بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
الحديث التاسع والثلاثون والحديث الأربعون
● [ الحديث التاسع والثلاثون ] ●
عَنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ ، وما استُكْرِهُوا عليهِ ) . حديثٌ حسَنٌ رَواهُ ابنُ ماجهْ والبَيَهقيُّ وغيرهما.
هذا الحديثُ خرَّجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّجه ابنُ حبَّان في " صحيحه " والدارقطني، وعندهما : عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر ، ورواتُه كلهم محتجٌّ بهم في " الصحيحين " وقد خرَّجه الحاكم، وقال : صحيح على شرطهما . كذا قال ، ولكن له علة ، وقد أنكره الإمام أحمد جداً ، وقال : ليس يُروى فيه إلاَّ عن الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً . وقيل لأحمد : إنَّ الوليد بن مسلم روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله، فأنكره أيضاً.
وذكر لأبي حاتم الرازي حديثُ الأوزاعي ، وحديث مالك ، وقيل له : إنَّ الوليد روى أيضاً عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثله، فقال أبو حاتم : هذه أحاديث منكرة كأنَّها موضوعة ، وقال : لم يسمع الأوزاعيُّ هذا الحديث من عطاءٍ ، وإنَّما سمعه من رجل لم يسمه ، أتوهَّمُ أنّه عبدُ الله بن عامر ، أو إسماعيل بن مسلم ، قال : ولا يصحُّ هذا الحديث ، ولا يثبت إسنادُه.
قلت : وقد رُوي عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عُبيد بن عُمَير مرسلاً من غير ذكر ابن عباس، وروى يحيى بنُ سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : بلغني أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عَنِ الخطأ والنِّسيان ، وما استُكرهوا عليه ) خرَّجه الجوزجاني ، وهذا المرسلُ أشبه.
وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً رواه مسلم بن خالد الزنجي ، عن سعيد العلاف ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تُجُوِّزَ لأمَّتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه ) خرَّجه الجوزجاني . وسعيد العلاف : هو سعيد بن أبي صالح ، قال أحمد : وهو مكيٌّ ، قيل له : كيف حالُه ؟ قالَ : لا أدري وما علمتُ أحداً روى عنه غير مسلم بن خالد، قالَ أحمد : وليس هذا مرفوعاً ، إنَّما هوَ عن ابن عباس قوله . نقل ذَلِكَ عنه مهنا ، ومسلم بن خالد ضعفوه.
وروي من وجه ثالثٍ من رواية بقية بن الوليد ، عن عليٍّ الهمداني ، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعاً ، خرَّجه حرب ، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تُساوي شيئاً.
ورُوي من وجه رابع خرَّجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد الرحيم هذا ضعيف.
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ أُخَر ، وقد تقدَّم أنَّ الوليد بن مسلم رواه عن مالك، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً ، وصححه الحاكم وغرَّبه، وهو عند حُذَّاق الحفّاظ باطل على مالك ، كما أنكره الإمامُ أحمد وأبو حاتم ، وكانا يقولان عن الوليد : إنَّه كثيرُ الخطأ . ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود ، قال : روى الوليدُ بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصلٌ ، منها : عن نافع أربعة. قلت : والظاهر أنَّ منها هذا الحديث ، والله أعلم.
وخرَّجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعتُ أبا الأشعث يُحدث عن ثوبان عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله - عز وجل - تجاوز عن أمتي عن ثلاثة : عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ). و يزيد بن ربيعة ضعيف جداً.
وخرَّج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أمِّ الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه ) . قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }. وأبو بكر الهذلي متروك الحديث.
وخرَّجه ابن ماجه، ولكن عنده عن شهر ، عن أبي ذرٍّ الغفاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكر هوا عليه ) ولم يذكر كلام الحسن.
وأما الحديث المرسل عن الحسن ، فرواه عنه هشام بن حسّان، ورواه منصور ، وعوف عن الحسن من قوله ، لم يرفعه . ورواه جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعاً، وجعفر وأبوه ضعيفان.
قال محمدُ بن نصر المروزي: ليس لهذا الحديث إسنادٌ يحتجُّ به حكاه البيهقي.
وفي " صحيح مسلم " عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال لما نزل قولُه تعالى { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال الله : قد فعلتُ.
وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنَّها لما نزلت ، قال : نعم، وليس واحدٌ منهما مصرّحاً برفعه .
وخرّج الدارقطني من رواية ابن جُريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، وما أكرهوا عليه ، إلاَّ أنْ يتكلَّموا به أو يعملوا ) ، وهو لفظ غريب . وقد خرَّجه النسائي ولم يذكر الإكراه . وكذا رواه ابنُ عُيينة عن مِسعَرٍ ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : ( وما استكرهوا عليه ) خرَّجه ابن ماجه. وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة ، ولم يُتابعه عليها أحد . والحديث مخرَّجٌ من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها.
ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع ، فقوله : ( إنَّ الله تجاوز لي عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان ) إلى آخره تقديره : إنَّ الله رفع لي عن أُمَّتي الخطأ ، أو ترك ذلك عنهم ، فإنَّ ( تجاوز ) لا يتعدّى بنفسه.
وقوله : ( الخطأ والنسيان ، وما استُكرِهُوا عليه ). فأما الخطأ والنسيان ، فقد صرَّح القرآن بالتَّجاوُزِ عنهما قال الله تعالى : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، وقال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
وفي " الصحيحين " عن عمرو بن العاص سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا حكمَ الحاكمُ ، فاجتهد ، ثم أصابَ ، فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ ، فله أجر ).
وقال الحسن : لولا ما ذَكَر الله من أمر هذين الرجلين - يعني : داود وسليمان - لرأيت أنَّ القُضاةَ قد هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه ، وعَذَرَ هذا باجتهاده: يعني : قوله : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } الآية.
وأما الإكراه فصرَّح القرآن أيضاً بالتجاوز عنه ، قال تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ }، وقال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } الآية.
ونحن نتكلم إنْ شاء الله في هذا الحديث في فصلين : أحدهما في حكم الخطأ والنسيان ، والثاني في حكم الإكراه.
● [ الفصل الأول ] ●
في الخطأ والنسيان
في الخطأ والنسيان
الخطأ : هو أن يَقصِدَ بفعله شيئاً ، فيُصادف فعلُه غير ما قصده ، مثل : أنْ يقصد قتلَ كافرٍ ، فيصادف قتله مسلماً .
والنسيان : أنْ يكون ذاكراً لشيءٍ ، فينساه عندَ الفعل ، وكلاهما معفوٌّ عنه ، بمعنى أنَّه لا إثمَ فيه ، ولكن رفعُ الإثم لا يُنافي أنْ يترتَّب على نسيانه حكم .
كما أنَّ من نسيَ الوضوء ، وصلَّى ظانّاً أنَّه متطهِّرٌ ، فلا إثم عليه بذلك ، ثم إنْ تبيَّنَ له أنَّه كان قد صلَّى محدِثاً فإنَّ عليه الإعادة.
ولو ترك التسميةَ على الوضوء نسياناً ، وقلنا بوجوبها ، فهل يجبُ عليه إعادةُ الوضوء ؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد.
وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسياناً ، فيه عنه روايتان، وأكثرُ الفقهاء على أنَّها تؤكل.
ولو ترك الصلاة نسياناً ، ثم ذكر ، فإنَّ عليه القضاء ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها ، فليُصَلِّها إذا ذكرها ، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك ) ثمَّ تلا : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي }.
ولو صلَّى حاملاً في صلاته نجاسةً لا يُعفى عنها ، ثم علم بها بعد صلاته ، أو في أثنائها ، فأزالها فهل يُعيدُ صلاته أم لا ؟ فيه قولان ، هما روايتان عن أحمد، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه خلع نعليه في صلاته وأتمَّها ، وقال : ( إنَّ جبريل أخبرني أنَّ فيهما أذى ) ولم يُعد صلاته.
ولو تكلَّم في صلاته ناسياً أنَّه في صلاة ، ففي بطلان صلاته بذلك قولان مشهوران ، هما روايتان عن أحمد، ومذهبُ الشافعي : أنَّها لا تَبطُلُ بذلك.
ولو أكل في صومه ناسياً ، فالأكثرون على أنَّه لا يَبطُلُ صيامه ، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ أَكل ، أو شرب ناسياً ، فليتمَّ صومه ، فإنَّما أطمعه الله وسقاه ). وقال مالك : عليه الإعادة ؛ لأنَّه بمنزلة من ترك الصلاة ناسياً، والجمهور يقولون : قد أتى بنيَّةِ الصيام ، وإنَّما ارتكب بعض محظوراته ناسياً ، فيُعفى عنه.
ولو جامع ناسياً ، فهل حكمه حكم الآكل ناسياً أم لا ؟ فيهِ قولان : أحدهما : - وهو المشهور عن أحمد – أنَّه يَبطُلُ صيامُه بذلك وعليه القضاء ، وفي الكفارة عنه روايتان. والثاني : لا يبطل صومه بذلك ، كالأكل ، وهو مذهب الشافعي، وحُكي رواية عن أحمد. وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسياً : هل يبطُل به النُّسُكُ أم لا ؟
ولو حلف لا يفعل شيئاً ، ففعله ناسياً ليمينه ، أو مخطئاً ظانّاً أنّه غير المحلوف عليه ، فهل يحنث في يمينه أم لا ؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها : لا يحنث بكلِّ حال ، ولو كانت اليمينُ بالطَّلاق والعتاق ، وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلالُ ، وقال : هي سهو من ناقلها ، وهو قولُ الشافعي في أحد قوليه ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن أبي شيبة ، ورُوي عن عطاء ، قال إسحاق : ويُستحلف أنَّه كان ناسياً ليمينه.
والثاني : يحنث بكلِّ حال ، وهو قولُ جماعة مِنَ السَّلف ومالك.
والثالث : يفرَّق بين أنْ يكونَ يمينُه بطلاقٍ أو عتاقٍ ، أو بغيرهما ، وهو المشهورُ عن أحمد ، وقول أبي عُبيدٍ ، وكذا قال الأوزاعيُّ في الطلاق ، وقال : إنَّما الحديثُ الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسياً ، وأقام على امرأته ، فلا إثم عليه ، فإذا ذكر ، فعليه اعتزالُ امرأته ، فإنَّ نسيانَه قد زال . وحكى إبراهيم الحربي إجماعَ التابعين على وقوع الطلاق بالناسي .
ولو قتل مؤمناً خطأً ، فإنَّ عليه الكفَّارةَ والدِّيَة بنصِّ الكتاب ، وكذا لو أتلف مالَ غيره خطأً يظنُّه أنَّه مالُ نفسه.
وكذا قال الجمهورُ في المُحرِم يقتل الصَّيدَ خطأً ، أو ناسياً لإحرامه أنَّ عليه جزاءه، ومنهم من قال : لا جزاءَ عليه إلاَّ أنْ يكونَ متعمداً لقتله تمسُّكاً بظاهر قوله - عز وجل - : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } الآية ، وهو رواية عن أحمد ، وأجاب الجمهورُ عن الآية بأنَّه رتَّب على قتله متعمداً الجزاء وانتقامَ الله تعالى ، ومجموعُهما يختصُّ بالعامد ، وإذا انتفى العمدُ ، انتفى الانتقامُ ، وبقي الجزاءُ ثابتاً بدليل آخر.
والأظهر - والله أعلم - أنَّ الناسي والمخطئ إنَّما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما ؛ لأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات ، والناسي والمخطئ لا قصدَ لهما ، فلا إثم عليهما ، وأمَّا رفعُ الأحكام عنهما ، فليس مراداً منْ هذه النصوص ، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليلٍ آخر.
● [ الفصل الثاني ] ●
في حكم المكره
في حكم المكره