من طرف اسرة التحرير الأربعاء فبراير 23, 2022 2:36 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ تابع الباب السابع عشر ] ● ● فصل ●
فالطوائف كلها متفقة على الكسب ومختلفون في حقيقته فقالت القدرية هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا وليس للرب صنع فيه ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريدا له وقالت الجبرية الكسب اقتران الفعل بالقدرة الحادثه من غير أن يكون لها فيه أمر وكلا الطائفتين فرق بين الخلق والكسب ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق فقال الأشعري في عامة كتبه: "معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فمن وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب" وقال قائلون من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة قال واختلفوا هل يقال أن الإنسان فاعل على الحقيقة فقالت المعتزلة كلها إلا الناشئ: "أن الإنسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز" وقال الناشئ: "الإنسان لا يفعل في الحقيقة ولا يحدث في الحقيقة" وكان يقول: "أن البارئ أحدث كسب الإنسان قال فلزمه محدث لا لمحدث في الحقيقة ومفعول لا لفاعل في الحقيقة" قلت وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل لفعله وفعله مفعول وليس هو فعلا لله ولا فعلا للعبد فلزمه مفعول من غير فاعل ولعمر الله أن هذا الإلزام لازم لأبي الحسن وللجبرية فإن عندهم الإنسان ليس بفاعل حقيقة والفاعل هو الله وأفعال الإنسان قائمة لم تقم بالله فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به فكيف يكون الله سبحانه هو فاعلها ولو كان فاعلها لعادت أحكامها عليه واشتقت له منها أسماء وذلك مستحيل على الله فيلزمك أن تكون أفعالا لا فاعل لها فإن العبد ليس بفاعل عندك ولو كان الرب فاعلا لها لاشتقت له منها أسماء وعاد حكمها عليه، فإن قيل فما تقولون أنتم في هذا المقام، قلنا لا نقول بواحد من القولين بل نقول هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته وسر المسألة أن العبد فاعل منفعل باعتبارين هل هو منفعل في فاعليته فربه تعالى هو الذي جعله فاعلا بقدرته ومشيئته وأقدره على الفعل وأحدث له المشيئة التي يفعل بها قال الأشعري وكثير من أهل الإثبات يقولون: "أن الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى مكتسب" ويمنعون أنه محدث قلت هؤلاء وقفوا عند ألفاظ الكتاب والسنة فإنهما مملوآن من نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة فالاسم العام كقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ}: {تَفْعَلُونَ}: {تَكْسِبُونَ} والأسماء الخاصة: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: {وَيُؤْمِنُونَ}: {وَيَخَافُونَ}: {يَتُوبُونَ}: {يُجَاهِدُونَ} وأما لفظ الإحداث فلم يجيء إلا في الذم كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا" فهذا ليس بمعنى الفعل والكسب وكذلك قول عبد الله بن مغفل لابنه: "إياك والحدث في الإسلام" ولا يمتنع إطلاقه على فعل الخير مع التقييد قال بعض السلف: "إذا أحدث الله لك نعمة فأحدث لها شكرا وإذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة" ومنه قوله هل أحدثت توبة وأحدث للذنب استغفارا ولا يلزم من ذلك إطلاق اسم المحدث عليه والإحداث على فعله قال الأشعري وبلغني أن بعضهم أطلق في الإنسان أنه محدث في الحقيقة بمعنى مكتسب قلت ههنا ألفاظ وهي فاعل وعامل ومكتسب وكاسب وصانع ومحدث وجاعل ومؤثر ومنشئ وموجد وخالق وبارئ ومصور وقادر ومريد وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام قسم لم يطلق إلا على الرب سبحانه كالبارئ والبديع والمبدع وقسم لا يطلق إلا على العبد كالكاسب والمكتسب وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد كاسم صانع وفاعل وعامل ومنشئ ومريد وقادر وأما الخالق والمصور فإن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب كقوله الخالق البارئ المصور وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدر شيئا في نفيه أنه خلقه قال: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفر أي لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدرته في نفسك وغيرك يقدر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي أحسن المصورين والمقدرين والعرب تقول قدرت الأديم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين" وقال الليث: "رجل خالق أي صانع وهن الخالقات للنساء" وقال مقاتل: "يقول تعالى هو أحسن خلقا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه فإنه الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها والعبد لا تتعلق قدرته بذلك إذ غاية مقدوره التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب تعالى وبراه وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعداه قدرته ليس من هذا بريت القلم لأنه معتل لا مهموز ولا برأت من المرض لأنه فعل لازم غير متعد وكذلك مبدع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الرب كقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق والعبد يسمى مبتدعا لكونه أحدث قولا لم تمض به سنة ثم يقال لمن اتبعه عليه مبتدع أيضا وأما لفظ الموجد فلم يقع في أسمائه سبحانه وإن كان هو الموجد على الحقيقة ووقع في أسمائه الواجد وهو بمعنى الغنى الذي له الوجد وأما الموجد فهو مفعل من أوجد وله معنيان أحدهما: أن يجعل الشيء موجودا وهو تعدية وجده وأوجده قال الجوهري: "وجد الشيء عن عدم فهو موجد مثل حم فهو محموم" وأوجده الله ولا يقال وجدوه والمعنى الثاني: أوجده جعل له جدة وغنى وهذا يتعدى إلى مفعولين قال في الصحاح: "أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وأوجده أي أغناه" قلت وهذا يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون من باب حذف أحد المفعولين أي أوجده مالا وغنى وأن يكون من باب صيره واجدا مثل أغناه وأفقره إذا صيره غنيا وفقيرا فعلى التقدير الأول يكون تعديه وجد مالا وغنى وأوجده الله إياه وعلى الثاني يكون تعديه وجد وجدا إذا استغنى ومصدر هذا الوجد بالضم والفتح والكسر قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فغير ممتنع أن يطلق على من يفعل بالقدرة المحدثة أنه أوجد مقدوره كما يطلق عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه لا على سبيل الاستقلال وكذلك لفظ المؤثر لم يرد إطلاقه في أسماء الرب وقد وقع إطلاق الأثر والتأثير! على فعل العبد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو شر فسمى ذلك آثارا لحصوله بتأثيرهم" ومن العجب أن المتكلمين يمتنعون من إطلاق التأثير والمؤثر على من أطلق عليه في القرآن والسنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: "دياركم تكتب آثاركم" أي الزموا دياركم ويخصونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة وإن استعمل في حقه الإيثار والاستئثار كما قال أخو يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فاله عنه" وقال الناظم: استأثر الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا ولما كان التأثير تفعيلا من أثرت في كذا تأثير فأنا مؤثر لم يمتنع إطلاقه على العبد قال في الصحاح التأثير إبقاء الأثر في الشيء وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الرب سبحانه ولا يمكن ورودها فإن الصانع من صنع شيئا عدلا كان أو ظلما سفها أو حكمة جائزا أو غير جائز وما انقسم مسماه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في الأسماء الحسنى كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم لانقسام معاني هذه الأسماء إلى محمود ومذموم بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم العبد صانعا قال البخاري حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" وقد أطلق سبحانه على فعله اسم الصنع فقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وهو منصوب على المصدر لأن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يدل على الصنعة وقيل هو نصب على المفعولية أي انظروا صنع الله فعلى الأول يكون صنع الله مصدرا بمعنى الفعل وعلى الثاني يكون بمعنى المصنوع المفعول فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلا كقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} وهو كثير ولم يرد لفظ المنشئ وأما العبد فيطلق عليه الإنشاء باعتبار آخر وهو شروعه في الفعل وابتداؤه له يقول أنشأ يحدثنا وأنشأ السير فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء أنشأه الله أي ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء وفلان ينشئ الأحاديث أي يبتدئ وضعها والناشئ أول ما ينشأ من السحاب قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته" قلت هذا قد قاله غير واحد من السلف إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة كلما انقضت ساعة نشأت بعدها أخرى وقال أبو عبيدة: "ناشئة الليل ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة" قال الزجاج: "ناشئة الليل كلما نشأ منه أي حدث منه فهو ناشئة" قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته" مأخوذة من نشأت تنشأ نشأ أي ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء وأنشأها الله فنشأت والمعنى أن ساعات الليل الناشئة وقول صاحب الصحاح منقول عن كثير من السلف قال علي بن الحسين: "ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء" وهذا قول أنس وثابت وسعيد بن جبير والضحاك والحكم واختيار الكسائي قالوا: "ناشئة الليل أوله" وهؤلاء راعوا معنى الأولية في الناشة وفيها قول ثالث أن الليل كله ناشئة وهذا قول عكرمة وأبي مجلز ومجاهد والسدي وابن الزبير وابن عباس في رواية قال ابن أبي مليكة سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل فقالا: "الليل كله ناشئة" فهذه أقوال من جعل ناشئة الليل زمانا وأما من جعلها فعلا ينشأ بالليل فالناشئة عندهم اسم لما يفعل بالليل من القيام وهذا قول ابن مسعود ومعاوية بن قرة وجماعة قالوا: "ناشئة الليل قيام الليل" وقال آخرون منهم عائشة إنما يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم قالت عائشة: "ناشئة الليل القيام بعد النوم" وهذا قول ابن الأعرابي قال: "إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة" ومنه ناشئة الليل فعلى قول الأولين ناشئة الليل بمعنى من إضافة نوع إلى جنسه أي ناشئة منه وعلى قول هؤلاء إضافة بمعنى في أي طاعة ناشئة فيه والمقصود أن الإنشاء ابتداء سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية أو لم يتقدمه كالنشأة الأولى وأما الجعل فقد أطلق على الله سبحانه بمعنيين أحدهما: الإيجاد والخلق والثاني: التصيير فالأول يتعدى إلى مفعول كقوله وجعلنا الظلمات والنور والثاني: أكثر ما يتعدى إلى مفعولين كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وأطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصة كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} وغالب ما يستعمل في حق العبد في جعل التسمية والاعتقاد حيث لا يكون له صنع في المجعول كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} وهذا يتعدى إلى واحد وهو جعل اعتقاد وتسمية وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد كثير: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأطلقه على نفسه فعلا واسما فالأول كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} والثاني كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه أحدهما قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} والثاني قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فتأمل قوله كنا فاعلين في هذين الموضعين المتضمن للصنع العجيب الخارج عن العادة كيف تجده كالدليل على ما أخبر به وأنه لا يستعصي على الفاعل حقيقة أي شأننا الفعل كما لا يخفى الجهر والإسرار بالقول على من شأنه العلم والخبرة ولا تصعب المغفرة على من شأنه أن يغفر الذنوب ولا الرزق على من شأنه أن يرزق العباد وقد وقع الزجاج على هذا المعنى بعينه فقال: "وكنا فاعلين قادرين على فعل ما نشاء".
● [ الباب الثامن عشر ] ●
● الباب الثامن عشر : في فعل وافعل في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل والانفعال ينبغي الاعتناء بكشف هذا الباب وتحقيق معناه فبذلك ينحل عن العبد أنواع من ضلالات القدرية والجبرية حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان، اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام وقعد وأكل وشرب وصلى وصام عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله وكل من الطائفتين نظر بعين عوراء وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه ولم يبطلوا أحد الأمرين بالآخر فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم الشرع والقدر في نصابه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به فأثبتوا نطق العبد حقيقة وإنطاق الله له حقيقة قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فعلم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به وأن هذا حقيقة لا مجاز ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازا لم يكن ناطقا عنده حقيقه فلا يكون التشبيه بنطقه محققا لما أخبر به فتأمله ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فهو المضحك المبكي حقيقة والعبد الضاحك الباكي حقيقة كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} فلولا المنطق الذي أنطق والمضحك المبكي الذي أضحك وأبكى لم يوجد ناطق ولا ضاحك ولا باك فإذا أحب عبدا أنطقه بما يحب وأثابه عليه وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه فعاقبه عليه وهو الذي أنطق هذا وهذا وأجرى ما يحب على لسان هذا وما يكره على لسان هذا كما أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه وعلى قلب هذا ما أبكاه وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} فالتسيير فعله حقيقة والسير فعل العبد حقيقة فالتسيير فعل محض والسير فعل وانفعال ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} فهو سبحانه المزوج ورسوله المتزوج وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} فهو المزوج وهم المتزوجون وقد جمع سبحانه بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فالإزاغة فعله والزيغ فعلهم فإن قيل أنتم قررتم أنه لم يقع منهم الفعل إلا بعد فعله وأنه لولا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا ولا ضحكوا ولا بكوا وقد دلت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم وأنه أزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه عليها بالزيغ لا جعلها زائغة وكذلك قوله أنطقنا الله المراد جعل لنا آلة النطق وأضحك وأبكى جعل لهم آلة الضحك والبكاء قيل أما الإزاغة المترتبة على زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولا عقوبة لهم على زيغهم والرب تعالى يعاقب على السيئة بمثلها كما يثيب على الحسنة بمثلها فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول فهم زاغوا أولا فجازاهم الله بإزاغة فوق زيغهم، فإن قيل فالزيغ الأول من فعلهم وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه الجزاء وإلا تسلسل الأمر، قيل بل الزيغ الأول وقع جزاء لهم وعقوبة على تركهم الإيمان والتصديق لما جاءهم من الهدى وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي فاعلا فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم، فإن قيل فهذا الترك العدمي له سبب أو لا سبب له، قيل سببه عدم سبب ضده فبقي على العدم الأصلي ويشبه هذا قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم فنسوا مصالحها أن يفعلوها وعيوبها أن يصلحوها وحظوظها أن يتناولوها ومن أعظم مصالحها وأنفع حظوظها ذكرها لربها وفاطرها وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح إلا بذكره وحبه وطاعته والإقبال عليه والإعراض عما سواه فأنساهم ذلك لما نسوه وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه فذكرهم مصالح نفوسهم ففعلوها وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها وعرفهم حظوظها العالية فبادروا إليها فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان ومحبته وذكره وشكره فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصا وهذا يبين لك كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها وإذا كان قضاؤه عليها بالكفر والذنوب عدلا منه عليها فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل فهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه وله فيها قضاآن قضاء السبب وقضاء المسبب وكلاهما عدل فيه فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه عاقبه بنسيان نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بد بل هي مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل محض من الرب تعالى فعدل في العبد أولا وآخرا فهو محسن في عدله محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه طوعا وكرها قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وستزيد هذا الموضع بسطا وبيانا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلا منفعلا والفرق في هذا الباب بين فعل وافعل وأن الله سبحانه أفعل والعبد فعل فهو الذي أقام العبد وأضله وأماته والعبد هو الذي قام وضل ومات وأما قولكم أن معنى أنطقه وأضحكه وأبكاه جعل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه فلو أن رجلا صمت يوما كاملا فحلف حالف أن الله أنطقه لكان كاذبا حانثا ولو دعوت كافرين إلى الإسلام فنطق أحدهما بكلمة الشهادة وسكت الآخر لم يقل أحد قط إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم وكلاهما قد أعطى آلة النطق ومتعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب الفعل لا الأفعال، فإن قيل هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته فتقولون أن الله أفعله وهو الذي فعل أو تخصون ذلك ببعض الأفعال فيظهر تناقضكم، قيل ههنا أمران أمر لغوي وأمر معنوي فأما اللغوي فإن ذلك لا يطرد في لغة العرب لا يقولون أزنى الله الرجل وأسرقه وأشربه وأقتله إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل وإن كان في لغتها أقامه وأقعده وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله وقد يأتي هذا مضاعفا كفهمه وعلمه وسيره وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فالتفهيم منه سبحانه والفهم من نبيه سليمان وكذلك قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} فالتعليم منه سبحانه وكذلك التسيير والسير والتعلم من العبد فهذا المعنى ثابت في جميع الأفعال فهو سبحانه هو الذي جعل العبد فاعلا كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فهو سبحانه الذي جعل أئمة الهدى يهدون بأمره وجعل أئمة الضلال والبدع يدعون إلى النار فامتناع إطلاق أكلمه فتكلم لا يمنع من إطلاق أنطقه فنطق وكذلك امتناع إطلاق أهداه بأمره وادعاه إلى النار لا يمنع من إطلاق جعله يهدي بأمره ويدعو إلى النار، فإن قيل ومع ذلك كله هل تقولون أن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان وهو الذي جمع بينهما على الفعل وساق أحدهما إلى صاحبه، قيل أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها فيرد عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد به الجعل الذي يحبه ويرضاه والجعل الذي قدره وقضاه قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} فهذا نفي لجعله الشرعي الديني أي ما شرع ذلك ولا أمر به ولا أحبه ورضيه وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فهذا جعل كوني قدري أي قدرنا ذلك وقضيناه وجعل العبد إماما يدعو إلى النار أبلغ من جعله يزني ويسرق ويقتل وجعله كذلك أيضا لفظ مجمل يراد به أنه جبره وأكرهه عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس يأبى ذلك وصفات كماله تمنع منه كما تقدم ويراد به أنه مكنه من ذلك وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه ولا أكرهه ولا أجبره فهذا حق ،فإن قيل هذا كله عدول عن المقصود فمن أحدث معصية وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود، قيل الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأقدار الله له على ذلك وتمكينه منه من غير إلجاء له ولا اضطرار منه إلى فعلها، فإن قيل فمن الذي خلقها إذا، قيل لكم ومن الذي فعلها فإن قلتم الرب سبحانه هو الفاعل للفسوق والعصيان أكذبكم العقل والفطرة وكتب الله المنزلة وإجماع رسله وإثبات حمده وصفات كماله فإن فعله سبحانه كله خير وتعالى أن يفعل شرا بوجه من الوجوه فالشر ليس إليه والخير هو الذي إليه ولا يفعل إلا خيرا ولا يريد إلا خيرا ولو شاء لفعل غير ذلك ولكنه تعالى تنزه عن فعل مالا ينبغي وإرادته ومشيئته كما هو منزه عن الوصف به والتسمية به، وإن قلتم العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة، قيل فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا الاعتبار ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح معه وأراحه وكذلك القدري معه ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل كما قال: سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب فإن قيل فهل يمكنه الامتناع منها وقد خلقت فيه نفسها أو أسبابها الموجبة لها وخلق السبب الموجب خلق لمسببه وموجبه قيل هذا السؤال يورد على وجهين أحدهما أن يراد به أنه يصير مضطرا إليها ملجأ إلى فعلها بخلقها أو خلق أسبابها بحيث لا يبقى له اختيار في نفسه ولا إرادة وتبقى حركته قسرية لا إرادية الثاني أنه هل لاختياره وإرادته وقدرته تأثير فيها أو التأثير لقدرة الرب ومشيئته فقط وذلك هو السبب الموجب للفعل فإن أوردتموه على الوجه الأول فجوابه أنه يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل ولا يصير مضطرا ملجأ بخلقها فيه ولا بخلق أسبابها ودواعيها فإنها إنما خلقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها ولو لم يمكنه الترك لزم اجتماع النقيضين وأن يكون مريدا غير مريد فاعلا غير فاعل ملجأ غير ملجأ وأن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه أن لإرادته واختياره وقدرته أثرا فيها وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد فقولكم أنه لا يمكنه الترك مع الاعتراف بكونه متمكنا من الفعل جمع بين النقيضين فإنه إذا تمكن من الفعل كان الفعل اختياريا إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فكيف يصح أن يقال لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكن هذا خلف من القول وحقيقة الأمر أنه يمكنه الترك لو أراده لكنه لا يريده فصار لازما بالإرادة الجازمة، فإن قيل فهذا يكفي في كونه مجبورا عليه، قيل هذا من أدل شيء على بطلان الجبر فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي الجبر لكان الرب تعالى وتقدس مجبورا على أفعاله لوجوبها بإرادته ومشيئته وذلك محال، فإن قيل الفرق أن إرادة الرب تعالى من نفسه لم يجعله غيره مريدا والعبد إرادته من ربه إذ هي مخلوقة له فإنه هو الذي جعله مريدا، قيل هذا موضع اضطرب فيه الناس فسلكت فيه القدرية واديا وسلكت الجبرية واديا فقالت القدرية العبد هو الذي يحدث إرادته وليست مخلوقة لله والله مكنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك وقالت الجبرية بل الله هو الذي يحدث إرادات العبد شيئا بعد شيء فإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه مما لا صنع له فيه البتة فلو أراد أن لا يريد لما أمكنه ذلك وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه فهو مضطر إلى الإرادة وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الرب لها بخصوصها فهي مرادة له سبحانه كما هي معلومة مقدورة فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة ومن جهة تفيهم أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل، فإن قيل فأي واد تسلكونه غير هذين الواديين وأي طريق تمرون فيها سوى هذين الطريقين، قيل نعم ههنا طريقة ثالثة لم يسلكها الفريقان ولم يهتد إليها الطائفتان ولو حكمت كل طائفة ما معها من الحق والتزمت لوازمه وطردته لساقها إلى هذه الطريق ولأوقعها على المحجة المستقيمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق من جميع الوجوه وخلق على نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه فهو الذي خلقه وكونه كذلك وهو لم يجعل نفسه كذلك بل خالقه وباريه جعله محدثا لإرادته وأفعاله وبذلك أمره ونهاه وأقام عليه حجته وعرضه للثواب والعقاب فأمره بما هو متمكن من إحداثه ونهاه عما هو متمكن من تركه ورتب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكنه منها وأقدره عليها وناطها به وفطر خلقه على مدحه وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم المقر بالشرائع منهم والجاحد لها فكان مريدا شائيا بمشيئة الله له ولولا مشيئة الله أن يكون شائيا لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيا فالرب سبحانه أعطاه مشيئة وقدره وإرادة وعرفه ما ينفعه وما يضره وأمره أن يجري مشيئته وإرادته وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه فإجراؤها في طريق هلاكه بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها وأوقفه على طريق نجاة وهلكة وقال أجرها في هذه الطريق فعدل بها إلى الطريق الأخرى وأجراها فيها فغلبته بقوة رأسها وشدة سيرها وعز عليه ردها عن جهة جريها وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها مع اختيارها وإرادتها فلو قلت كان ردها عن طريقها ممكنا له مقدورا أصبت وإن قلت لم يبق في هذه الحال بيده من أمرها شيء ولا هو متمكن أصبت بل قد حال بينه وبين ردها من يحول بين المرء وقلبه ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له سورة بارعة الجمال فدعاه حسنها إلى محبتها فنهاه عقله وذكره ما في ذلك من التلف والعطب وأراه مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه فعاد يعاود النظر مرة مرة ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة ويحرض على أسباب المحبة ويدني الوقود من النار حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ورمت بشررها وقد أحاطت به طلب الخلاص قال له القلب هيهات لات حين مناص وأنشده: تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق فكان الترك أولا مقدورا له لما لم يوجد السبب التام والإرادة الحازمة الموجبة للفعل فلما تمكن الداعي واستحكمت الإرادة قال المحب لعاذله: يا عاذلي والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر فكان أول الأمر إرادة واختيار ومحبة ووسطه اضطرارا وآخره عقوبة وبلاء ومثل هذا برجل ركب فرسا لا يملكه راكبه ولا يتمكن من رده وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك فكان الأمر إليه قبل ركوبها فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده فلما وصلت به إلى الغاية حصل على الهلاك ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جني عليه في حال سكره لم يكن معذورا لتعاطيه السبب اختيارا فلم يكن معذورا بما ترتب عليه اضطرارا وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة ولهذا قالوا إذا زال عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته والذين لو يوقعوا الطلاق قولهم أفقه كما أفتى به عثمان بن عفان ولم يعلم له في الصحابة مخالف ورجع عليه الإمام أحمد واستقر عليه قوله فإن الطلاق ما كان عن وطر والسكران لا وطر له في الطلاق وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم عدم الطلاق في حال الغلق والسكر من الغلق كما أن الإكراه والجنون من الغلق بل قد نص الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داود على أن الغضب إغلاق وفسر به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع وهذا هو الصحيح الذي يفتى به إذا كان الغضب شديدا قد أغلق عليه قصده فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره بل قد يكونان أحسن حالا منه فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال والأفعال وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذا الحال ولو أجابه لقضى إليه أجله وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود راحلته في الأرض المهلكة بعدما يأس منها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم يجعله بذلك كافرا لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح فكمال رحمته وإحسانه وجوده يقتضي أن لا يؤاخذ من اشتد غضبه بدعائه على نفسه وأهله وولده ولا بطلاقه لزوجته وأما إذا زال عقله بالغضب فلم يعقل ما يقول فإن الأمة متفقة على أنه لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا يكفر بما يجري على لسانه من كلمة الكفر
● [ الباب التاسع عشر ] ●
● الباب التاسع عشر : في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد ولا يستقيم التوحيد إلا به لأنا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلا للحوادث مع الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهذا شرك ظاهر لا يخلص منه إلا القول بالجبر قال السني: بل القول بالجبر مناف للتوحيد ومع منافاته للتوحيد فهو مناف للشرائع ودعوة الرسل والثواب والعقاب فلو صح الجبر لبطلت الشرائع وبطل الأمر والنهي ويلزم من بطلان ذلك بطلان الثواب والعقاب قال الجبري: ليس من العجب دعواك منافاة الجبر للأمر والنهي والثواب والعقاب فإن هذا لم يزل يقال وإنما العجب دعواك منافاته للتوحيد وهو من أقوى أدلة التوحيد فكيف يكون المصور للشيء المقوي له منافيا له قال السني: منافاته للتوحيد من أظهر الأمور ولعلها أطهر من منافاته الأمر والنهي وبيان ذلك أن أصل عقد التوحيد وإثباته هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والجبر ينافي الكلمتين فإن الإله هو المستحق لصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال وهو الذي تألهه القلوب وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء فالتوحيد الذي جاءت به الرسل هو إفراد الرب بالتأله الذي هو كمال الذل والخضوع والانقياد له مع كمال المحبة والإثابة وبذل الجهد في طاعته ومرضاته وإيثار محابه ومراده الديني على محبة العبد ومراده فهذا أصل دعوة الرسل وإليه دعوا الأمم وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين وهو الذي أمر به رسله