من طرف اسرة التحرير الأربعاء فبراير 10, 2021 7:26 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ تابع القاعدة الخامسة ] ●
وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه و الوجوب و التحريم إنما يلزم العبد إذ قصده أو قصد سببه فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شئ بالاتفاق ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها ابتداء فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلى الحج أو الطلاق ليس قصده التزام حج ولا طلاق ولا تكلم بما يوجبه ابتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع إن فعلت كذا فهذا لى لازم أو هذا على حرام لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم وأيضا فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج ابن يوسف وهي تشتمل على اليمين بالله و صدقة المال و الطلاق و العتاق و إني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة و انتشرت انتشارا عظيما ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل و نشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد و الحيل في الأيمان حتى اتخذوا آيات الله هزوا وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها إما شرعا وإما طبعا و غالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج و الغضب ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين و الدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود و قد قيل إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوج غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل أخذت عن الكوفيين و غيرهم الحيلة الأولى في المحلوف عليه فيتؤول لهم خلاف ما قصدوه و خلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس و عاداتهم وهذا هو الذي وضعه بعض المتكلمين في الفقه و سموه باب المعاياة و سموه باب الحيل في الأيمان و أكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين و لا يجوز حمل كلام الحالف عليه و لهذا كان الأئمة كأحمد و غيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان الحيلة الثانية إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة و هذه الحيلة أحدث من التي قبلها و أظنها حدثت في حدود المائة الثالثة فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة و حيلة الخلع لا تمشي على أصلهم لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع عليه به الطلاق لأن المعتدة من فرقة ثانية يلحقها الطلاق عندهم فيحتاج المحتال بهذه الحيلة إلى أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه و هذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي و ربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ و ليس بطلاق فيصيير الخالع كلما أراد الحنث خلع زوجته و فعل المحلوف عليه ثم تزوجها فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان هو شبيه بنكاح المحلل سواء فإن ذلك عقد عقدا لم يقصده و إنما قصد إزالته و هذا فسخ فسخا لم يقصده و إنما قصد إزالته وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا في إبطالها و ذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع الحيلة الثالثة إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به فيبطلوه بالبحث عن شروطه فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع و مذهب الشافعي في أحد قوليه و أحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه و الفسوق غالب على كثير من الناس فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع يمين الطلاق ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح و كون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع في الفاسد في الجملة و أما عند الوطء و الاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح بالنكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك و كذلك لا ينظرون في ذلك عند الميراث و غيره من أحكام النكاح الصحيح بل إنما ينظرون إليه فقط عند وقوع الطلاق خاصة وهو نوع من اتخاذ آيات الله هزوا و من المكر في آيات الله و إنما أوجبه الحلف بالطلاق و الضرورة إلى عدم وقوعه الحيلة الرابعة السريجية في إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج و طائفة بعده اعتقدوا أنه إذ 1 قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع و أما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح و أنه ما من نكاح إلا و يمكن فيه الطلاق و سبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق و هذا الكلام ليس بصحيح فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقه بثلاث ممتنع في الشريعة و الكلام المشتمل على ذلك باطل و إذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أن يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز على قولين في مذهب الشافعي و أحمد و غيرهما وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته و احتال بها من بعده لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة و مقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق و لهذا صاغوها بقولهم إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا لأنه لو قال إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة و إن كان كلاهما في الدور سواء و ذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته إذا طلقتك فعبدي حر أو فأنت طالق لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد فإن كل واحد من المنجز و المعلق الذي وجد شرطه تطليق أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ووجود الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه فأما إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فهذا يعم المنجز و المعلق بعد هذا بشرط و الواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه فصوروا المسألة بصورة قوله إذا وقع عليك طلاقي حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك فيقولون له افعل الآن ما حلفت عليه فإنه لا يقع عليك طلاق فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق و إلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا الحيلة الخامسة إذا وقع الطلاق و لم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت عليه السنة و إجماع الصحابة مع دلالة القرآن و شواهد الأصول على تحريمه و فساده ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله كما نبهنا على بعضه في كتاب بيان الدليل على إبطال التحليل و أغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق و إلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده و من قصده لم يترتب عليه عنده من الندم و الفساد ما يترتب على من اضطر إلى وقوعه لحاجته إلى الحنث فهذه المفاسد الخمسة التي هي الاحتيال على نقض الأيمان و إخراجها عن مفهومها و مقصودها ثم الاحتيال بالخلع و إعادة النكاح ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق ثم الاحتيال بنكاح المحلل في هذه الأمور من المكر و الخداع و الاستهزاء بآيات الله و اللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الله و يوجب طعن الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى و غيرهم و يتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود و مخاريق الرهبان و أن أكثر ما أوقع الناس بها و أوجب كثرة إنكار الفقهاء عليها و استخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق و اعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون و غيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل و كثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء و نحوهم كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه فإن تلك الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة و إلا لم يكن لها منفعة فإذا كان الحلف بالطلاق و اعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه بأهل الكتاب كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أفتى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ولا العلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة استندت على قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله و إلى رسوله وقد خالفهم فيه من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم فإنا قد ذكرنا عن أعيان الصحابة كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته و فقهه و دينه و أخته حفصة أم المؤمنين و زينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق و الطلاق ما هو أولى منه و ذكرنا عن طاوس وهو من أفاضل أفاضل علماء التابعين علما و فقها و دينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة لهفإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد وحاله في الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزرعها و يستثمرها و بيع الخضر و نحوها وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه أو ليعقن أباه أو ليقتلن عدوه المسلم المعصوم أو ليأتين الفاحشة أو ليشربن الخمر أو ليفرقن بين المرء و زوجه و نحو ذلك من كبائر الإثم و الفواحش فهو بين ثلاثة أمور إما أن يفعل هذا المحلوف عليه فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا و الآخرة مع أن كثيرا من الناس بل من المفتين إذا رآه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه و إقامة عذره و إما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما استخرجه قوم من المفتين ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله و مخادعته و المكر السيء بدينه و الكيد له و ضعف العقل و الدين و الاعتداء لحدود الله و الانتهاك لمحارمه و الإلحاد في آياته ما لا خفاء به و إن كان من إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك فقد دخل من الغلط في ذلك وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق ففي ذلك من الفساد في الدين و الدنيا ما لا يأذن به الله ولا رسوله أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المختلعات و المنتزعات هن المنافقات ) و قال ( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) وقد اختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه وفيه روايتان عن أحمد وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض فقال يطلقها ولا يطأها قد أباح الله الطلاق و حرم وطء الحائض وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين أما على قوله إن الطلاق ليس بحرام و إنما يكون تحريمه دون تحريم الوطء و إلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط أن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة وهي متاعه التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ( الدنيا متاع و خير متاعها المرأة المؤمنة إن نظرت إليها أعجبتك و إن أمرتها أطاعتك و إن غبت عنها حفظتك في نفسها و مالك ) وهي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لما سأله المهاجرون ( أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر و قلب شاكر و امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه ) رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان و بينهما من المودة و الرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا و أشد من ذهاب المال و أشد من فراق الأوطان خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب و علاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق و يفسد حالهم ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله { فجعله نسبا وصهرا } و معلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } و من العسر المنفي بقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } و أيضا فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر و إحسان من صدقة و عتاقة و تعليم علم و صلة رحم و جهاد في سبيل الله و إصلاح بين الناس ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله و يرضاها فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك بل و لا يؤمر به شرعا لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال وهي المفسدة التي أزالها الله بقوله { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } و أزالها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله ) فإن قيل فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث فما كان ينبغي له أن يحلف قيل ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه خرجا وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق إما لكراهته للمرأة أو غضبه عليها و نحو ذلك وقد جعل الله الطلاق ثلاثا فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ووالى ثلاث مرات متفرقات كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول فإن مقصوده لم يكن الطلاق و إنما كان أن يفعل المحلوف عليه أولا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار له ولا لسببه و أيضا فإن الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا و استمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت رضي الله عنه من امرأته وأيضا فالاعتبار بنذر اللجاج و الغضب فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه و سنبين إن شاء الله عدم تأثيره و القياس بالفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين وذلك أن الرجل إذا قال إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئة كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه بدلالة الكتاب و السنة و إجماع الصحابة فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق أو فالطلاق لي لازم أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار و إن قال علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا و الحج لي لازم لا أفعل كذا و كلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عند الصحابة و إنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا و ربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها و كانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا و هذا إلا أن قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل وقوله مرأتي طالق يقتضي وجود الطلاق فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط و إن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة و جواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء الفرقون من وجهين أحدهما منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها والثاني بيان عدم التأثير أما الأول فإنه إذا قال إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فأنا محرم أو فبعيري هدي فالمعلق بالصفة وجود الصدقة و الإحرام و الهدي لا وجوبها كما أن المعلق في قوله فعبدي حر و امرأتي طالق وجود الطلاق و العتق لا وجوبهما ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا و غيرهم فيما إذا قال هذا هدي وهذا صدقة لله هل يخرج عن ملكه أولا يخرج فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجه و عبده عن ملكه أكثر ما في الباب أن الصدقة و الهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة و العبد وهذا لا تأثير له و كذلك لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله علي الحج لأفعلن كذا فهلا جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلق فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود وأما الجواب الثاني فنقول هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق و العتاق و المعلق هناك وجود الصدقة و الحج و الصيام و الإهداء أليس موجب الشرط ثبوت هذا وجوب وذاك الوجود عند وجود الشرط فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب بل يجزيه كفارة يمين فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل يجزيه كفارة يمين كما لو قال هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين ولا يلزمه شيء ولو قال ابتداء هو يهودي أو نصراني أو كافر للزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدي حر و امرأتي طالق وهده البدنة هدي وعلي صوم يوم الخميس ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أن يحكم بكفره لكن لا يتأخر الكفر لأن توقيته دليل على فساد عقيدته فإن قيل في الحلف بالنذر إنما عليه الكفارة فقط قيل مثله في الحلف بالعتق و كذلك في الحلف بالطلاق كما لو قال فعلي أن أطلق امرأتي ومن قال إنه إذا قال فعلي أن أطلق امرأتي لا يلزمه شيء فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا وإن قيل إنه يخير بين الوفاء به و التكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق و العتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير و بين تطليقها فإن وطئها لزمته الكفارة لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول و زور حرمها عليه و أما هنا فقوله إن فعلت فهي طالق فهو بمنزلة قوله فعلي أن أطلقها أو قال و الله لأطلقنها فإن طلقها فلا شيء عليه و إن لم يطلقها فعليه كفارة يمين يبقى أن يقال فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال و الله لأطلقنها الساعة و لم يطلقها أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها أو لا يجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل كالذي يخير بين فراقها و إمساكها لعيب و نحوه و كالمعتقة تحت عبد أو لا يجب بحال حتى يفوت الطلاق قبل الحكم في ذلك كما لو قال فثلث مالي صدقة أو هدي و نحو ذلك والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما كسائر أنواع الخيار
● [ فصل ] ●
موجب نذر اللجاج و الغضب على المشهور عندنا أحد شيئين إما التكفير و إما فعل المعلق ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل فهو مخير بين هذا الوجوب و بين وجوب الكفارة فإذا لم يستلزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة فاللازم له أحد الوجوبين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر كما في الواجب المخير و كذلك إذا قال إذا فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق و المال للتصدق و البدنة للهدي ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة و هذه البدنة هدي و علي عتق هذا العبد فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج فيه خلاف وهو يشبه قوله هذا وقف و أما إذا قال هذا العبد حر و هذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله برئت ذمة فلان من كذا و من دم فلان أو من قذفي فإن إسقاط حق الدم و المال و العرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع و ملك اليمين فإذا قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار و قلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك و بين وجوب الكفارة كما لو قال فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي و نظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار و نسائي طوالق و قلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب التكفير و أمثال ذلك و أيضا إذا أسلم و تحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون فيها الفرقة أحد اللازمين إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إلى إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج و الغضب اخترت التكفير أو اخترت فعل المنذور فهل يتعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين النساء و بين الطلاق و العتق و إن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل كالتخيير بين خصال الكفارة و إن كان بين الفعل و الحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر أو امرأتي طالق أو دمي هدر أو مالي صدقة أو بدنتي هدي تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل و الله سبحانه و تعالى أعلم آخر ما تيسر بحمد الله و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تم هذا الكتاب بعون الله و منته على يد كاتبه علي بن سليمان آل يحيى في آخر جمادى الأولى سنة 1318 هجرية الحمد لله وحده و صلى الله و سلم و بارك على من لا نبي بعده عبد الله و رسوله الكريم محمد وعلى آله أما بعد فقد تم طبع هذه القواعد النفيسة لشيخ الإسلام علم الإعلام الإمام المجتهد و الفقيه المحقق تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية المتوفى سنة 728 رحمه الله و غفر لنا و له و جزاه الله عن الإسلام و المسلمين خيرا و جمعنا به دار كرامته
● [ تم كتاب القواعد النورانية الفقهية ] ●
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة