منتدى ميراث الرسول

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر

    avatar
    اسرة التحرير
    Admin


    عدد المساهمات : 3695
    تاريخ التسجيل : 23/01/2014

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر Empty الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر

    مُساهمة من طرف اسرة التحرير الجمعة ديسمبر 07, 2018 1:37 pm

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر 1410
    ● [ الحديث السادس عشر ] ●

    عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أوصِني ، قال : ( لا تَغْضَبْ ) فردَّد مِراراً قال : ( لا تَغْضَبْ ).
    رواهُ البُخاريُّ(1) .

    الشرح
    هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من طريق أبي حَصين الأسدي (2) ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ولم يُخرجه مسلم ؛ لأنَّ الأعمشَ رواه عن أبي صالح ، واختلف عليه في إسناده فقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة ، كقول أبي حَصين ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، وعند يحيى بن معين أنَّ هذا هو الصحيحُ ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد(3) ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو جابر ، وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن رجل من الصحابة غير مسمى .
    وخرَّج الترمذي(4) هذا الحديثَ من طريق أبي حصين أيضاً ولفظُه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه ، قال : ( لا تَغْضَب ) ، فردد ذلك مراراً كلُّ ذلك يقول : ( لا تغضب ) وفي رواية أخرى(5) لغير الترمذي قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا
    تُكثِرْ عليَّ ، قال : ( لا تَغْضَب ) .
    __________
    (1) في " صحيحه " 8/35 ( 6116 ) .
    وأخرجه : أحمد 2/362 و466 ، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/340 ، والبيهقي 10/105 .
    (2) هو عثمان بن عاصم بن حُصين الأسدي ، الكوفي ، أبو حَصين بفتح المهملة . تقريب التهذيب ( 4484 ) .
    (3) جملة : ( وقيل : عنه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ) سقطت من ( ص ) .
    (4) في " جامعه " ( 2020 ) ، وقال : ( حسن صحيح غريب ) .
    وأخرجه : أبو يعلى ( 1593 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1731 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (5) أخرجه : أحمد 2/362 ، والبغوي ( 3580 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير(1) .
    ولعلَّ هذا الرجلَ الذي سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو أبو الدرداء ، فقد خرَّج الطبراني(2) من حديث أبي الدرداء قال : قلتُ : يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنَّة ، قال : ( لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ ) .
    وقد روى الأحنفُ بنُ قيسٍ ، عن عمه جارية(3) بن قدامة : أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولاً ، وأقْلِلْ عليَّ لعلي أعقِلُهُ ، قال : ( لا تغضبْ ) ، فأعاد عليه مراراً كُلُّ ذلك يقول : ( لا تَغضَبْ ) خرَّجه الإمام أحمد(4) ، وفي رواية(5)
    __________
    (1) انظر : فتح الباري 10/638 .
    (2) في " الأوسط " ( 2374 ) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/70 : ( رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات ) .
    (3) تصحف في ( ص ) : إلى : ( حارثة ) .
    (4) في " مسنده " 3/484 و5/34 .
    وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 1168 ) ، وابن حبان ( 5690 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2095 ) و( 2097 ) و( 2099 ) و( 2105 ) وفي " الأوسط " ، له ( 7491 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/108 عن جارية بن قدامة ، عن رجل ، به ، وانظر ماسيأتي .
    (5) مسند الإمام أحمد 5/34 و370 و372 . = = ... وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/40 ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" ( 1167 )، وابن حبان ( 5689 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2093 ) و( 3094 ) و( 2096 ) و( 2098 ) و( 2100 ) و( 2101 ) و( 2102 ) و( 2103 ) و( 2104 ) و( 2106 ) و( 2107 ) ، والحاكم 3/615 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8279 ) و( 8280 ) من حديث جارية بن قدامة ، به . وجارية بن قدامة مختلف في صحبته . له
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    أنَّ جارية بن قُدامة قال : سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكره .
    فهذا يغلب على الظنِّ أنَّ السائلَ هو جارية بنُ قدامة ، ولكن ذكر الإمامُ أحمد(1) عن يحيى القطان أنَّه قال : هكذا قال هشام ، يعني : أنَّ هشاماً ذكر في الحديث أنَّ جارية سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال يحيى : وهم يقولون : لم يُدرك النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا قال العجليُّ وغيرُه : إنَّه تابعيٌّ وليس بصحابي .
    وخرَّج الإمامُ أحمد(2) من حديث الزهري ، عن حُميد بنِ عبد الرحمان ، عن رجلٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : ( لا تَغْضَبْ ) قال الرجل : ففكرتُ حين قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه ، ورواه مالك في " الموطأ " (3) عن الزهري ، عن حُميد ، مرسلاً .
    وخرَّج الإمامُ أحمد(4) من حديث عبد اللهِ بن عمرو : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل - ؟ قال : ( لا تَغْضَب ) .
    __________
    (1) في " مسنده " 3/484 .
    (2) في " مسنده " 5/373 .
    وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20286 ) - ومن طريقه البيهقي 10/105 عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمان ، عن رجل ، به . وإسناده صحيح وهو صحيح موصولاً ، وقد توبع معمر تابعه سفيان بن عيينة عند ابن أبي شيبة 8/535 ، وأحمد 5/408 ، وأبي نعيم في " معرفة الصحابة " 5/92 فلا يضره إرسال مالك ؛ إذ اتفق معمر وسفيان على وصله ، وقد قال ابن المبارك : ( الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة : مالك ومعمر وابن عيينة فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به وتركنا قول الآخر ) السنن الكبرى للنسائي عقيب ( 2072 ) .
    (3) الموطأ ( 2636 ) برواية يحيى الليثي .
    (4) في "مسنده" 2/175 وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ؛ لكن هذا الحديث له شواهد يتقوى بها .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقول الصحابي : ففكرتُ فيما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا الغضبُ يجمع الشرَّ كلَّه يشهد لما ذكرناه أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ، قال جعفر بنُ محمد : الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ . وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ .
    وكذا فسَّر الإمام أحمد ، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً ، خرَّجه محمدُ بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " (1) من حديث أبي العلاء بنِ الشِّخِّير : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ وجهه ، فقالَ : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ قالَ : ( حُسْنُ الخلق ) ثُمَّ أتاه عن يمينه ، فقالَ : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقِ ) ، ثم أتاه عن شِماله ، فقال : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( حسنُ الخُلُقُ ) ، ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ فالتفت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مالك لا تَفْقَهُ ! حسْنُ الخُلُقِ هو أنْ لا تَغْضَبَ إنِ استطعْتَ ) . وهذا مرسل .
    فقولُه - صلى الله عليه وسلم - لمن استوصاه : ( لا تَغْضَبْ ) يحتَمِلُ أمرين :
    أحدُهما : أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه .
    __________
    (1) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 878 ) مرسلاً .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    والثاني : أنْ يكونَ المرادُ : لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له(1) ، ولهذا المعنى قال الله - عز وجل - : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } (2) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلاً ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (3) ، وبقوله - عز وجل - : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
    وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه ، ففي " الصحيحين " (5)
    __________
    (1) انظر : فتح الباري 10/639 .
    (2) الأعراف : 154 .
    (3) الشورى : 37 .
    (4) آل عمران : 134 .
    (5) صحيح البخاري 18/19 ( 6048 ) و34 ( 6115 ) و150 ( 3282 ) ، وصحيح مسلم 8/30-31 ( 2610 ) ( 109 ) و( 110 ) .
    وأخرجه : أحمد 6/394 ، وأبو داود ( 4781 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10224 ) و( 10225 ) من حديث سليمان بن صرد ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    عن سليمانَ بن صُرَد قال : استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضباً قد احمرَّ وجهُهُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجد ، لو قال : أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم ) فقالوا للرجل : ألا تسمعُ ما يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني لَسْتُ بِمجنونٍ(1) .
    وخرَّج الإمامُ أحمد(2) والترمذيُّ(3) من حديث أبي سعيد الخُدري : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبته : ( ألا إنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ في قلبِ ابنِ آدمَ ، أفما رأيتُم إلى حُمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فمن أحسَّ من ذلك شيئاً فليَلْزَقْ بالأرضِ ) .
