجذام واختناق الدم ونقى الرحم. فإن تعرض للشمس كثف البدن وقشفه وحممه وصار كالكي على فوهات المسام ومنع التحلّل. والسكون في الشمس في موضع واحد أشد في إحراق الجلد من التنقل فيها، وهو أمنع للتحلل. وأقوى الرمال في نشف الرطوبات من نواحي الجلد رمال البحار، وقد يجلس عليها وهي حارة وقد يندفن فيها وقد ينثر على البدن قليلاً قليلاً فيحلل الأوجاع والأمراض المذكورة في باب الشمس. وبالجملة يجفف البدن تجفيفاً شديداً. وأما الاستنقاع في مثل الزيت فقد ينفع أصحاب الاعياء وأصحاب الحميات الطويلة الباردة والذين بهم حمياتهم مع أوجاع عصب مفاصل، وأصحاب التشنج والكزاز واحتباس البول. ويجب أن يكون الزيت مسخّناً من خارج الحمام. وأما إن انطبخ فيه ثعلب أو ضبع على ما نصفه فهو أفضل علاج لأصحاب أوجاع المفاصل والنقرس. وأما بل الوجه ورش الماء عليه فإنه ينعش القوة المسترخية من الكرب ولهيب الحميات وعند الغشي وخصوصاً مع ماء ورد وخل، وربما صحح الشهوة وأثارها ويضرّ أصحاب النوازل والصداع.
● [تمت الجملة الأولى من التعليم الثانى وهى تسعة عشر فصلآ] ●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة