من طرف اسرة التحرير الأربعاء يناير 02, 2019 3:45 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من السفر لبلغار الى قاضي القسطنطينية
● [ ذكر سفري إلى مدينة بلغار ] ●
وكنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضاً، في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر. فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني اليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب، أفطرنا. وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا، فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر. وطلع الفجر إثر ذلك. وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضاً. وأقمت بها ثلاثاً.
● [ ذكر أرض الظلمة ] ●
وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يوماً. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار. فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها الأظفار، فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها، موقرة بطعامه وشرابه وحطبه. فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مراراً كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه، ويقرن معه ثلاثة من الكلاب. ويكون هو المقدم، تتبعه سائر الكلاب بالعربات. فإذا وقف وقفت. وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولاً قبل بني آدم، وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف. فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة، نزلوا عند الظلمة، وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم، فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه، فيزيدونه، وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا متاع التجار. وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم، أمن الجن هو أم الإنس. ولا يرون أحداً. والقاقم هو أحسن أنواع الفراء. وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار، وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون. وهي شديدة البياض، من جلد حيوان صغير في طول الشبر، وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها. ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل. وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلاُ بفرواتهم عند العنق. وكذلك تجار فارس والعراقين. وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي، فوجدت محلة السلطان على الموضع المعروف ببش دغ، وذلك في الثامن والعشرين من رمضان. وحضرت معه صلاة العيد، وصادف يوم العيد يوم الجمعة.
● [ ذكر ترتيبهم في العيد ] ●
ولما كان صباح يوم العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة، وركبت كل خاتون عربتها ومعها عساكرها، وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها، إذ هي الملكة على الحقيقة، ورثت الملك من أمها، وركب أولاد السلطان، كل واحد في عسكره. وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي، ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ. فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد. وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان، ومعهم الأطبال والأعلام. فصلى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة. وركب السلطان، وانتهى إلى برج خشب يسمى عندهم الكشك، فجلس فيه ومعه خواتينه، ونصب برج ثان دونه، فجلس فيه ولي عهده وابنته صاحبة التاج. ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله، فيهما أبناء السلطان وأقاربه. ونصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك، وتسمى الصندليات، عن يمين البرج وشماله، فجلس كل واحد على كرسيه. ثم نصبت طبلات للرمي، لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف. فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر، يقودون مائة وسبعون ألفاً، وعسكره أكثر من ذلك. ونصب لكل أمير شبه منبر فقعد عليه، وأصحابه يلعبون بين يديه. فكانوا على ذلك ساعة. ثم أتي بالخلع، فخلعت على كل أمير خلعة، وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان فيخدم، وخدمته أن يمس الأرض بركبته اليمنى، ويمد رجله تحتها، والأخرى قائمة، ثم يؤتى بفرس مسرح ملجم، فيرفع حافره، ويقبل فيه الأمير، ويقوده بنفسه إلى كرسيه. وهنالك يرتبه ويقف مع عسكره. ويفعل هذا الفعل مع كل أمير منهم.
ثم ينزل السلطان على البرج ويركب الفرس، وعن يمينه ابنه ولي العهد، وتليه بنته الملكة إيت كجك، وعن يساره ابنه الثاني، وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب، والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب. وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة، فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم، إلى أن يصل الوطاق، والوطاق " بكسر الواو " هو إفراج. وقد نصبت هنالك باركة " باركاه " عظيمة، والباركة عندهم بيت عظيم له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع، وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية. ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان، ويفرش ذلك كله بفرش الحرير، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم، وهم يسمونه التخت، وهو من خشب مرصع، وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة، وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة، وفوقه فرش عظيم وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس السلطان والخاتون الكبرى، وعن يمينه مرتبة جلست بها ابنته إيت كجك ومعها الخاتون أردوجا، وعن يساره مرتبة جلست بها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان، ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني، ونصبت كراسي عن اليمين والشمال جلس فوقها أبناء الملوك الكبار، ثم الأمراء الصغار، مثل أمراء هزارة، وهم الذين يقودون ألفاً. ثم أتي بالطعام على موائد الذهب والفضة، وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك. وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة، وتوضع بين يدي كل أمير مائدة، ويأتي الباروجي، وهو مقطع اللحم، وعليه ثياب حرير، وقد ربط عليها فوطة حرير، وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها. ويكون لكل أمير باروجي. فإذا قدمت المائدة قعد بين يدي أميره. ويؤتى بصفحة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء، فيقطع البروجي اللحم قطعاً صغاراً ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطاً بالعظم، فإنهم لا يأكلون منه إلا ما أختلط بالعظم. ثم يؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب، وأكثر شربهم نبيذ العسل. وهم حنفية المذهب، يحللون شرب النبيذ. فإذا أراد السلطان أن يشرب، أخذت ابنته القدح بيدها، وخدمت برجلها، ثم ناولته القدح فشرب. ثم تأخذ قدحاً آخر فتناوله للخاتون الكبرى، فتشرب منه. ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم ولي العهد القدح، ويخدم ويناوله إياه فيشرب. ثم الخواتين ثم أخته، ويخدم جميعهن. ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له. ثم يقوم الأمراء الكبار، فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له، ثم يقوم أبناء الملوك، ويغنون أثناء ذلك بالموالية. وكانت قد نصبت قبة كبيرة أيضاً إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك. ولا يتصرف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلا الكبار، فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد. فكان من الفقهاء من أكل، ومنهم من تورع عن الأكل في موائد الفضة والذهب. ورأيت مد البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القمز. فأمر السلطان بتفريقها على الناس. فأتوا إلي بعربة منها، فأعطيتها لجيراني من الأتراك. ثم أتينا المسجد تنتظر صلاة الجمعة، فأبطأ السلطان. فمن قائل: إنه لا يأتي. لأن السكر قد غلب عليه، ومن قائل: إنه لا يترك الجمعة. فلما كان بعد تمكن الوقت أتى وهو يتمايل، فسلم على السيد الشريف، وتبسم له، وكان يخاطبه بآطا، وهو الأب بلسان التركية. ثم صلينا الجمعة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وانصرف السلطان إلى الباركة، فبقى على حاله إلى صلاة العصر. ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته.
ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد، فوصلا إلى المدينة الحاج ترخان، ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم، " وهو بفتح المثناة وسكون الراء وبفتح الخاء المعجم وآخره نون "، والمنسوب إليه هذه المدينة. هو حاج من الصالحين تركي نزل بموضعها، وحرر له السلطان ذلك الموضع. فصار قرية عظمت وتمدنت. وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أتل، وهو من أنهار الدنيا الكبار. وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به، ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التبن، فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر. والتبن هنالك لا تأكله الدواب لأنه يضرها، وكذلك ببلاد الهند، وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد. ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر والمياه المتصلة به ثلاث مراحل، وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء، فيغرقون ويهلكون. ولما وصلنا مدينة الحاج ترخان رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أن يأذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه، فأذن لها. ورغبت منه أن يأذن لي في التوجه صحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى فمنعني خوفاً علي. فلاطفته وقلت له: إنما أدخلها في حرمتك وجوارك، فلا أخاف من أحد. فأذن لي وودعناه. ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة وأفراس كثيرة. وأعطتني كل خاتون منهن سبائك الفضة، وهم يسمونها بصوم " بفتح الصاد المهمل "، واحدتها صومة. وأعطت ابنته أكثر منهن، وكستني وأركبتني واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسمور جملة.
● [ ذكر سفري إلى القسطنطينية ] ●
وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة، ورجع هو والملكة وولي عهده، وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن، وسافر صحبتها الأمير بيدره في خمسة آلاف من عسكره. وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس، منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين، والباقون من الترك. وكان معها من الجواري نحو مائتين، وأكثرهن روميات. وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة، ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب، ونحو ثلثمائة من البقر، ومائتين من الجمال لجرها. وكان معها من الفتيان الروميين عشرة، ومن الهنديين مثلهم. وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي، وقائد الروميين ويسمى بميخائيل، ويقول له الأتراك لؤلؤ، وهو من الشجعان الكبار. وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل. وتوجهنا إلى مدينة أكك. وهي " بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى " مدينة متوسطة حسنة العمارة كثير الخيرات شديد البرد. وبينهما وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشر؛ وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الروس، وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة. ومن بلادهم يؤتى بالصوم، وهي سبائك الفضة التي يباع ويشتري في هذه البلاد، ووزن الصومة منها خمس أوقي.
ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سردق " وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف ". وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر، ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها، وبخارجها البساتين والمياه. وينزلها الترك. وطائفة من الروم تحت ذمتهم، وهم أهل الصنائع. وأكثر بيوتها خشب. وكانت هذه المدينة كبيرة. فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك. وكانت الغلبة للروم. فانتصر للترك أصحابهم، وقتلوا الروم شر قتلة، ونفوا أكثرهم، وبقي بعضهم تحت الذمة إلى الآن. وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر والدوقي والقمز وألبان البقر والغنم. والسفر في هذه البلاد مضحي ومعشي. وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده، تعظيماً لها، لا خوفاً عليها، لأن تلك البلاد آمنة. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بابا سلطوق، وبابا عندهم بمعناه عند البربر سواء، إلا أنهم يفخمون الباء وسلطوق " بفتح السين المهمل واسكان اللام وضم الطاء المهمل وآخره قاف "، ويذكرون أن سلطوق هذا كان مكاشفاً، لكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع. وهذه البلاد آخر بلاد الأتراك، بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوماً في برية غير معمورة، منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء، ويحمل في الروايا والقرب على العربات، وكان دخولنا إليها في أيام البرد، فلم نحتج إلى كثير من الماء. والأتراك يرفعون الألبان في القرب، ويخلطونها بالدوقي المطبوخ ويشربونها فلا يعطشون. وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبرية، واحتجت إلى زيادة أفراس، فأتيت الخاتون، فأعلمتها بذلك. وكنت أسلم عليها صباحاً ومساء ومتى أتتها ضيافة تبعث إلي بالفرسين والثلاثة وبالغنم. فكنت أترك الخيل لأذبحها. وكان من معي من الغلمان، والخدم يأكلون مع أصحابنا الأتراك، فاجتمع لي نحو خمسين فرساً. وأمرت لي الخاتون بخمسة عشر فرساً، وأمرت وكيلها ساروجة الرومي أن يختارها سماناً من خيل المطبخ. وقالت: لا تخف، فإن احتجت إلى غيرها زدناك. ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة. فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة عشر يوماً وإقامتنا خمسة. ورحلنا من هذه البرية ثمانية عشر يوماً مضحى ومعشى، وما رأينا إلا خيراً والحمد لله.
ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي، وهو أول عمالة الروم " وضبط اسمه بفتح الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوة وواو مد ولام مكسور وياء " وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها، فوصلنا إلى هذا الحصن فاستقبلنا كفالي نقوله الرومي، في عسكر عظيم وضيافة عظيمة. وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية. وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوماً، منها ستة عشر يوماً إلى الخليج، وستة منه إلى القسطنطينية. ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال، وتترك العربات به، لأجل الوعر والجبال. وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة، وبعثت إلي الخاتون بستة منها، وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال، فأمر لهم بدار. ورجع الأمير بيدرة بعساكره، لم يسافر مع الخاتون إلا ناسها، وتركت مسجدها بهذا الحصن، وارتفع حكم الأذان. وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها. ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا. وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي. ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا. ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك، وهم بسفح جبل على نهر زخار، يقال له: اصطقيلي، ولم يبق من هذا الحصن إلا آثاره، وبخارجه قرية كبيرة. ثم سرنا يومين، ووصلنا إلى الخليج، وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد، فأقمنا حتى كان الجزر، وخضناه، وعرضه نحو ميلين. ومشينا أربعة أميال في رمال، ووصلنا الخليج الثاني، فخضناه، وعرضه نحو ثلاثة أميال، ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل، ووصلنا الخليج الثالث، وقد ابتدأ المد، فتبعنا فيه، وعرضه ميل واحد. فعرض الخليج كله مائيه ويابسه اثنا عشر ميلاً، وتصير ماء كلها في أيام المطر، فلا تخاض إلا في القوارب.
وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة " واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مد وكاف مفتوح "، وهي صغيرة، لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان، والأنهار تخرقها والبساتين تحفها، ويدخر بها العنب والإجاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً. والخاتون في قصر لأبيها هنالك، ثم قدم أخوها شقيقها اسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكي السلاح، ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرساً أشهب، ولبس ثياباً بيضاء، وجعل على رأسه مظللاً مكللاً بالجواهر، وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، لابسين البياض أيضاً، وعليهم مظللات مزركشة بالذهب، وجعل بين يديه مائة من المشائين ومائة فارس، قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم، وكل واحد منهم يقود فرساً مسرجاً مدرعاً، عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والتركش والقوس والسيف، وبيده رمح في طرف رأسه راية. وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة. وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان. وقسم فرسانه على أفواج، كل فوج فيه مائتا فارس، لهم أمير قد قدم أمامه عشر من الفرسان شاكين في السلاح، وكل واحد منهم يقود فرساً، وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان، وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان، ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات، وهي الغيطات. وركبت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها، وهم نحو خمسمائة، عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصعة، وعلى الخاتون حلة يقال لها: النخ، ويقال لها أيضاً: النسيج، مرصعة بالجوهر، وعلى رأسها تاج مرصع، وفرسها مجلل حرير مزركش بالذهب، وفي يده ورجليه خلاخل الذهب، وفي عنقه قلائد مرصعة. وعظم السرج مكسو ذهباً، مكلل جوهراً. وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد. وترجل لها أخوها لأنه أصغر سناً منها، وقبل ركابها، وقبلت رأسه. وترجل الأمراء وأولاد الملوك، وقبلوا جميعاً ركابها، وانصرفت مع أخيها. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر، لا نثبت الآن اسمها، ذات أنهار وأشجار، نزلنا بخارجها. ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع، وعلى رأسه تاج، وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء، إلا أن الحفل أعظم، والجمع أكثر. وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول، وترجلا جميعاً. وأتي بخباء حرير فدخلا فيه. فلا أعلم كيفية سلامها، ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية. فلما كان بالغد خرج أهلها من رجال من رجال ونساء وصبيان، ركباناً ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس، وضربت عند الصبح الأطبال والابوا ق والانفار، وركبت العساكر، وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب الدولة والخواص، وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان، ورجال بأيديهم عصي طوال، في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الرواق، وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصي. ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج، ولم أقدر على الدخول فيما بينهم، فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها، خوفاً على نفسي. وذكر لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما، ثم قبلت حافري فرسيهما. وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك. وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى، وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها. ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل، معهم قائد لهم فوق دكانه. وسمعتهم يقولون: سراكنوا سراكنوا، ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا. فقالوا: لا يدخلون إلا بإذن. فأقمنا بالباب، وذهب بعض أصحاب الخاتون، فبعث من أعلمها بذلك، وهي بين يدي والدها، فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا. وعين لنا داراً بمقربة من دار الخاتون، وكتب لنا أمراً بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة، ونودي بذلك في الأسواق.وأقمنا بالدار ثلاثاً، فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش. وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.
● [ ذكر سلطان القسطنطينية ] ●
واسمه تكفور " بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء " ابن السلطان جرجيس. وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة، لكنه تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس، وترك الملك لولده وسنذكره. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إلي الخاتون الفتى سنبل الهندي، فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر، فجزنا أربعة أبواب، في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة. فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سكين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم، لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام، غريب أو بلدي، وكذلك الفعل بأرض الهند. ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب، فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي، واثنان من ورائي فدخلوا بي إلى مشور كبير، حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد، وفي وسطه ساقيه ماء، ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يميناً ويساراً سكوتاً لا يتكلم أحد منهم، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف. أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون، وأشار إليهم رجل فتقدموا بي، وكان أحدهم يهودياً فقال لي بالعربي: لا تخف، فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد، وأنا الترجماني، وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم. فقال: قل السلام عليكم.ثم وصلت إلى قبة عظيمة، والسلطان على سريره، وزوجته أم هذا الخاتون بين يديه، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها، وعن يمينه ستة رجال، وعن يساره اربعة، وكلهم بالسلاح. فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة، ليسكن روعي، ففعلت ذلك، ثم وصلت إليه فسلمت عليه، وأشار إلى أن أجلس فلم أفعل. وسألني عن بيت المقدس، وعن الصخرة المقدسة، وعن القمامة، وعن مهد عيسى، وعن بيت لحم، وعن مدينة الخليل عليه السلام، ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم، فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه. فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه. ثم خلع علي خلعة، وأمر لي بفرس مسرج ملجم، ومظلة من التي يجعلها الملك فوق رأسه، وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم، حتى أشاهد عجائبها وغرائبها، وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم ان الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذوا فطافوا بي في الأسواق.
● [ ذكر المدينة ] ●
وهي متناهية في الكبر، منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم المد والجزر، على شكل وادي سلا من بلاد المغرب. وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنية فخربت. وهو الآن يعبر في القوارب. واسم هذا النهر أبسمي " بفتح الهمزة واسكان الباء الموحدة وضم السين المهمل وكسر الميم وياء مد ". وأحد القسمين من المدينة يسمى أصطنبول " بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو مد ولام "، وهو بالعدوة الشرقية من النهر، وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس. وأسواقه وشوارعه مفروشه بالصفاح متسعة. وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم شواهم، وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة به النساء. والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال، وعرضه مثل ذلك أو أكثر، وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان. والسور يحيط بهذا الجبل، وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر. وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة. وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة " بغين معجمة ولام وطا مهمل مفتوحات " وهو بالعدوة الغربية من النهر، شبيه برباط الفتح في قربه من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه. وهم أصناف، فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة. وحكمهم إلى ملك القسطنطينية، يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص، وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية. وربما استعصوا عليه، فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا. وجميعها أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي، رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وأسواق هذا القسم حسنة، إلا أن الأقذار غالبة عليها، ويشقها نهر صغير قذر نجس، وكنائسهم لا خير فيها.
● [ ذكر الكنيسة الضخمة ] ●
وإنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده. وهي تسمى عندهم أياصوفيا " بفتح الهمزة والياء آخر الحروف والف وصاد مضموم وواو مد وفاء مكسورة وياء كالأولى والف ". ويذكر أنها من بناء آصف بن بريخاء، وهو ابن خالة سليمان عليه السلام. وهي من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف به فكأنها مدينة. وأبوابها ثلاثة عشر باباً، ولها حرم هو نحو ميل، عليه باب كبير، ولا يمنع أحد من دخوله. وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره، وهو شبه مشور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة، لها حائطان مرتفعان نحو ذراع، مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة، والأشجار منتظمة عن جهتي الساقية. ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع، عليه دوالي العنب، وفي أسفله الياسمين والرياحين، وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب، يجلس عليها خدام ذلك الباب. وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب، يجلس بها قضاتهم وكتاب دواوينهم. وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب، وفيها كرسي كبير مطبق بالملف، يجلس فوقه قاضيهم وسنذكره، وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطارين. والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين أحدهما يمر بسوق العطارين، والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب، وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحداً بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة، مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها، حتى صارت صليباً. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب، وحلقتاه من الذهب الخالص. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين. وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف. وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحاً إلى زيارة هذه الكنيسة، ويأتي إليها البابا مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد، يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له. وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحاً ومساء للسلام طوال مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.