    وخرَّج الإمامُ أحمدُ(4) ، وأبو داود(5) من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ ، فَلْيَجْلِسْ ، فإنْ ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجعْ ) .
    __________
    (1) يحتمل أنْ هذا الرجل كان من المنافقين ، أو من جُفاة العرب ، فهو لم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة ، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان .
    انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 8/336 .
    (2) في " مسنده " 3/19 و61 .
    وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20720 ) ، والحميدي ( 752 ) ، وعبد بن حميد ( 864 )، وأبو يعلى ( 1101 ) ، والحاكم 4/505-506 ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 8289 ) ، والبغوي ( 4039 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به ، وهو جزء من حديث طويل .
    (3) في " جامعه " ( 2191 ) وقال : ( حسن ) ، وإسناد الحديث ضعيف لضعف علي بن زيد ابن جدعان .
    (4) في " مسنده " 5/152 .
    وأخرجه : الخرائطي في " مساوئ الأخلاق " ( 346 ) ، وابن حبان ( 5688 ) ، والبغوي ( 3584 ) وقد اختلف في إسناده ورجح أبو داود إرساله .
    (5) السنن ( 4782 ) و( 4783 ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقد قيل : إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام(1) ، ويَشْهَدُ لذلك أنَّه رُوي من حديث سِنان بنِ سعد ، عن أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومن حديث الحسن مرسلاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) قال : ( الغَضَبُ جَمرةٌ في قَلبِ الإنسانِ تَوَقَّدُ ، ألا ترى إلى حُمرةِ عَيْنَيهِ وانْتِفَاخِ أوداجِهِ ، فإذا أحس أحدُكُم مِنْ ذلك شيئاً ، فليَجْلِسْ ، ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَبُ )(3) .
    والمرادُ : أنَّه يحبسه في نفسه ، ولا يُعديه إلى غيره بالأذى بالفعلِ ، ولهذا المعنى قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الفتن : ( إنَّ المضطجِعَ فيها خَيْرٌ من القَاعِدِ ، والقَاعِدَ فيها خيرٌ من القَائِم ، والقائمَ خَيرٌ مِنَ المَاشِي ، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعي )(4) ، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن ، إلا أنَّ المعنى : أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها ، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك .
    وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ ) ، قالها ثلاثاً(5)
    __________
    (1) انظر : معالم السنن 4/100-101 .
    (2) من قوله : ( ومن حديث الحسن ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (3) حديث أنس لم أعثر عليه فيما بين يدي من الكتب الحديثية .
    أما رواية الحسن المرسلة فقد أخرجها : معمر في " جامعه " ( 20289 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8290 ) عن الحسن ، مرسلاً .
    (4) أخرجه : البخاري 4/241 ( 3601 ) و9/64 ( 7081 ) و( 7082 ) ، ومسلم 8/168 - 169 ( 2886 ) ( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) ، وأبو داود ( 4256 ) ، والبيهقي 8/190 من حديث أبي هريرة ، به .
    (5) في " مسنده " 1/239 و283 و365 .
    وأخرجه : الطيالسي ( 2608 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 245 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 152 ) و( 153 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10951 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 764 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8287 ) و( 8288 ) ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب ؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيراً من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه ، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله - : ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ(1) . وغضب يوماً عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه : عبدُ الملكِ – رحمهما الله - : أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ ؟ فقال له : أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك ؟ فقال عبد الملك : وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه
    الغضبَ حتى لا يظهر(2) ؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله عنهم -.
    وخرَّج الإمامُ أحمد(3) ، وأبو داود(4) من حديث عُروة بنِ محمد السَّعدي : أنَّه كلَّمه رجل فأغضبه ، فقام فتوضأ ، ثم قال : حدثني أبي عن جدِّي عطيةَ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ ، وإنَّ الشيطانَ خُلِقَ من النَّارِ ، وإنَّما تُطفَأُ النار بالماءِ ، فإذا غَضِبَ أحَدُكُم فَليَتوضَّأ ) .
    __________
    (1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/235 .
    (2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/358 .
    (3) في " مسنده " 4/226 .
    وأخرجه : ابن قانع في " معجم الصحابة " 2/307 ، والطبراني في " الكبير " 17/( 443 ) ، والبغوي ( 3583 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/234 و43/81 و57/172 ، وإسناده ضعيف .
    (4) السنن ( 4784 ) ، وينظر التخريج المتقدم ذكره .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وروى أبو نعيم(1) بإسناده عن أبي مسلم الخولاني : أنَّه كلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر ، فغضب ، ثم نزل فاغتسل ، ثم عاد إلى المنبر ، وقال : سمعتُ
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الغضبَ مِن الشيطان ، والشيطانَ من النار ، والماءُ يُطفئُ النار ، فإذا غَضِبَ أحدكم فليغتسل ) .
    وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ ) .
    وفي " صحيح مسلم " (3) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فيكم ؟ ) قلنا : الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ ، قال : ( ليس ذلك ، ولكنَّه الذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغضبِ ) .
    وخرَّج الإمامُ أحمد(4) ، وأبو داود(5) ، والترمذي(6) ، وابن ماجه(7) من حديث معاذ بن أنس الجهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ كَظَمَ غَيظاً وهو يَستطيعُ أنْ يُنفذه ، دعاه الله يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى يخيره في أيِّ الحورِ شاء ) .
    وخرَّج الإمامُ أحمد(8)
    __________
    (1) في " الحلية " 2/130 ، وإسناده ضعيف .
    (2) صحيح البخاري 8/34 ( 6114 )، وصحيح مسلم 8/30 ( 2609 ) ( 107 ) و( 108 ).
    وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2637 ) برواية الليثي ، وأحمد 2/268 و517 ، والنسائي في " الكبرى " ( 10226 ) و( 10227 ) و( 10228 ) ، والبيهقي 10/235 و241 .
    (3) الصحيح 8/30 ( 2608 ) ( 106 ) .
    وأخرجه : أحمد 1/382 ، وأبو داود ( 4779 ) ، وأبو يعلى ( 5162 ) من حديث عبد الله ابن مسعود ، به .
    (4) في " مسنده " 3/438 و440 .
    (5) السنن ( 4777 ) .
    (6) في " جامعه " ( 2021 ) و( 2493 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده سهل بن معاذ ضعفه بعض الأئمة .
    (7) السنن ( 4186 ) .
    (8) في " مسنده " 2/128 . = = ... وأخرجه : ابن ماجه ( 4189 ) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " ( 51 ) ، والبيهقي في
    " شعب الإيمان " ( 8305 ) و( 8306 ) و( 8307 ) وفي " الآداب " ، له ( 160 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، مرفوعاً ، وإسناده صحيح .
    وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 1318 ) ، موقوفاً .
    وأخرجه : البيهقي في" شعب الإيمان " ( 8308 ) وفي " الآداب " ، له ( 161 ) ، مرسلاً .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    من حديث ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما تَجَرَّع عبدٌ جُرعَةً أفضلَ عندَ اللهِ من جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وجهِ الله - عز وجل - ) ومِن حديث ابن عباسٍ(1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جُرعةِ غَيظٍ يَكظِمُها عبد ، ما كظم عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفَه إيماناً ) . وخرَّج أبو
    داود(2) معناه من رواية بعضِ الصحابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( ملأه الله أمناً وإيماناً(3) ) .
    وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال : يا أبا عبدِ الله أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : أمرتني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ ، قال : فإنْ غضبتَ ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك . خرَّجه ابن أبي الدنيا(4) ، وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس ، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت(5) .
    قال عمرُ بنُ عبد العزيز : قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى ، والغضب ، والطمع(6) .
    وقال الحسن : أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرَّمه على النار : مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة ، والرهبة ، والشهوةِ ، والغضبِ(7) .
    __________
    (1) أخرجه : أحمد 1/327 ، وفي إسناده نوح بن جعونة مجهول ، ولعله نوح بن أبي مريم الكذاب فيكون إسناد الحديث تالفاً .
    (2) السنن ( 4778 ) وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته .
    (3) من قوله : ( وخرج أبو داود ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (4) أخرجه : ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 23/314 .
    (5) سبق تخريجة .
    (6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/290 .
    (7) أخرجه : أبو نعيم في " الحيلة " 2/144 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه ، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلاً إليه(1) ، وقد يكون كثير منها محرماً ، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّماً .
    والرهبة : هي الخوفُ من الشيء(2) ، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعاً له ، وقد يكون كثير منها محرَّماً .
    والشهوة : هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها ، وتلتذُّ به(3) ، وقد تميل كثيراً إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع .
    والغضب : هو غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلباً للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه(4) ، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم(5)
    __________
    (1) انظر : لسان العرب 5/254 .
    (2) انظر : العين : 372 ، وأساس البلاغة 1/399 ، ولسان العرب 5/237 .
    (3) انظر : المفردات في غريب القرآن : 279 ، ولسان العرب 7/231 .
    (4) انظر : المفردات في غريب القرآن : 375 ، والتعريفات : 162 .
    (5) هو ابن الحارث بن أبي شعر ، واسمه المنذر بن الحارث ، روي في أحاديث دخل بعضها في بعض ، قالوا : وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلماً حتى كان زمن عمر بن الخطاب ، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رجلاً من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : هذا لطم جبلة . قال : فليلطمه . قالوا : أو ما يقتل ؟ قال : لا ، فقالوا : أفما تقطع يده ؟ قال : لا ، إنَّما أمر الله بالقود ، قال جبلة : أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي جاء من عمق ؟ بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانياً ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم . انظر : تاريخ دمشق 11/19 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ .
    والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ ، فأثيب عليها ، وأنْ يكونَ غضبه دفعاً للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسولَه ، كما قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } (1) .
    __________
    (1) التوبة : 14-15 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وهذه كانت حالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه ، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء(1) ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله(2) . وخدمه أنس عشرَ سنين ، فما قال له : ( أفٍّ ) قط ، ولا قال له لشيء فعله : ( لم فعلت كذا )(3) ، ولا لشيء لم يفعله : ( ألا فعلت كذا ) . وفي رواية أنَّه كان إذا لامه بعضُ أهله قال - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه فلو قُضي شيءٌ كان )(4) . وفي رواية للطبراني(5) قال أنس : خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما دَرَيْتُ شيئاً قطُّ وافقه ، ولا شيئاً قط خالفه رضي من الله بما كان .
    __________
    (1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2627 ) برواية الليثي ، والحميدي ( 258 ) ، وأحمد 6/31-32 و115-116 و181-182 و229 و232 و262، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والبخاري 4/230 ( 3560 ) و8/36 ( 6126 ) و8/216 ( 6853 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 274 ) ، ومسلم 7/80 ( 2327 ) ( 77 ) و7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4785 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
    (2) أخرجه : عبد الرزاق ( 17942 ) ، وأحمد 6/31-32 و206 و229 و232 و281 ، وعبد بن حميد ( 1481 ) ، والدارمي ( 2224 ) ، ومسلم 7/80 ( 2328 ) ( 79 ) ، وأبو داود ( 4786 ) ، وابن ماجه ( 1984 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9165 ) من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
    (3) أخرجه : عبد الرزاق ( 17946 ) ، وأحمد 3/101 ، وعبد بن حميد ( 1361 ) ، والبخاري 4/13 ( 2768 ) و8/17 ( 6038 ) و9/15 ( 6911 ) ، ومسلم 7/73 ( 2309 ) ( 51 ) و( 52 ) و( 53 ) ، وأبو داود ( 4774 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (4) أخرجه : عبد الرزاق ( 17947 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (5) في " الأوسط " ( 9152 ) وفي " الصغير " ، له ( 1072 ) .
    وانظر : مجمع الزوائد 9/16 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كان خُلُقُه القُرآن(1) ، تعني : أنَّه كان تأدَّب بآدابه ، وتخلَّق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآنُ ، كان فيه سخطه(2) ، وجاء في رواية عنها ، قالت : كان خُلُقُه القُرآن يَرضى لِرضاه ويَسخَطُ لسخطه(3) .
    وكان - صلى الله عليه وسلم - لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحداً بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في " الصحيح " (4) عن أبي سعيد الخدري قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه ، عرفناه في وجهه ، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شقَّ عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وتَغيَّر وجهه ، وغَضِبَ ، ولم يَزِدْ على أنْ قال : ( قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر )(5) .
    __________
    (1) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51-52 ، وأحمد 6/54 و91 و111 و188 و216 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 308 ) ، ومسلم 2/169 ( 746 ) ( 139 ) ، وأبو داود ( 1342 ) ، وابن ماجه ( 2333 ) ، والنسائي 3/199-200 وفي " الكبرى " ، له ( 11350 ) وفي " التفسير " ، له ( 158 ) و( 370 ) ، وابن خزيمة ( 1127 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1963 ) ، والبيهقي 3/30 وفي " دلائل النبوة " ، له 1/308-309 من حديث عائشة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
    (2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 3/226 .
    (3) أخرجه : أبو عبيد في " فضائل القرآن " : 51 من حديث عائشة ، به .
    (4) صحيح البخاري 4/230 ( 3562 ) و8/31 ( 6102 ) ، وصحيح مسلم 7/77 ( 2320 ) ( 67 ) .
    (5) أخرجه : البخاري 4/115 ( 3150 ) و5/202 ( 4336 ) ، ومسلم 3/109 ( 1062 ) ( 140 ) و( 141 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ، أو سَمِعَ ما يكرهه الله ، غَضِبَ لذلك ، وقال فيه ، ولم يَسْكُتْ ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى ستراً فيه تصاويرُ ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه ، وقال : ( إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ )(1) . ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه ، غَضِبَ ، واشتد غضبُه ، ووَعَظَ النَّاسَ(2) ، وأمر بالتَّخفيف(3) .
    ولما رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد ، تَغَيَّظ ، وحكَّها ، وقال : ( إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ ، فإنَّ الله حِيالَ وَجْهِهِ ، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ )(4) .
    __________
    (1) أخرجه : البخاري 7/215 ( 5954 ) ، ومسلم 6/158 ( 2107 ) ( 91 ) و6/159 ( 2107 ) ( 92 ) ، والنسائي 8/214 ، وابن حبان ( 5847 ) ، والبيهقي 7/267 و269 من حديث عائشة ، به .
    (2) لم ترد في ( ص ) .
    (3) أخرجه : مسلم 2/42 ( 466 ) ( 182 ) من حديث أبي مسعود الأنصاري ، به.
    (4) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 522 ) برواية الليثي ، والبخاري 1/112 ( 406 ) و1/191 ( 753 ) و2/82 ( 1213 ) و8/33 ( 6111 ) ، ومسلم 2/75 ( 547 ) ( 50 ) ، وأبو داود ( 479 ) ، والنسائي 2/51 من حديث عبد الله بن عمر ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : ( أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا ) (1) وهذا عزيز جداً ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول .
    وخرَّج الطبراني(2) من حديث أنس مرفوعاً : ( ثلاثٌ من أخلاقِ الإيمان : مَنْ إذا غَضِبَ ، لم يُدخله غضبُهُ في باطلٍ ، ومن إذا رَضِيَ ، لم يُخرجه رضاه من حقٍّ ، ومن إذا قَدَرَ ، لم يتعاطَ ما ليسَ له ) .
    وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدُهما عابداً ، وكان الآخرُ مسرفاً على نفسه ، فكان العابدُ(3) يَعِظُهُ ، فلا ينتهي ، فرآه يوماً على ذنبٍ استعظمه ، فقال : والله لا يَغفِرُ الله لك ، فغفر الله للمذنب ، وأحبط عملَ العابد ) . وقال أبو هريرة : لقد تكلَّم بكلمة أوبقت دنياه وآخِرتَه ، فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا مثلَ هذه الكلمة(4) في غضب . وقد خرَّجه الإمامُ أحمد(5)
    __________
    (1) أخرجه : أحمد 4/264 ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 467 ) و( 1190 ) ، والبزار ( 1392 ) و( 1393 ) ، والنسائي 3/54-55 وفي " الكبرى " ، له ( 1229 ) ، وابن خزيمة في "التوحيد": 12، وابن حبان ( 1971 )، والطبراني في "الدعاء" ( 624 ) و( 625 ) من حديث عمار بن ياسر ، به . وهو جزء من حديث طويل ، وهو حديث صحيح .
    (2) في "الصغير" ( 158 ) ، وإسناده ضعيف جداً فيه بشر بن الحسين ، قال عنه البخاري : ( فيه نظر ) ، وقال الدارقطني : ( متروك ) ، وقال ابن عدي : ( عامة حديثه ليس بمحفوظ ) ، وقال أبو حاتم : ( يكذب على الزبير ) الميزان 1/315 .
    (3) سقطت من ( ص ) .
    (4) سقطت من ( ص ) .
    (5) في " مسنده " 2/323 و363 .
    وأخرجه : ابن حبان ( 5712 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6689 ) ، والمزي في " تهذيب الكمال " 3/487-488 ( 2927 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وإسناده لا بأس به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وأبو داود(1) ، فهذا غَضِبَ لله ، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ ، وحتم على الله بما لا يعلم ، فأحبط الله(2) عمله ، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه ، ومتابعة هواه بما لا يجوز .
    وفي " صحيح مسلم "(3) عن عِمران بن حُصين : أنَّهم كانوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وامرأةٌ من الأنصار على ناقةٍ ، فضَجِرَتْ ، فلعَنَتها فسَمِعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( خذُوا مَتَاعَها ودَعُوها ) .
    وفيه أيضاً عن جابر قال : سِرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ورجلٌ من الأنصارِ على ناضحٍ له ، فتلدَّنَ عليه بعض التلدُّن ، فقال له : سِرْ ، لَعنَك الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انْزِلْ عنه ، فلا تَصْحَبْنا بملعونٍ ، لا تدعوا على أنفُسِكُم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تَدْعوا على أموالكم ، لا تُوافِقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء ، فيستجيب لكم )(4) .
    فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب .
    __________
    (1) السنن ( 4901 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (2) عبارة : ( فأحبط الله ) لم ترد في ( ص ) .
    (3) الصحيح 8/23 ( 2595 ) ( 80 ) و( 81 ) .
    وأخرجه : أبو داود ( 2561 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8816 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
    (4) الصحيح 8/233 ( 3009 ) .
    وأخرجه : ابن حبان ( 5742 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وأما ما قاله مجاهد(1) في قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } (2) ، قال : هو الواصِلُ لأهله وولده وماله إذا غَضِبَ عليه ، قال : اللهمَّ لا تُبارِكْ فيه ، اللهم العنه ، يقول : لو عجل له ذلك ، لأهلك مَنْ دعا عليه ، فأماتَه . فهذا يدلُّ على أنَّه لا يُستجاب جميعُ ما يدعو به الغضبانُ على نفسه وأهله وماله ، والحديثُ دلَّ على أنَّه قد يُستجابُ لمصادفته ساعة إجابة .
    وأما ما رُوي عن الفُضيل بنِ عياض قال : ثلاثةٌ لا يُلامون على غضبٍ : الصائمُ والمريضُ والمسافرُ ، وعن الأحنف بن قيس قال : يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم : لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئاً ، وعن أبي عمران الجوني قال : إنَّ المريضَ إذا جزع فأذنب ، قال المَلَكُ الذي على اليمين للملك الذي على الشمال : لا تكتب . خرَّجه ابن أبي الدنيا ، فهذا كلُّه لا يُعرف له أصلٌ صحيحٌ من الشرع يدلُّ عليه ، والأحاديثُ التي ذكرناها من قبل تدلُّ على خلافه .
    وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا غضبتَ فاسكت ) (3) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذٍ مؤاخذاً بالكلام ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب ، فكيف يقال : إنَّه غيرُ مكلَّف في حال غضبه بما يصدر منه .
    وقال عطاءُ بنُ أبي رباح : ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة ، أو ستين سنة ، أو سبعين سنة ، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحماً ما استقاله . خرَّجه ابن أبي الدنيا .
    __________
    (1) في " تفسيره " : 292 . وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 13625 ) و( 13626 ) .
    (2) يونس : 11 .
    (3) سبق تخريجه .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ثم إنَّ من قال مِن السَّلف : إنَّ الغضبان إذا كان سببُ غضبه مباحاً، كالمرض، أو السفرِ ، أو طاعةٌ كالصَّوْم لا يُلام عليه إنَّما مرادُه أنَّه لا إثمَ عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيراً من كلام(1) يُوجِبُ تضجراً أو سباً ونحوه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّما أنا بَشَرٌ أرضى كما يرضي البَشَرُ ، وأغْضَبُ كما يَغْضَبُ البشر ، فأيُّما مسلم سببتُه أو جلدتُه ، فاجعلها له كفارةً )(2) .
    فأما ما كان من كفر ، أو ردَّةٍ ، أو قتل نفس ، أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك ، فهذا لا يشكُّ مسلم أنَّهم لم يُريدوا أنَّ الغضبانَ لا يُؤاخذُ به ، وكذلك ما يقعُ من الغضبان من طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ، فإنَّه يُؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خلافٍ(3) . وفي " مسند الإمام أحمد " (4)
    __________
    (1) عبارة : ( من كلام ) سقطت من ( ص ) .
    (2) أخرجه : أحمد 2/316-317 ، والبخاري 8/96 ( 6361 ) ، ومسلم 8/25 ( 2601 ) ( 89 ) ، وابن حبان ( 6516 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399 .
    (4) المسند 6/410-411 .
    وأخرجه : أبو داود ( 2214 ) و( 2215 )، وابن الجارود ( 746 ) ، والطبري في "تفسيره" ( 26109 ) ، وابن حبان ( 4279 ) ، والطبراني في " الكبير " 24/( 633 ) و( 634 ) ، والبيهقي 7/389-390 و391-392 و392 من حديث خولة بنت ثعلبة . والروايات مطولة ومختصرة ، والحديث قويٌّ بشواهده .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها ، فغَضِبَ ، فظاهر منها ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه ، فأنزل الله آيةَ(1) الظهار ، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكفارة الظِّهار في قصة طويلة ، وخرَّجها ابن أبي حاتم(2) من وجه آخر ، عن أبي العالية : أنَّ خُويلة غضب زوجها فظاهر منها ، فأتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته بذلك ، وقالت : إنَّه لم يُرِدِ الطلاقَ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أراكِ إلا حَرُمْتِ عليه ) ، وذكر القصةَ بطولها ، وفي آخرها ، قال : فحوَّل الله الطلاقَ ، فجعله ظهاراً .
    فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق ، وقد قال : إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك ، يعني : لزمه الطلاق ، فلما جعله الله ظهاراً مكفراً ألزمه بالكفارة ، ولم يُلغه .
    وروى مجاهد عن ابنِ عباس : أنَّ رجلاً قال له : إني طلقت امرأتي ثلاثاً وأنا غضبان ، فقال : إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك ، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك . خرَّجه الجوزجاني والدارقطني(3) بإسناد على شرط مسلم .
    __________
    (1) سقطت من ( ص ) .
    (2) في " تفسيره " 10/3342 ( 18840 ) .
    وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26108 ) .
    (3) في " سننه " 4/13 ( 3882 ) .
    وأخرجه : أبو داود ( 2197 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11139 ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وخرَّج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " بإسنادٍ صحيح عن عائشة قالت : اللغو في الأيمان ما كان في المراءِ والهزل والمزاحة ، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وأيمانُ الكفارة على كُلِّ يمينٍ حلفت عليها على جدٍ من الأمر في غضب أو غيره : لَتَفْعَلنَّ أو لَتَترُكنَّ ، فذلك عقدُ الأيمان فيها الكفارة . وكذا رواه ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وهذا من أصحِّ الأسانيد(1) ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحديث المروي عنها مرفوعاً : ( لا طلاقَ ولا عتاق في إغْلاقٍ ) (2)
    __________
    (1) انظر : فتح الباري 11/668 عقب الحديث ( 6663 ) .
    (2) أخرجه : أحمد 6/276 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/172 ( 514 ) ، وأبو داود ( 2193 ) ، وابن ماجه ( 2046 ) ، وأبو يعلى ( 4444 ) و( 4570 ) ، والطحاوي في = = ... " شرح المشكل " ( 655 )، والدارقطني 4/36 ( 3943 ) و( 3944 )، والحاكم 2/198 ، والبيهقي 7/357 و10/61 من حديث عائشة ، به . وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبيد ؛ لكن انظر تعليق أخي الفاضل عبد الرحمان حسن قائد على رسالة اغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم : 4 و5 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    إما أنَّه غير صحيح ، أو إنَّ تفسيرَه بالغضب غيرُ صحيح(1) . وقد صحَّ عن غير(2) واحد من الصحابة أنَّهم أفْتَوا أنَّ يمينَ الغضبان منعقدة وفيها الكفارةُ(3) ، وما روي عن ابن عباسٍ مما يُخالِفُ ذلك فلا يصحُّ إسنادُه(4) ، قال الحسنُ : طلاقُ السنة أنْ يُطلقها واحدة طاهراً من غير جماعٍ ، وهو بالخيار ما بينه وبينَ أنْ تحيضَ ثلاث حيض ، فإنْ بدا له أنْ يُراجِعَهَا كان أملكَ بذلك ، فإنْ كان غضبان ، ففي ثلاثِ حيض ، أو في ثلاثة أشهر إنْ كانت لا تحيضُ ما يذهب غضبَهُ . وقال الحسن : لقد بَيَّن الله لئلا يندم أحدٌ في طلاق كما أمره الله، خرَّجه القاضي إسماعيل .
    وقد جعل كثيرٌ من العلماء الكناياتِ معَ الغضبِ كالصريح في أنَّه يقعُ بها الطلاقُ ظاهراً ؛ ولا يقبل تفسيرُها مع الغضبِ بغير الطلاق ، ومنهم مَنْ جعل الغضب مع الكنايات كالنية ، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضاً ، فكيف يجعل الغضب مانعاً من وقوع صريحِ الطلاق(5) .
    __________
    (1) انظر : معالم السنن 3/209 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/17 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/391 .
    (2) سقطت من ( ص ) .
    (3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/24-25 .
    (4) سبق تخريجه .
    (5) انظر : المغني 8/268-269 ، والشرح الكبير 8/293-294 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/22-23 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/399-400 ، والمفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم للدكتور عبد الكريم زيدان 7/460-461 .
    ● [ تم شرح الحديث ] ●

    avatar
    اسرة التحرير
    Admin


    عدد المساهمات : 3695
    تاريخ التسجيل : 23/01/2014

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر Empty الحديث السابع عشر

    مُساهمة من طرف اسرة التحرير الأربعاء يناير 09, 2019 4:17 am

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر 1410
    ● [ الحديث السابع عشر ] ●

    عَنْ أَبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوسٍ ، عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة ، وإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ (1) ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ).
    رواهُ مُسلم(2) .

    الشرح
    هذا الحديث خرَّجه مسلم دونَ البخاري من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شدَّادِ بنِ أوس(3) ، وتركه البخاري ؛ لأنَّه لم يخرِّج في " صحيحه " لأبي الأشعث شيئاً وهو شاميٌّ ثقة . وقد روي نَحوهُ من حديث سَمُرُةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله - عز وجل - محسِنٌ فأحسنوا ، فإذا قَتَلَ أحدكُم ، فليُكْرِم مقتولَه ، وإذا ذبح ، فليحدَّ شفرته ، وليُرِحْ ذبيحته ) خرَّجه ابن عدي(4) .
    وخرَّج الطبراني(5)
    __________
    (1) بكسر الذال والهاء كالقتلةِ ، وهي الهيئة ، ويروى : ( الذَّبح ) بفتح الذال بغير هاء . انظر : شرح النووي على صحيح مسلم 7/95 ( 1955 ) ( 57 ) .
    (2) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) .
    وأخرجه : الطيالسي ( 1119 ) ، وعبد الرزاق ( 8603 ) و( 8604 ) ، وعلي بن الجعد ( 1262 ) ، وأحمد 4/123 و124 و125، والدارمي ( 1976 ) ، وأبو داود ( 2815 )، وابن ماجه ( 3170 ) ، والترمذي ( 1409 ) ، والنسائي 7/227 و229 و230 ، وابن الجارود ( 839 ) و( 899 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 1035 ) ، والبيهقي 8/60-61 و9/68 و280 ، والخطيب في " تاريخه " 5/278 ، والبغوي ( 2783 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
    (3) في " صحيحه " 6/72 ( 1955 ) ( 57 ) من حديث شداد بن أوس ، به .
    (4) في " الكامل " 8/175 من حديث الحسن ، عن سمرة بن جندب ، به ، وإسناده ضعيف لضعف مجاعة بن الزبير فقد ضعفه الدارقطني كما في " الميزان " 3/437 ، والحسن لم يسمع جميع ما رواه عن سمرة .
    (5) في " الأوسط " ( 5735 ) .
    وأخرجه : ابن أبي عاصم في "الديات" : 94 ، وإسناده ضعيف من أجل عمران بن داور القطان .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا ، وإذا قَتَلتُم فأَحْسِنُوا ، فإنَّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنين ) .
    فقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتب الإحسّانَ على كُلِّ شيء ) ، وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالدٍ ، عن أبي قِلابة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله كتبَ الإحسّانَ على كلِّ شيءٍ ) ، أو قال : ( على كلِّ خلقٍ ) هكذا خرَّجها مرسلةً ، وبالشكِّ في : ( كُلِّ شيءٍ ) ، أو : ( كلِّ خلق ) ، وظاهرُهُ يقتضي أنَّه كتب على كلِّ مخلوق الإحسّان ، فيكون كُلُّ شيءٍ ، أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه ، والمكتوب هو الإحسّانُ(1) .
    وقيل : إنَّ المعنى : أنَّ الله كتب الإحسّانَ إلى كلِّ شيء ، أو في كلِّ شيء ، أو كتب الإحسّانَ في الولاية على كُلِّ شيءٍ ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور ، وإنَّما المذكورُ المحسن إليه(2) .
    __________
    (1) من قوله : ( فيكون كل شيء ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/94-95 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ولفظ : ( الكتابة ) يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء والأصوليين خلافاً
    لبعضهم ، وإنَّما يعرف(1) استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعاً، كقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (2) ، وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (3) ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } (4) ، أو فيما هو واقع
    قدراً لا محالة ، كقوله : { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } (5) ، وقوله : { وَلَقَدْ
    كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (6) ، وقوله
    : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان } (7) . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيام شهر رمضانَ: ( إنِّي خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ )(8)
    __________
    (1) يعرف ) سقطت من ( ج ) .
    (2) النساء : 103 .
    (3) البقرة : 183 .
    (4) البقرة : 216 .
    (5) المجادلة : 21 .
    (6) الأنبياء : 105 .
    (7) المجادلة : 22 .
    (8) أخرجه : البخاري 1/186 ( 729 ) من حديث عائشة ، به .
    وأخرجه : أحمد 5/182 و184 و187 ، والبخاري 9/117 ( 7290 ) ، ومسلم 2/188 ( 781 ) ( 213 ) ، والنسائي 3/197-198 ، والطبراني في " الكبير " ( 4892 ) ، والبيهقي 3/109 من حديث زيد بن ثابت ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، وقال : ( أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ أنْ يُكتَبَ عليَّ )(1) ، وقال : ( كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى ، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالة )(2) .
    وحينئذٍ فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسّان ، وقد أمر الله تعالى به ، فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } (3) ، وقال : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (4) .
    وهذا الأمرُ(5) بالإحسّان تارةً يكونُ للوجوب كالإحسّان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البرُّ والصِّلَةُ والإحسّانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه على ما سبق ذكره .
    وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها(6) .
    وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوب الإحسّانِ في كل شيء من الأعمال ، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه ، فالإحسّانُ في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ : الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها ، فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب ، وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب .
    والإحسّانُ في ترك المحرَّمات : الانتهاءُ عنها ، وتركُ ظاهرها وباطنها ، كما قال تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } (7) . فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب(8) .
    __________
    (1) أخرجه : أحمد 3/490 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 189 ) و( 190 ) من حديث واثلة بن الأسقع ، به ، وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم ، وانظر : مجمع الزوائد 2/98 .
    (2) أخرجه : أحمد 2/317 و343 و379 و536 ، والبخاري 8/156 ( 6612 ) ، ومسلم 8/52 ( 2657 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2152 ) و( 2153 ) و( 2154 ) من حديث أبي هريرة ،
    به .
    (3) النحل : 90 .
    (4) البقرة : 195 .
    (5) من قوله : ( وقال : فأحسنوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (6) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 2/94 .
    (7) الأنعام : 120 .
    (8) انظر : تفسير البغوي 2/155 ، وزاد المسير 3/114 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وأما الإحسّانُ في الصبر على المقدورات ، فأنْ يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع .
    والإحسّانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم : القيامُ بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والإحسّانُ الواجب في ولاية الخلق وسياستهم ، القيام بواجبات الولاية كُلِّها، والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب .
    والإحسّانُ في قتل ما يجوزُ قتله من الناس والدواب : إزهاقُ نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها وأَوحاها من غير زيادةٍ في التعذيب ، فإنَّه إيلامٌ لا حاجة إليه . وهذا النوعُ هو الذي ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، ولعله ذكره على سبيلِ المثال ، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال : ( إذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة ) والقِتلة والذِّبحة بالكسر ، أي : الهيئة ، والمعنى : أحسنوا هيئة الذبح ، وهيئة القتل . وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوه(1) . وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة(2) ، وأسهلُ وجوه(3) قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق ، قال الله تعالى في حقِّ الكفار : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (4) ، وقال تعالى : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ } (5) . وقد قيل : إنَّه عيَّن الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ ، ووصى دريدُ بنُ الصِّمة قاتله أنْ يَقْتُلَهُ كذلك .
    __________
    (1) انظر : عون المعبود 8/10 .
    (2) انظر : المحلى 12/31-32 .
    (3) سقطت من ( ص ) .
    (4) محمد : 4 .
    (5) الأنفال : 12 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سريةً تغزوا في سبيل الله قال لهم : ( لا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا وليداً )(1) .
    وخرَّج أبو داود ، وابن ماجه من حديثِ ابنِ مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَعَفُّ الناسِ قِتلةً أهلُ الإيمانِ )(2) .
    وخرَّج أحمد وأبو داود من حديث عمران بنِ حُصينٍ وسَمُرَة بنِ جُندبٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المُثْلةِ(3) .
    وخرَّجه البخاري(4) من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه : نَهى عن المُثلَةِ(5) .
    وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث يعلى بنِ مُرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله تعالى : لا تُمَثِّلوا بِعِبادي(6) )(7)
    __________
    (1) أخرجه : مسلم 5/139-140 ( 1731 ) ( 3 ) من حديث بريدة ، به .
    (2) أخرجه : أبو داود في " سننه " ( 2666 ) ، وابن ماجه ( 2681 ) و( 2682 ) .
    وأخرجه : أحمد 1/393 ، وابن الجارود ( 840 ) ، وابن حبان ( 5994 ) ، والبيهقي 8/61 و9/71 من حديث عبد الله بن مسعود ، به . وإسناده معلول بالوقف ، وقد حصل فيه اختلاف كبير بيانه في كتابي " الجامع في العلل " .
    وأخرجه : عبد الرزاق ( 18232 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9737 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .
    (3) أخرجه : أحمد 4/439 و440 و445 ، والطبراني في " الكبير " 18/( 325 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
    وأخرجه : أحمد 5/12 ، وأبو داود ( 2667 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6945 ) من حديث سمرة بن جندب ، به .
    (4) في " صحيحه " 3/177 ( 2474 ) و7/122 ( 5516 ) .
    وأخرجه : أحمد 4/307 من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري ، به .
    (5) من قوله : ( وخرجه البخاري ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (6) متن الحديث لم يرد في ( ص ) .
    (7) في " مسنده " 4/172 و173 .
    وأخرجه : الطبراني 22/( 697 ) و( 698 ) و( 699 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن حفص ، وقد سقط من بعض الروايات .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وخرَّج أيضاً من حديث رجلٍ من الصحابة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من مَثَّلَ بذي روحٍ ، ثم لم يَتُبْ مثَّلَ الله به يومَ القيامة )(1) .
    واعلم أنَّ القتلَ المباحَ يقع على وجهين : أحدُهما أنْ يكون قصاصاً ، فلا يجوزُ التمثيلُ فيه بالمقتص منه ، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ ، فإنْ كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا يُقتل إلا بالسيف ؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء :
    أحدُهما(2) : أنَّه يُفعَلُ به كما فَعَلَ ، وهو قولُ مالك والشافعي(3) وأحمد في المشهور عنه(4) ، وفي " الصحيحين " (5) عن أنسٍ قالَ : خَرَجَتْ جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة ، فرماها يهودي بحجر ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها رَمَقٌ ، فقالَ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فلانٌ قتلك ؟ ) فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة : ( فلان قتلك ؟ ) فخفضت رأسها ، فدعا به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرضخ رأسه بَيْنَ الحَجَرَين . وفي روايةٍ لهما : فَأُخِذَ فاعترفَ ، وفي روايةٍ لمسلم : أنَّ رجلاً من اليهود قتلَ جاريةً من الأنصار على حليٍّ لها ، ثم ألقاها في القَلِيب ، ورضَخَ رأسَها بالحجارة ، فأُخِذَ ، فأُتي به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر به أنْ يُرجَمَ حتّى يموت ، فرُجِمَ حتى ماتَ(6) .
    __________
    (1) مسند الإمام أحمد 2/92 و115 من حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإسناده ضعيف لضعف شريك النخعي .
    وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 7297 ) عن عبد الله بن عمر ، به ؛ لكن سنده ضعيف .
    (2) سقطت من ( ص ) .
    (3) لم يرد في ( ص ) .
    (4) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
    (5) سبق تخريجه .
    (6) صحيح مسلم 5/104 ( 1672 ) ( 16 ) من حديث أنس ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    والقول الثاني : لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ، وهو قولُ الثوري ، وأبي حنيفة ، ورواية عن أحمد(1) .
    وعن أحمد رواية ثالثة : يُفعل به كما فعل إلا أنْ يكونَ حرَّقه بالنار أو مَثَّلَ به ، فيُقْتَلُ بالسيف للنهي عن المُثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرمُ(2) ، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا قَودَ إلاَّ بالسيف ) خرَّجه ابن ماجه وإسناده ضعيف(3) ، قال أحمد : يُروى : ( لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف ) وليس إسنادُه بجيدٍ(4) ، وحديث أنس ، يعني : في قتل اليهودي بالحجارة أسندُ منه وأجودُ(5) .
    ولو مَثَّلَ به ، ثم قتله مثلَ أنْ قطّع أطرافَه ، ثم قتله ، فهل يُكتفى بقتله أم يُصنع به كما صنع ، فَتُقطع أطرافُه ثم يُقتل ؟ على قولين :
    أحدهما : يُفعل به كما فعل سواء ، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم(6) .
    والثاني : يُكتفى بقتله ، وهو قولُ الثوري وأحمد في رواية وأبي يوسف ومحمد(7) ، وقال مالك : إنْ فعل به ذلك على سبيل التمثيلِ والتعذيبِ ، فُعِلَ به كما فَعَلَ ، وإنْ لم يكن على هذا الوجه اكتفي بقتله(8) .
    __________
    (1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/235 بتحقيقنا ، والمغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259 .
    (2) انظر : المغني 9/392 .
    (3) السنن ( 2668 ) .
    وأخرجه : البيهقي 8/63 من حديث أبي بكرة ، به . وللحديث طرق أخرى .
    (4) انظر : المغني 9/388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
    (5) المغني 9/387-388 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/260 .
    (6) انظر : المغني 9/387 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/259-260، وبداية المجتهد 2/716.
    (7) انظر : المصادر السابقة .
    (8) انظر : بداية المجتهد 2/716 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    الوجه الثاني : أنْ يكون القتلُ(1) للكفر ، إما لكفر أصلي ، أو لردَّة عن الإسلام ، فأكثرُ العلماء على كراهة المُثلة فيه أيضاً ، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف ، وقد رُوي عن طائفةٍ من السَّلف جوازُ التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك ، كما فعله خالدُ بن الوليد وغيره(2) .
    ورُوي عن أبي بكر : أنَّه حرَّق الفجاءة بالنَّار(3) .
    ورُوي أنَّ أم قِرْفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق ، فأمر بها ، فشدَّت ذوائِبُها في أذناب قَلُوصَيْنِ أو فرسين ، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة ، وأسانيد هذه القصة منقطعة . وقد ذكر ابنُ سعد في " طبقاته " بغير إسناد : أنَّ زيدَ بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك(4) .
    __________
    (1) سقطت من ( ص ) .
    (2) انظر : الطبقات الكبرى 7/278 ، والمغني 10/76 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 ، وفتح الباري 6/182 .
    (3) انظر : تاريخ الطبري 3/264 .
    (4) انظر : الطبقات الكبرى 2/69 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وصحَّ عن عليٍّ أنَّه حرَّق المرتدين ، وأنكر ذلك ابنُ عباس عليه(1) ، وقيل : إنَّه لم
    يُحرّقهم ، وإنَّما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا(2) ، وقيل : إنَّه قتلهم ، ثم حَرَّقَهُم ، ولا يصحُّ ذلك . وروي عنه أنَّه جيء بمرتدٍّ ، فأمر به فوطئ بالأرجل حتَّى مات .
    __________
    (1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18706 ) ، والحميدي ( 533 ) ، وأحمد 1/217 و220 و282 ، والبخاري 4/75 ( 3017 ) و9/18 ( 6922 )، وأبو داود ( 4351 )، والترمذي ( 1458 )، والنسائي 7/104 ، وأبو يعلى ( 2532 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2865 ) و( 2866 ) و( 2867 ) و( 2868 ) ، وابن حبان ( 4476 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11850 ) ، والدارقطني 3/85 ( 3157 ) ، والحاكم 3/538-539 ، والبيهقي 8/195 و202 و9/71 ، والبغوي ( 2561 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .
    (2) ذكره : البيهقي 9/71 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    واختار ابنُ عقيلٍ - من أصحابنا - جوازَ القتل بالتمثيل للكفر لاسيما إذا تغلَّظ ، وحمل النهي عن المُثلةِ على القتل بالقصاص ، واستدلَّ من أجاز ذلك بحديثِ العُرنيين ، وقد خرَّجاه في " الصحيحين " من حديث أنس : أنَّ أناساً من عُرينة قَدِمُوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجْتَوَوْهَا ، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ شئتم أنْ تَخْرُجُوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها ، فافعلوا ) ففعلوا فصحُّوا، ثم مالوا على الرعاء ، فقتلوهم ، وارتدُّوا عن الإسلام ، وساقوا ذَودَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث في أثرهم ، فأُتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجُلَهم ، وسَمَلَ أعينَهم ، وتركهم في الحرة حتى ماتوا(1) ، وفي روايةٍ : ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا(2) ، وفي روايةٍ : وسمرت أعينُهم ، وألقوا في الحرَّةِ(3) يَستسقونَ فلا يُسقون(4) ، وفي رواية للترمذي : قطع أيديَهم وأرجلهم من خلافٍ(5)
    __________
    (1) أخرجه : عبد الرزاق ( 17132 ) و( 18538 ) ، وأحمد 3/170 و177 و233 و290 ، والبخاري 5/164 ( 4192 ) و7/159 ( 5685 ) و7/160 ( 5686 ) و7/167 ( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 9 ) ، وأبو داود ( 4364 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 1/158 و7/96-97 وفي " التفسير " ، له ( 163 ) ، وابن حبان ( 1388 ) و( 4472 ) ، والبيهقي 9/69 و10/4 من حديث أنس بن مالك ، به .
    (2) أخرجه : أحمد 3/177 ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 10 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (3) عبارة : ( وألقوا في الحرة ) سقطت من ( ص ) .
    (4) أخرجه : عبد الرزاق ( 18538 ) ، وأحمد 3/170 ، والبخاري 7/167 ( 5727 ) ، ومسلم 5/102 ( 1671 ) ( 11 ) ، والترمذي ( 72 ) ، والنسائي 7/97 ، وابن حبان ( 1388 ) و( 4472 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (5) الجامع الكبير ( 72 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، وفي رواية للنسائي : وصَلَبَهُم(1) .
    وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء ، فمنهم من قال : من فعل مِثلَ فعلهم فارتدَّ ، وحارب ، وأخذ المالَ ، صنع به كما صنع بهؤلاء ، وروي هذا عن طائفة ، منهم : أبو قِلابة(2) ، وهو روايةٌ عن أحمد .
    ومنهم مَنْ قال : بل هذا يدلُّ على جواز التمثيل بمن تغلَّظَتْ جرائمُهُ في الجملة ، وإنَّما نهي عن التمثيل في القصاص ، وهو قول ابنِ عقيل من أصحابنا .
    ومنهم من قال : بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المُثلةِ(3) .
    ومنهم من قال : كان قبلَ نزولِ الحدود وآيةِ المحاربة(4) ، ثم نُسخ بذلك(5) ، وهذا قولُ جماعة منهم : الأوزاعي وأبو عُبيد .
    ومنهم من قال : بل ما فعله النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهم إنَّما كان بآية المحاربة ، ولم ينسخ شيء من ذلك ، وقالوا : إنَّما قتلهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقَطَعَ أيديهم ؛ لأنَّهم أخذوا المالَ ، ومن أخذ المالَ وقَتَلَ(6) ، قُطِعَ وقُتِلَ ، وصُلِبَ حتماً ، فيُقتَلُ لقتله(7) ويُقطع لأخذه المال يَدُه ورجلُه من خِلاف ، ويُصلَبُ لجمعه(8) بين الجنايتين وهما : القتلُ وأخذُ المال ، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد(9) .
    وإنَّما سَمَلَ أعينهم ؛ لأنَّهم سملوا أعينَ الرعاة كذا خرَّجه مسلم من حديثِ أنس(10)
    __________
    (1) في " المجتبى " 7/96 من حديث أنس بن مالك ، به .
    (2) ذكره : أبو داود ( 4364 ) ، وانظر : معالم السنن 3/256-257 .
    (3) انظر : المحلى 12/29-30 .
    (4) ذكره : أحمد 3/290 ، وأبو داود ( 4371 ) ، والترمذي ( 73 ) ، وانظر : معالم السنن 3/258 ، والمحلى 12/30-31 .
    (5) انظر : المحلى 12/31 و13/154 .
    (6) سقطت من ( ص ) .
    (7) سقطت من ( ص ) .
    (8) سقطت من ( ص ) .
    (9) انظر : المغني 10/299-300 ، والشرح الكبير 10/300 .
    (10) في " صحيحه " 5/103 ( 1671 ) ( 14 ) .
    وأخرجه : الترمذي ( 73 ) ، والبيهقي 9/70 ، وانظر : المحلى 12/29 و13/155 ، وتحفة الأحوذي 1/246 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، وذكر ابنُ شهابٍ أنَّهم قتلوا الراعي(1) ، ومَثَّلوا به(2) ، وذكر ابن سعد أنَّهم قطعوا يدَه ورجله ، وغرسوا الشوكَ في لسانه وعينيه حتّى مات(3) ، وحينئذ فقد يكونُ قطعُهم ، وسملُ أعينهم ، وتعطيشُهم قصاصاً(4) ، وهذا يتخرَّجُ على قول مَنْ يقولُ : إنَّ المحاربَ إذا جنى جنايةً توجبُ القصاصَ استُوفِيت منه قبل قتله ، وهو مذهب أحمد . لكن هل يستوفى(5) منه تحتماً كقتله أم على وجه القصاص ، فيسقط بعفو الولي ؟ على روايتين عنه(6) ، ولكن رواية الترمذي أنَّ قطعَهُم من خلاف يدلُّ على أنَّ قطعهم للمحاربة إلا أنْ يكونوا قد قطعوا يدَ الراعي ورجلَه من خلاف ، والله
    أعلم(7) .
    وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان أَذِنَ في التحريق بالنار(8) ، ثم نهى عنه كما في " صحيح البخاري " (9)
    __________
    (1) انظر : المحلى 13/155 .
    (2) ذكره : البيهقي 9/70 .
    (3) في " الطبقات " 2/71 .
    (4) انظر : معالم السنن 3/258 ، وتحفة الأحوذي 8/246-247 .
    (5) عبارة : ( لكن هل يستوفى ) سقطت من ( ص ) .
    (6) انظر : الشرح الكبير على المغني 10/303 .
    (7) من قوله : ( يدل على أن قطعهم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (8) سقطت من ( ص ) .
    (9) الصحيح 4/60 ( 2954 ) و4/74 ( 3016 ) .
    وأخرجه : أحمد 2/307 و338 و453 ، وأبو داود ( 2674 ) ، والترمذي ( 1571 ) وفي " العلل " ، له ( 278 ) ، والنسائي في "الكبرى " ( 8613 ) و( 8804 ) و( 8832 ) ، وابن الجارود ( 1057 ) ، والبيهقي 9/71 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    عن أبي هريرة قال : بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث(1) فقال : ( إنْ وَجَدتُم فلاناً وفلاناً - لرجلين من قريشٍ - فاحرقوهما بالنار ) ، ثمَّ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروجَ : ( إني كنتُ أمرتُكم أنْ تحرِقوا فُلاناً وفُلاناً بالنار ، وإنَّ النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا الله ، فإنْ وجدتموهما فاقتلوهما ) .
    وفيه أيضاً عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تُعذِّبُوا بعذاب الله - عز وجل - )(2) .
    وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنَّسائي من حديث ابن مسعودٍ قال : كُنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمَرَرنا بقريةِ نملٍ قد أُحرقَت ، فغَضِب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( إنَّه لا ينبغي لِبشرٍ أنْ يعذِّبَ بعذاب الله - عز وجل - )(3) .
    وقد حرَّقَ خالدٌ جماعة في الرِّدة(4) ، وروي عن طائفة من الصحابة تحريقُ من عَمِل عمل قومِ لوطٍ(5) ، ورُوي عن عليٍّ أنَّه أشار على أبي بكر أنْ يقتلَه ثم يحرقه بالنار(6) ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه(7) لئلا يكون تعذيباً بالنار(8).
    __________
    (1) عبارة : ( في بعث ) سقطت من ( ص ) .
    (2) سبق تخريجه .
    (3) أخرجه : أحمد 1/423 ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8614 ) ، وهو حديث صحيح .
    (4) انظر : المغني 10/6 ، والشرح الكبير 10/80 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/384 .
    (5) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170 .
    (6) انظر : المغني 10/156 ، والشرح الكبير 10/170-171 .
    (7) انظر : الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي : 210 .
    (8) من قوله : ( واستحسن ذلك إسحاق ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وفي " مسند الإمام أحمد " (1) : أنَّ علياً لما ضربه ابنُ مُلجم ، قال : افعلوا به كما أرادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يفعلَ برجل أراد قتلَه ، قال : ( اقتلوه ثم حرِّقوه ) .
    وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام ، وقال إبراهيم النَّخعيُّ : تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ . ونهت أمُ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار . وقال أحمد : لا يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ ، وقال : الجرادُ أهونُ ؛ لأنَّه لا دم لهُ(2) .
    وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صَبرِ البهائم ، وهو : أنْ تحبس البهيمة ، ثُمَّ تُضرب بالنبل ونحوه حتَّى تموتَ(3) . ففي " الصحيحين " (4) عن أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ تُصبر البهائم .
    وفيهما أيضاً عن ابن عمر : أنَّه مرَّ بقوم نصبوا دجاجةً يرمونها ، فقال ابنُ عمر : من فعل هذا ؟ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا (5) .
    وخرَّج مسلم من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً(6)
    __________
    (1) المسند 1/92-93 ، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي .
    (2) انظر : المغني 11/43 ، والشرح الكبير 11/48 .
    (3) انظر : النهاية 3/8 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
    (4) صحيح البخاري 7/121 ( 5513 ) ، وصحيح مسلم 6/72 ( 1956 ) ( 58 ).
    وأخرجه : أحمد 3/117 و171 و180 و191، وأبو داود ( 2816 )، وابن ماجه ( 3186 )، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4528 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (5) صحيح البخاري 7/122 ( 5515 ) ، وصحيح مسلم 6/73 ( 1958 ) ( 59 ) . = = ... وأخرجه : أحمد 1/338 و2/13 و43 و60 و86 و103 و141 ، والدارمي ( 1979 ) ، والنسائي 7/238 وفي " الكبرى " ، له ( 4530 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
    (6) في " صحيحه " 6/73 ( 1957 ) ( 58 ) .
    وأخرجه: أحمد 1/274 و280 و285 و340 و345، والنسائي 7/238-239 وفي "الكبرى"، له ( 4532 ) و( 4533 ) ، وابن حبان ( 5608 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 12262 )
    و( 12263 ) ، والبيهقي 9/70 ، والبغوي ( 2784 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، والغرض : هو الذي يرمى فيه بالسهام(1) .
    وفي " مسند الإمام أحمد " (2) عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرَّمِيَّةِ : أنْ ترمى الدابة ثم تُؤكلُ ولكن تُذبح ، ثم يرموا (3) إنْ شاؤوا . وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
    فلهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإحسانِ القتلِ والذبح ، وأمر أنْ تُحَدَّ الشفرةُ ، وأنْ تُراح الذبيحة ، يشير إلى أنَّ الذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها(4) .
    وخرَّج الإمام أحمد ، وابنُ ماجه من حديث ابنِ عمر ، قال : أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَدِّ الشفارِ ، وأنْ تُوارى عن البهائم ، وقال : ( إذا ذَبَحَ أَحَدُكُم ، فليُجْهِزْ )(5) يعني : فليسرع الذبح(6) .
    وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عندَ ذبحها ، وخرَّج ابنُ ماجه(7) من حديث أبي سعيد الخدري قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يجرُّ شاة بأُذنها ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دع أُذنَها وخُذْ بِسالِفَتِها ) والسالفة : مقدَّمُ العنق(8) .
    __________
    (1) انظر : النهاية 3/360 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/238 .
    (2) المسند 2/402 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
    (3) في ( ج ) : ( ليرموا ) ، وهو يخالف ما في المسند و( ص ) .
    (4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 7/95 .
    (5) أخرجه : أحمد 2/108 ، وابن ماجه ( 3172 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13144 ) ، والبيهقي 9/280 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
    (6) انظر : لسان العرب 2/400 .
    (7) السنن ( 3171 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ موسى بن محمد بن إبراهيم منكر الحديث .
    (8) انظر : النهاية في غريب الحديث 2/390 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وخرَّج الخلالُ والطبرانيُّ من حديث عكرمة ، عن ابن عباس قال : مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ واضع رجلَه على صفحة شاةٍ وهو يحدُّ شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها ، فقال : ( أفلا قبْلَ هذا ؟ تريدُ أنْ تُميتها موتتان(1) ؟ )(2) . وقد روي عن عكرمة مرسلاً خرَّجه عبدُ الرزاق(3) وغيره ، وفيه زيادة : ( هلاَّ حددت شفرتك قبل أنْ تُضْجِعها ) .
    وقال الإمام أحمد : تُقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً ، وتُوارى السكينُ عنها ، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح ، أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك : أنْ تُوارى الشفار(4) . وقال : ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنَّها تعرف ربها ، وتعرف أنَّها تموت . وقال : يُروى عن ابن سابط أنَّه قال : إنَّ البهائم جُبِلَتْ على كلِّ شيءٍ إلاَّ على أنَّها تعرف ربها ، وتخافُ الموتَ .
    وقد وردَ الأمرُ بقطع الأوداج عندَ الذبح ، كما خرَّجه أبو داود من حديث عِكرمة ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ، ولا تفري الأوداج ، وخرَّجه ابن حبان في " صحيحه " وعنده : قال عكرمة : كانوا يقطعون منها الشيء اليسيرَ ، ثم يدعونها حتى تموتَ ، ولا يقطعون الودجَ ، فنهى عن ذلك(5)
    __________
    (1) في ( ج ) : ( موتات ) ، والمثبت من ( ص ) ، و" المعجم الكبير " للطبراني .
    (2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11916 ) وفي " الأوسط " ، له ( 3590 ) ، وذكر الطبراني في " الأوسط " أنَّ عبد الرحيم بن سليمان تفرد بوصله.
    وأخرجه : الحاكم 4/233 من حديث عبد الله بن عباس ، به ، وصححه . انظر : مجمع الزوائد 4/33 .
    (3) المصنف ( 8608 ) .
    (4) انظر : المغني 11/47 ، والشرح الكبير 11/61-62 .
    (5) أخرجه : أبو داود ( 2826 ) ، وابن حبان ( 5888 ) .
    وأخرجه : أحمد 1/289 ، والحاكم 4/113 ، والبيهقي 9/278 ، وإسناده ضعيف لضعف عمرو ابن عبد الله اليماني .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وروى عبدُ الرزاق في " كتابه " (1) عن محمد بن راشدٍ ، عن الوضين بنِ عطاء ، قال : إنَّ جزَّاراً فتح باباً على شاةٍ ليذبحها فانفلتت منه حتَّى جاءت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فاتبعها ، فأخذ يَسْحَبُها برجلها ، فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( اصبري لأمرِ الله ، وأنتَ يا جزَّارُ فسُقْها إلى الموتِ سَوقاً رفيقاً ) .
    وبإسناده عن ابن سيرين : أنَّ عُمَرَ رأى رجلاً يسحب شاةً برجلها ليذبحها ، فقال له : وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت(2) قوداً جميلاً(3) .
    وروى محمدُ بنُ زيادٍ : أنَّ ابن عمر رأى قصَّاباً يجُرُّ شاةً ، فقال : سُقها إلى الموت سوقاً جميلاً ، فأخرج القصابُ شفرة ، فقال : ما أسوقها سوقا جميلاً وأنا أريد أنْ أذبحها الساعة ، فقال : سقها سوقاً جميلاً(4) .
    وفي " مسند الإمام أحمد " (5) عن معاوية بنِ قُرة ، عن أبيه : أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحمها ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والشاة إنْ رحمتها رَحِمَكَ الله ) .
    __________
    (1) المصنف ( 8609 ) ، وإسناده ضعيف لإرساله فإنَّ الوضين بن عطاء متأخر من الطبقة السادسة مات سنة ( 149 ه‍ ) وقد تكلم فيه بعضهم .
    (2) زاد بعدها في ( ص ) : ( قوداً رفيقاً ) .
    (3) أخرجه : عبد الرزاق ( 8605 ) .
    (4) من قوله : ( فأخرج القصاب شفرة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (5) المسند 3/436 و5/34 .
    وأخرجه : البخاري في "الأدب المفرد" ( 373 ) ، والبزار كما في "كشف الأستار" ( 1221 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 44 ) و( 45 ) و( 46 ) و( 47 ) وفي " الصغير " ، له ( 293 ) ، والحاكم 3/586-587 و4/231 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/302 و6/343 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11067 ) و( 11069 ) ، وهو حديث صحيح .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقال مطرف بنُ عبد الله : إنَّ الله ليرحم برحمة العصفور(1) .
    وقال نوفٌ البكالي : إنَّ رجلاً ذبح عِجَّوْلاً (2) له بين يدي أمه ، فخُبِّلَ ، فبينما هو تحتَ شجرة فيها وكْرٌ فيه فَرْخٌ ، فوقع الفرخُ إلى الأرض ، فرحمه فأعاده في مكانه ، فردَّ الله إليه قوَّته(3) .
    وقد رُوي من غير وجه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى أنْ تُولَّه والدة عن ولدها ، وهو عام في بني آدم وغيرهم(4) .
    وفي " سنن أبي داود " (5) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن الفَرَعِ ، فقال : ( هو حَقٌّ وإنْ تتركوه حتّى يكونَ بكراً ابنَ مخاض ، أو ابنَ لَبُون ، فتُعطيه أرملة ، أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أنْ تَذْبَحَهُ فيلصقَ لحمُه بوبره ، وتُكفئ إناءك وتُولِّه ناقتك ) .
    __________
    (1) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 2/210 .
    (2) هو الأنثى من ولد البقرة . انظر : لسان العرب ( عجل ) .
    (3) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 6/52 .
    (4) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 382 ) ، وأبو داود ( 2675 ) و( 5268 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10375 ) و( 10376 ) ، والحاكم 4/239 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/32-33 من حديث عبد الله بن مسعود ، به بهذا المعنى .
    وأخرجه : أحمد 1/404 ، مرسلاً من حديث عبد الرحمان بن عبد الله ، به بمعناه .
    (5) السنن ( 2842 ) .
    وأخرجه : أحمد 2/182-183 ، والحاكم 4/236 ، والبيهقي 9/312 عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، به ، ورواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من نوع الحسن .
    وأخرجه : النسائي 7/168 وفي " الكبرى " ، له ( 4551 ) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده وزيد بن أسلم .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    والمعنى : أنَّ ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عندَ ولادته لم يُنتفع بلحمه ، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ ناقته ، فتُكفِئ إناه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه الناقة ، وتولَّه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه(1) .
    __________
    (1) انظر : معالم السنن 4/266 ، وحاشية السندي على سنن النسائي 7/168-169 ، وعون المعبود 8/45 .
    ● [ تم شرح الحديث ] ●

    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر Fasel10

    جامع العلوم والحكم
    لإبن رجب الحنبلي
    منتدى ميراث الرسول . البوابة
    الحديث السادس عشر والحديث السابع عشر E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 9:23 am