من طرف اسرة التحرير الأربعاء نوفمبر 25, 2015 7:10 am
بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة علوم القرآن الإعجاز البياني للقرآن الكريم من الفصل الخامس عشر وحتى ختام الكتاب ● [ الفصل الخامس عشر ] ● في حقيقة المعجز
تعريف المعجز معنى قولنا إن القرآن معجز على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه، وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح دخوله تحت قدرة العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه. كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام. فنحن لا نقدر على ذلك، وإن لم يصح وضعنا بأن عاجزون عن ذلك حقيقة، وكذلك معجزات سائر الأنباء على هذا. فلما لم يقدر عليه أحد، شبه بما يعجز عنه العاجز. ● لو قدر على مثل القرآن العباد لبطلت دلالة المعجز: وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله، لأنه لو صحّ أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز، وقد أجرى العادة أن يتعذر فعل ذلك منهم وأن لا يقدروا عليه، ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله، وعرضوا عليه من كلام فصائحهم وبلغائهم ما يعارضه. فلما لم يشتغلوا بذلك، علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه. ● التواضع ليس على قول الشعر ووجوه النظم: وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر، ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع، ولا يحتاج في مثله إلى توقيف: وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب، فلما جرى فيه فطنوا له، واختاروه، وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي، ثم وقفوا على حسن ذلك، وقدروا عليه بتوفيق الله عز وجل، وهو الذي جمع خواطرهم عليه، وهداهم له، وهيأ دواعيهم إليه. ولكنه أقدرهم على حد محدود، وغاية في العرف مضروبة، لعلمه بأن سيجعل القرآن معجزاً، ودل على عظم شأنه، بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف، وعلى ما وصفنا من النظم، من غير توقيف، ولا اقتضاء أثر، ولا تحد عليه، ولا تقريع. ● القرآن لم يكن من القبيل الذي عرفوه: فلو كان هذا من ذلك القبيل، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه، لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف وقد أمهلهم، وفسح لهم في الوقت، وكان يدعو إليه سنين كثيرة? وقال عز من قائل: ( أَوَ لَمْ نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَك النَّذِيرُ ). وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع، والتحدي، بأنه خارج عن عاداتهم، وأنهم لا يقدرون عليه. ● العرب تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ: وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن، وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة. والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن، وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة، لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال، ولو لم يكن جرى في العلوم أنه سيجعل القرآن معجزاً، لكان يجوز أن تجري عادات الأولين، وأخبار المرسلين. ● إخبار عن الغيوب: وكذلك لا يوجد خلاف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب، وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي، فلا مخرج من أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه من يبطله من شبهة سابقة، تقدح في معجزته، أو تعارضه في طريقه. ● لن يأتي أحد من بعده يشكك في وجه دلالته وإعجازه: وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته وإعجازه، وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه. ثم قال: ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً أَعْجَميّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلتْ آياتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَربِيٌّ ). فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده، إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه، بأنهم لا يتبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم، ولا من لسانهم أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم، فعجزوا عنه، وحيث الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: ( قُلْ أَرَأْيتُم إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ). والذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكرهنا سرد القول فيها، فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه، يجده كذلك. ● الكتاب آية من آيات الله: ثم مما يدل على هذا قوله عزَّ وجلَّ: ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلْيِهِ آياتٌ مِنْ رَّبِّهِ قُلْ إِنَّما الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وإِنَّما أَنَّا نّذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَ لَمْ يَكْفِهِم أَنَّا أَنزَلنا عَلَيكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )، فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وأن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره، وآيات سواء من الأنبياء صلوات الله عليهم. ويدل عليه قوله عز وجل: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نذيراً ). وقوله: ( أَم يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يختِم على قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحقَّ بِكَلِمَاتِهِ )، فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره، وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل، مع صرفه عنه. ● بناء نبوة محمد على دلالة القرآن ومعجزته: ولذلك أشباه كثيرة تدل نحو الدلالة التي وصفناها، فبان بهذا، وبنظائر ما قلناه، أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلامُ الله تعالى. وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما تضمنه من الإخبار عن الغائبات والغيوب معجزاً. ● لا يشارك القرآن في الإعجاز كتاب منزل: وليس كذلك القرآن لأنه يشاركها في هذه المنزلة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه، لأن موسى عليه السلام لم سمع كلامه، علم أنه في الحقيقة كلامه، وكذلك من يسمع القرآن، يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الحال في ذلك عند البشر، بقدر زائد على ما ألقوه من البلاغة، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة. ● الله يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد لها: وأما نظم القرآن: فقد قال أصحابنا إن الله تعالى يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد عليها... وقال مخالفونا؛ إن هذا غير ممتنع، لأن فيه الكلمات الشريفة، الجامعة للمعاني البديعة، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية، لأنه عندهم وإن زاد على ما في العادة، فإن الزائد عليها وإن تفاوت فلابد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه.. والذي نقول: إنه لا يمتنع أن يقال: إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله، وأما قدرة العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه.
● [ الفصل السادس عشر ] ● في كلام النبي وأمور تتصل بالإعجاز
فصاحة القرآن وفصاحة الرسول إن قال قائل: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد قال هذا في حديث مشهور، وهو صادق في قوله، فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره. ● قيل: قد علمنا أنه لم يتحدَّهم إلى مثل قوله وفصاحته، والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء كقدر ما بين شعر الشاعرين وكلام الخطيبين في الفصاحة، ذلك مما لا يقع به الإعجاز. وقد بينا هذا، فإنا إذا وازنا بين خطبه صلى الله عليه وسلم ورسائله وكلامه المنثور. وبين نظم القرآن، تبين من البون الواضح بينهما الفرق ما بين كلام الله عز وجل وكلام اليشر. ● البون بين كلام الله ورسوله: ولا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم معجز وإن كان دون القرآن في الإعجاز. فقد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت الكثير، ولا يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لأنه خارج من جميع ذلك. فلو وازنا بين نظم خطبه صلى الله عليه وسلم ورسائله وكلامه المنثور. لوجدنا أن مستوى الفصاحة فيها واحد، فإذا وازنا بينها وبين نظم القرآن، تبين لنا الفرق الواضح بين كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، إضافة الى انه قد سبق أن بينا قبل هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتحداهم إلى مثل قوله وفصاحته، وإنما الذى يتحداهم هو الله عز وجل، فأعجزهم وأفحمهم. ● فإن قيل لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن، وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هو من القرآن أم لا، ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط. ● نقول: هذا خبر آحاد لا يُسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل عليه، وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه، لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه. ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه. ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة ناظرته على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه، وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، ثم على مصحف عثمان رضى الله عنه، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة بالإجماع المتقرر، والإتفاق المعروف. ويجوز أن يكون الناقل أشبه عليه، لأنه خالف في النظم والترتيب، فلم يثبتهما في آخر القرآن، والإختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل،
● [ الفصل السابع عشر ] ● شروط المعجز
● من شروط المعجز أن يعلم من ظهر عليه إن قيل: هل من شروط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه. قيل: لابد من ذلك. لأنا لو لم نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أتى بالقرآن، وظهر ذلك من جهته، لم يمكن أن يستدل به على نبوته. وعلى هذا لو تلقى رجل منه سورة، فأتى بها بلداً؛ وادعى ظهورها عليه، وإنها معجزة له، لم تقم الحجة عليهم، حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه، وقد حققنا أن القرآن أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وظهر من جهته، وجعله علماً على نبوته، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.
● [ الفصل الثامن عشر ] ● حول الإعجاز
لماذا اخترنا الوجيز من القول. قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزاً من القول، رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع، والكلام في أوصافه إن استقصى بعيد الأطراف، واسع الأكناف، لعلو شأنه وشريف مكانه. والذي سطرناه في الكتاب وأن كان موجزاً، وما أمليناه فيه وإن كان خفيفاً، فإنه ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة، ومتى عظم محل الشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيَّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً، وقد قال الحكيم - وقد سئل عن البليغ متى يكون عيباً - فقال: متى وصف هوى أو حبيباً. وضل أعرابي في سفر له ليلاً وطلع القمر فاهتدى به. فقال ما أقول لك، أقول: رفعك الله وقد رفعك، أما أقول نورك الله وقد نورك، أم أقول جملك الله وقد جملك. ولولا أن العقول تختلف، والأفهام تتباين، والمعارف تتفاضل، لم نحتج إلى ما تكلفنا، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة، ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم، لاتصاله بأسباب، وتعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر، كثيرة المذاهب، قليلة الطلاب، ضعيفة الأصحاب، وبحسب تأتي مواقعه يقع الإفهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه. فإذا كان نقد الكلام كله صعباً، وتمييزه شديداً والوقوع على اختلاف فنونه متعذراً، وهذا في كلام الآدمي، فما ظنك بكلام رب العالمين. ● البلاغة واسعة ولا يفطن منها إلا اليسير: قد أبنا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام، لا يعرف من البلاغة إلا القليل، ولا يفطن منها إلا لليسير. ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر، فهو متطرف... بلى إن كانوا يقولون إن هذه من وجوه البلاغة، وغرر البديع، وأصول اللطيف، وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق الأصل، ومردود على القاعدة، فهذا قريب. ● القرآن يشتمل على بلاغة منفردة: وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف، ثم الفواتح والخواتم، والمبادىء والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل. ثم إن الكلام في نظم السور والآيات في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل. ثم الكلام الموشَّح والمرصَّع، والمفصّل والمصرّع، والمجنّس والموشى، والمحلّى والمكلّل، والمطوّق والمتوّج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه. ثم الخروج من فصل إلى فصل، ووصل إلى وصل ومعنى إلى معنى، ومعنى في معنى، والجمع بين المؤتلف والمختلف، والمتفق والمتسق، وكثرة التصرف، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف، وخروجه عن التعمق والتشدق، وبعده عن التعمل والتكلف، والألفاظ المفردة، والإبداع في الحروف والأدوات، كالإبداع في المعاني والكلمات، والبسط والقبض، والبناء والنقض، والإختصار والشرح، والتشبيه والوصف، وتميز الإبداع من الإتباع، كتميز المطبوع عن المصنوع، والقول الواقع عن غير تكلف ولا تعمل. وأنت تتبين في كل ما تصرف فيه من الأنواع، أنه على سَمْت شريف، ومرقب منيف، يبهر إذا أخذ في النوع الربي والأمر الشرعي، والكلام الإلهي، الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت، وشرف الجبروت، ومما لا يبلغ مواقعه، من حكمة وأحكام، واحتجاج وتقرير، واستشهاد وتقريع، وأعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، وتنبيه وتلويح، وإشباع وتصريح، وإشارة ودلالة، وتعليم أخلاق زكية، وأسباب رضية، وسياسات جامعة، ومواعظ نافعة، وأوامر صادعة، وقصص مفيدة، وثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وأوصاف كما يستحقه وتحميد كما يستوجبه، وإخبار عن كائنات في التأتي صدقت، وأحاديث عن المؤتنف تحققت، ونواه زاجرة عن القبائح والفواحش، وإباحة الطيبات، وتحريم المضار والخبائث، وحث على الجميل والإحسان. ● نجد في القرآن الحكمة وفصل الخطاب: نجد فيه الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك. في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير متعاص على الأسماع، ولا مغلق على الأفهام، ولا مستكره في اللفظ، ولا متوحش في المنظر، غريب في الجنس، غير غريب في القبيل، ممتلىء ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضيء كما يضيء الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح العباب جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الأفق، والغيب الشامل، والضياء الباهر، ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ). من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله، وصح جهله، إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه? وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً، وأقرب مأخذاً، وأسهل مطلباً، ولذلك قالوا: فلان مفحم، فأخرجوه مخرج العيب، كما قالوا: فلان عيي، فأوردوه مورد النقص. ● القرآن برهان وهو أعظم من برهان موسى وعيسى: والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له براهين الأولياء المتقدمين، وبينة على طريقة ما سلف الأولون.. تحداهم به إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا في النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم، فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما برعوا فيه من سحرهم، وأنت على ما أجمعوا عليه من أمرهم، وكما سخر لسليمان من الرياح والطير والجن، حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة، وبدائع من اللطف.. ثم كانت هذه المعجزة مما تقف عليه الأول والآخر وقوفاً واحداً، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة. الحق منهج واضح أنظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر في الذي دللناك عليه، فالحق منهج واضح، والدين ميزان راجح، والجهل لا يزيد إلا غماً، ولا يورث إلا ندماً، قال الله عزّ وجلّ: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ )، وقال: ( وَكَذَلَكَ أَوْحَينَا إِليَكَ رَوُحاً مِنْ أَمْرِنَا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) وقال: ( يُضَلُّ بِهِ كَثِيرَاً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً ). وعلى حسب ما آتى من الفضل، وأعطى من الكمال والعقل، تقع الهداية والتبيين، فإن الأمور تتم بأسبابها، وتحصل بآلتها، ومن سلبه التوفيق، وحرم الرشاد والتسديد، فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت: ( وقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْمَاً )، ( وَقُلْ رَبِّ أَعوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَيَاطِينِ ).وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة، وتقدم في المعرفة، فسيقع بك على الطريق الأرشد، ويقف بك على الوجه الأحمد، فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علماً، وتيقنت فهماً. ولا يوسوس إليك الشيطان، بأنه قد كان ممن هو أعلم منك بالعربية، وأرجح منك في الفصاحة، أقوام وأقوام، ورجال ورجال، فكذبوا وارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز، ولكن اختلفت أحوالهم: فكانوا بين جاهل وجاحد، وبين كافر نعمة وحاسد، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات وحائر عن النظر في الدلالات، وناقص في باب البحث ومختل الآلة في وجه الفحص، ومستهين بأمر الأديان، وغاو تحت حبالة الشيطان، ومقذوف بخذلان الرحمن... وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة، ودرجات الحرمان مختلفة. وهلاَّ جعلت بإزاء الكفرة مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت، وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا.. على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر. ● اعتصم بالله: وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله، ولا توفيق إلا بنعمة الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فتأمل ما عرفناك في كتابنا، وفرغ له قلبك، وأجمع له لبك، ثم اعتصم بالله يهدك، وتوكل عليه يغنك ويجزك، واسترشده يرشدك، وهو حسبي وحسبك ونعم الوكيل.
تم مُختصر: كتاب إعجاز القرآن تأليف : الباقلاني والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله منتديات الرسالة الخاتمة . البوابة