● [ ذكر المانستارات بقسطنطينية ] ●
والمانستار على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين، وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها مانستار عمره الملك جرجيس وااد ملك القسطنطينية وسنذكره، وهو بخارج اصطنبول مقابل الغلطة. ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها، وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء. وأحدهما للرجال والآخر للنساء. وفي كل واحد منهما كنيسة، ويدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات، وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم، بناهما أحد الملوك. ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين، ويطيف بها بيوت. وأحدهما يسكنه العميان، والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة، ممن بلغ الستين أو نحوها. ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك. وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه. وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستاراً أو لبس المسوح، وهي ثياب الشعر، وقلد ولده الملك، واشتغل بالعبادة حتى يموت. وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات، ويعملونها بالرخام والفسيفساء، وهي كثيرة بهذه المدينة ودخلت مع الرومي الذي عينه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر، وفيه كنيسة فيها نحو خمسمائة بكر، عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد، ولهن جمال فائق، وعليهن أثر العبادة. وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه، وحوله ثمانية من الصبيان على منابر، ومعهم قسيسهم. فلما قرأ هذا الصبي قرأ صبي آخر. وقال لي الرومي: إن هؤلاء البنات من بنات الملوك، وهبن أنفسهن لخدمة هذه الكنيسة، وكذلك الصبيان القراء، ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة. ودخلت أيضاً إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبياً يقرأ لهن على منبر، وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأولين، فقال لي الرومي: هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدن بهذه الكنيسة. ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد، وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء، وإلى كنائس فيها الرهبان، يكون في الكنيسة منه مائة رجل أو أكثر أو أقل، وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون. وكنائسها لا تحصى كثرة. وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفاً، والنساء لهن عمائم كبار.
● [ ذكر الملك المترهب جرجيس ] ●
وهذا الملك ولى الملك لابنه، وانقطع للعبادة، وبنى مانستاراً كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها. وكنت يوماً مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماشٍ على قدميه، وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد، وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة، وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان، وبيده عكاز، وعلى عنقه سبحة. فلما رآه الرومي نزل وقال لي: انزل فهذا والد الملك. فلما سلم عليه الرومي سأله عني، ثم وقف وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي، وكان يعرف اللسان العربي: قل لهذا السراكنوا، يعني المسلم أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس، والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمى قمامة وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه، فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفاً. ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه، وهو من كبارهم في الرهبانية. ولما رآهم أرسل يدي فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة. فقال للترجمان: قل له: لابد لداخلها من السجود للصليب الأعظم، فإن هذا مما سنته الأوائل، ولا يمكن خلافه، فتركته، ودخل وحده، ولم أره بعد.
● [ ذكر قاضي القسطنطينية ] ●
ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتاب، فرآني القاضي فبعث إلي أحد أعوانه، فسأل الرومي الذي معي، فقال له: إنه من طلبة المسلمين. فلما عاد إليه وأخبره بذلك بعث إلي أحد أعوانه، وهم يسمون القاضي النجشي كفالي، فقال لي: النجشي كفالي يدعوك، فصعدت إليه، إلى القبة التي تقدم ذكرها، فرأيت شيخاً حسن الوجه واللمة، عليه لباس الرهبان وهو الملف الأسود، وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون. فقام إلي وقام أصحابه، وقال: أنت ضيف الملك، ويجب علينا إكرامك. وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر وأطال الكلام وكثر عليه الازدحام، وقال لي: لابد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك. فانصرفت عنه، ولم ألقه بعد.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
منتدى توتة وحدوتة - البوابة