من طرف اسرة التحرير الأربعاء نوفمبر 25, 2015 7:05 am
بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة علوم القرآن الإعجاز البياني للقرآن الكريم الفصول من التاسع وحتى الثالث عشر ● [ الفصل التاسع ] ● رد شبهة حول الإعجاز
● قد يقال إن عجز أهل عصر النبي فقد لا يعجز من أتى بعدهم: فإن قال قائل: قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وإن كان من بعدهم من أهل الإعصار لم يعجزوا. ● الجواب على هذا القول قيل: هذا سؤال معروف، وقد أجيب عنه بوجوه: منها ما هو صواب ومنها ما فيه خلل، لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الأخبار عن الغيوب، إن قدروا على مثل نظمه فقد سلم المسألة، لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده. ● إذا عجز أهل النبي فمن بعدهم أعجز: والوجه أن يقال فيه طرق: منها: أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمن بعدهم أعجز، لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم، أو يساووهم فأما أن يتقدموهم أو يسبقونهم فلا. ● تحققنا عجز سائر أهل الأعصار: ومنها: أنا قد علمنا عجز سائر أهل الإعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافر في الطباع على حد، والتكلف على منهاج لا يختلف، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ( قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجنُّ عَلَى أَن يأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأَتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظهيراً ).
● [ الفصل العاشر ] ● في التحدي
● لا يصح بعثة نبي من غير أن يؤتى دلالة: يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآيتهم، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيد بآية، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا بقول نفسه، ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه.. فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي، وكانوا عاجزين عنها، صح له ما ادعاه، ولو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهاناً له، وليس يكون ذلك معجزاً إلا إذا تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، بأن تحداهم وبان عجزهم صار ذلك معجزاً. ● احتيج في القرآن إلى التحدي: وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي، لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزة، فإنما يعرف أولاً إعجازه بطريقه، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزاً فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف هذا، حتى يمكنه أن يستدل به. ● متى رأى العرب عجزهم، صار القرآن بمنزلة معجزات الأنبياء السابقين: ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه، والتقريع به، والتمكين منه، صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء وانقلاب العصا ثعباناً تتلقف ما يأفكون. ● أهل الصنعة العربية يعرفون عجزهم وإعجازه: وأما من كان من أهل صنعة العربية، والتقدم في البلاغة ومعرفة فنون القول ووجوه المنطق، فإنه يعرف حين يسمعه عجزه عن الإتيان بمثله، ويعرف أيضاً أهل عصره ممن هو في طبقته، أو يدانيه في صناعته، عجزهم عنه، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزاً. ● لا يكون القرآن معجزاً حتى يعجز الجميع: ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزاً حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه، لم يجز أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه، وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه، ثم يعرف حينئذ كونه معجزاً. وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطأ، فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة، في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم، منزلة من إذا رأى اليد البيضاء، وفلق البحر عرف بأن ذلك معجز. ● كيف يعرف الإعجاز من لم يكن من أهل الصنعة: وأما من لم يكن من أهل الصنعة، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة، يعرف بها كونه معجزاً، فيساوي حينئذ أهل الصنعة، فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه، على سواه إذا ادعاه، دلالة على نبوته وبرهاناً على صدقه. فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزاً إلا بالتحدي إليه، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى عليهما السلام ليست بآيات، حتى يقع التحدي إليها، والحض عليها، ثم يقع العجز عنها. فيعلم حينئذ أنها معجزات، وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة. ● كيف يعرف الأعجمي إعجاز القرآن: ويبين ما ذكرناه في غير البليغ، أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهداً له، لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولاً أن العرب عجزوا عنه. وإنما يعلم، عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب إلي فعجزوا عنه، ويحتاج في النقل إلى شروط، وليس يصير القرآن بهذا النقل معجزاً، كذلك لا يصير معجزاً بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأبلغهم، بل هو معجز في نفسه، وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه.
● [ الفصل الحادي عشر ] ● في قدر المعجز من القرآن
● قدر المعجز عند الأشعريين: الذي ذهب إليه عامة أصحابنا، وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه، أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة، قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها. قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف السورة، وإن كانت سورة الكوثر، فذلك معجز. قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر. ● قدر المعجز عند المعتزلة: وذهب المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة.. وقد حكي عنهم نحو قولنا، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة، بل شرط الآيات الكثيرة، وقد علمنا أنه تحداهم تحدياً إلى السور كلها ولم يخص. ولم يأتوا لشيء منها بمثل، فعلم أن جميع ذلك معجز. وأما قوله عز وجل: ( فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ )، فليس بمخالف لهذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة، وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده، وإن كان قد يتأول قوله: ( فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) على أن يكون راجعاً إلى القبيل دون التفصيل، وكذلك يحمل قوله تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) على القبيل، لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره. ● إعجاز السور القصار وإعجاز السور الطوال: فإن قيل: هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون به إعجاز السور الطوال، وهل تعرفون إعجاز كل من قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها، فالجواب أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها.. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول: إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفاً. والطريقة الأولى أسدّ، وليس هذا الذي ذكرناه أخيراً بمناف له، لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة، تتوافى عليه، وتجتمع فيه. ● في اختلاف الأجوبة ضرب من الفائدة: واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضرباً من الفائدة، لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزاً في كل سورة صغرت أو كبرت، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحداً. والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها، في بناء من التفصيل الذي بينا، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة، وتتبين فيه البلاغة، حتى يعلم ذلك بوجه آخر، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزاً حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء، من التقدم في الصنعة، وهذا غير ممتنع، ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر، وفي بعضها أغمض، وقد لا يحتاج في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير، ولا بحث شديد، حتى يتبين له الإعجاز، ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق، وبحث لطيف، حتى يقع على الجلية، ويصل إلى المطلب، ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور، فيحتاج أن يفرع فيه إلى إجماع أو توقيف، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه. ● إن ادعى ملحد أن الإعجاز لا يقع في القصار: فإن ادعى ملحد، أو زعم زنديق، أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار، أو الآيات بهذا المقدار. قلنا له: إن الإعجاز قد حصل بما بيناه، وعرف بما وقفنا عليه، من عجز العرب عنه. ثم فيه شيء آخر، وهو أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز، فكيف يجوز أن يناظره على تفصيله، وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال قامت الحجة عليه، وثبتت المعجزة، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات. ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف ونحو ذلك. ● ليس بممتنع أن يكون الإعجاز في بعض القرآن أظهر: وليس بممتنع اختلاف حال الكلام، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر، وفي بعضه أغمض. ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموماً، على ما قال الله تعالى: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )، وقال: ( وَتُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )، فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع، وإن كنا نقول أنه يدل على أن الشفاء في جميعه.
● [ الفصل الثاني عشر ] ● في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة
● النبي يعلم الإعجاز ضرورة: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ضرورة، وكونه معجزاً يعلم بالاستدلال، وهذا المذهب محكي عن المخالفين. ● الأعجمي يعلم الإعجاز بالاستدلالاً: والذي نقوله في هذا أن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من لم يكن بليغاً. ● البليغ يعلم من نفسه ضرورة عجزه: فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية، وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الاتيان بمثله ، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه، كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره استدلالاً.
● [ الفصل الثالث عشر ] ● فيما يتعلق به الإعجاز
● ما الذي وقع التحدي إليه: إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه، أهو الحروف المنظومة، كنظمها متتابعة كتتابعها أو الكلام القائم بالذات، أو غير ذلك، ● تحداهم بنظم القرآن لا بمثل الكلام القديم: قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها ،متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها، ولم يتحداهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له، وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروق المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأمارات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكين بما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم . ● التوراة والإنجيل كلام قديم وليس بمعجز في النظم: ولا يجب أن يقدر مقدر، أو يظن ظان، أنا حين قلنا: إن القرآن معجز فإنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات. وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزاً لكونه عبارة عن الكلام القديم، لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه، وليست بمفردها بمعجزة. ● جوز البعض أن يكون التحدي إلى مثل الكلام القديم: وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه، والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس.. ولم يجب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه، وما يتصل به، لأنه خارج عن غرض كتابنا، لأن الإعجاز وقع في نظم الحروف، التي هي دلالات وعبارات عن كلامه، وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي، فبينا وجه ذلك، وكيفية ما يتصور القول فيه، وأزلنا توهم من يتوهم أن الكلام القديم حروف منظومة، أو حروف غير منظومة، أو شيء مؤلف، أو غير ذلك، مما يصح أن يتوهم، على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.
مُختصر: كتاب إعجاز القرآن تأليف : الباقلاني منتديات الرسالة الخاتمة . البوابة