وأنزل به كتبه ودعا إليه عباده ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله وكان من قولك أيها الجبري أن العبد لا قدرة له على هذا البتة ولا أثر له فيه ولا هو فعله وأمره بهذا أمر له بما لا يطيق بل أمر له بإيجاد فعل الرب وأن الرب سبحانه أمره بذلك وأجبره على ضده وحال بينه وبين ما أمره به ومنعه منه وصده عنه ولم يجعل له إليه سبيلا بوجه من الوجوه مع قولك أنه لا يحب ولا يحب فلا تتألهه القلوب بالمحبة والود والشوق والطلب وإرادة وجهه والتوحيد معنى ينتظم من إثبات الإلهية واثبات العبودية فرفعت معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبا مودودا تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه ورفعت حقيقة العبودية بإنكار كون العبد فاعلا وعابدا ومحبا فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك فضاع التوحيد بين الجبر وإنكار محبته وإرادة وجهه لا سيما والوصف الذي وصفته به منفر للقلوب عنه حائل بينها وبين محبته فإنك وصفته بأنه يأمر عبده بما لا قدرة له على فعله وينهاه عما لا يقدر على تركه بل يأمره بفعله هو سبحانه وينهاه عن فعله هو سبحانه ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله البتة بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه وصرحت بأن عقوبته على ترك ما أمره وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته على ترك طيرانه إلى السماء وترك تحويله للجبال عن أماكنها ونقله مياه البحار عن مواضعها وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع له فيه من لونه وطوله وقصره وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين وأن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم ننزهه عنه وقلت أن تكليفه عباده بما كلفهم بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة والزمن للطيران فبغضت الرب إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ونفرته عنه وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده وقد قلعت شجرة التوحيد من أصلها وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء به فإن مبنى الشرائع على الأمر والنهي وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور ونهيه عن فعله لا فعل المنهي عبث ظاهر فإن متعلق الأمر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أو معصية وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاما جارية بمحض المشيئة والقدرة لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم بل ههنا أمر آخر وهو أن الجبر مناف للخلق كما هو مناف للأمر فإن الله سبحانه له الخلق والأمر وما قامت السماوات إلا بعدله فالخلق قام بعدله وبعدله ظهر كما أن الأمر بعدله وبعدله وجد فالعدل سبب وجود الخلق والأمر وغايته فهو علية الفاعلية الغائية والجبر لا يجامع العدل ولا يجامع الشرع والتوحيد قال الجبري: لقد نطقت أيها السني بعظيم وفهمت بكبير وناقضت بين متوافقين وخالفت بين متلازمين فإن أدلة العقول والشرع المنقول قائمة على الجبر وما دل عليه العقل والنقل كيف ينافي موجب العقل والشرع فاسمع الآن الدليل الباهر والبرهان القاهر على الجبر ثم نتبعه بأمثال فنقول صدور الفعل عند حصول القدرة والداعي إما أن يكون واجبا أولا يكون واجبا فإن كان واجبا كان فعل العبد اضطراريا وذلك عين الجبر لأن حصول القدرة والداعي ليس بالعبد والإلزام التسلسل وهو ظاهر وإذا كان كذلك فعند حصولهما يكون واجبا وعند عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعا فكان الجبر لازما لا محالة وأما إن لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعي واجبا فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجح أولا يتوقف فإن توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجح واجبا وإلا عاد الكلام ولزم التسلسل وإذا كان واجبا كان اضطراريا وهو عين الجبر وإن لم يتوقف على مرجح كان جائز الوقوع وجائز العدم فوقوعه بغير مرجح يستلزم حصول الأثر بلا مؤثر وذلك محال، فإن قلت المرجح هو إرادة العبد، قلت لك إرادة العبد حادثة والكلام في حدوثها كالكلام في حدوث المراد بها ويلزم التسلسل قال السني: هذا أحد سهم في كنانتك وهو بحمد الله سهم لا ريش له ولا نصل مع عوجه وعدم استقامته وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة المستعملة على حق وباطل وأبين فسادها فما تعني بقولك إن كان الفعل عند القدرة والداعي واجبا كان فعل العبد اضطراريا وهو عين الجبر أتعني به أن يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش وحركة من نفضته الحمى وحركة من رمي به من مكان عال فهو يتحرك في نزوله اضطرارا منه أم تعني به أن الفعل عند اجتماع القدرة والداعي يكون لازم الوقوع بالقدرة فإن أردت بكونه اضطراريا المعنى الأول كذبتك العقول والفطر والحس والعيان فإن الله فطر عباده على التفريق بين حركة من رمي به من شاهق فهو يتحرك إلى أسفل وبين حركة من يرقى في الجبل إلى علوه وبين حركة المرتعش وبين حركة المصفق وبين حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطا وجر على الأرض فمن سوى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة والشرعة من عنقه وإن أردت المعنى الثاني وهو كون العقل لازم الوجود عند القدرة والداعي كان لازم الوجود وهذا لا فائدة فيه وكونه لازما وواجبا بهذا المعنى لا ينافي كونه مختارا مرادا له مقدورا له غير مكره عليه ولا مجبور فهذا الوجوب واللزوم لا ينافي الاختيار ثم نقول لو صحت هذه الحجة لزم أن يكون الرب سبحانه مضطرا على أفعاله مجبورا عليها بمعنى ما ذكرت من مقدماتها وأنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته وما ذكرت من وجوب الفعل عند القدرة والداعي وامتناعه عند عدمهما ثابت في حقه سبحانه وقد اعترف أصحابك بهذا الإلزام وأجابوا عنه بما لا يجدي شيئا قال ابن الخطيب عقيب ذكر هذه الشبهة: "فإن قلت هذا ينفي كونه فاعلا مختارا قلت الفرق أن إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله دفعا للتسلسل وإرادة الباري قديمة فلم يفتقر إلى إرادة أخرى" ورد هذا الفرق صاحب التحصيل فقال: "ولقائل أن يقول هذا لا يدفع التقسيم المذكور" قلت فإن التقسيم متردد بين لزوم الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه وهذا التقسيم ثابت في حق الغائب والشاهد وكون إرادة الرب سبحانه قديمة من لوازم ذاته لا فاعل لها لا يمنع هذا الترديد والتقسيم فإن عند تعلقها بالمراد يلزم وقوعه وعند عدم تعلقها به يمتنع وقوعه وهذا اللزوم والامتناع لا يخرجه سبحانه عن كونه فاعلا مختارا ثم نقول هذا المعنى لا يسمى جبرا ولا اضطرارا فإن حقيقة الجبر ما حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل وحمله على إيقاعه بغير رضاه واختياره والرب سبحانه هو الخالق للإرادة والمحبة والرضا في قلب العبد فلا يسمى ذلك جبرا لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ومن العجب احتجاجك بالقدرة والداعي على أن الفعل الواقع بهما اضطراري من العبد والفعل عندكم لم يقع بهما ولا هو فعل العبد بوجه وإنما هو عين فعل الله وذلك لا يتوقف على قدرة من العبد ولا داع منه ولا هناك ترجيح له عند وجودهما ولا عدم ترجيح عند عدمهما بل نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما فالفعل عندك غير فعل الله فلا ترجيح هناك من العبد ولا مرجح ولا تأثير ولا أثر قال السني: وقد أجابك إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى فقال أبو هاشم وأصحابه لا يتوقف فعل القادر على الداعي بل يكفي في فعله مجرد قدرته قالوا فقولك عند حصول الداعي إما أن يجب الفعل أو لا يجب عندنا لا يجب الفعل بالداعي ولا يتوقف عليه ولا يمكنك أيها الجبري الرد على هؤلاء فإن الداعي عندك لا تأثير له في الفعل البتة ولا هو متوقف عليه ولا على القدرة فإن القدرة الحادثة عندك لا تؤثر في مقدورها فكيف يؤثر الداعي في الفعل فهذه الحجة لا تتوجه على أصولك البتة وغايتها إلزام خصومك بها على أصولهم وقال أبو الحسين البصري وأصحابه: "يتوقف الفعل على الداعي" ثم قال أبو الحسين: "إذا تجرد الداعي وجب وقوع الفعل ولا يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريا" وقال محمود الخوارزمي صاحبه: "لا ينتهي بهذا الداعي إلى حد الوجوب بل يكون وجوده أولى" قالوا فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعا أما على رأي أبي هاشم فنقول صدور إحدى الحركتين عنه دون الأخرى لا يحتاج إلى مرجح بل من شأن القادر أن يوقع الفعل من غير مرجح لجانب وجوده على عدمه قالوا ولا استبعاد في العقل في وجود مخلوق متمكن من الفعل بدلا عن الترك وبالضد من غير مرجح كما أن النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة فإن قلتم بل هناك داع وإرادة لا يذكرها النائم والناسي كان ذلك مكابرة قلت وأصحاب هذا القول يقولون أن القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل وأصحاب القول الأول يقولون بل يفعل مع وجوب أن يفعل ومحمود الخوارزمي توسط بين المذهبين وقال: "بل يفعل مع أولوية أن يفعل" ولا ينتهي الترجيح إلى حد الوجوب فالأقوال خمسة أحدها أن الفعل موقوف على الداعي فإذا انضمت القدرة إليه وجب الفعل بمجموع الأمرين وهذا قول جمهور العقلاء ولم يصنع ابن الخطيب شيئا في نسبته له إلى الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة الثاني أن الفعل يجب بقدرة الله وقدرة العبد وهذا قول من يقول أن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله على عين مقدور العبد وهذا قول أبي إسحق واختيار الجويني في النظامية الثالث قول من يقول يجب بقدرة الله فقط وهذا قول الأشعري والقاضي أبي بكر ثم إختلفا فقال القاضي: "كونه فعلا واقع بقدرة الله وكونه صلاة أو حجا أو زنا أو سرقة واقع بقدرة العبد فتأثير قدرة الله في ذات الفعل وتأثير قدرة العبد في صفة الفعل" وقال الأشعري: "أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا" الرابع قول من يقول لا يجب الفعل من القادر البتة بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل فلا ينتهي فعل القادر المختار إلى الوجوب أصلا وهذا قول أبي هاشم وأصحابه الخامس أن يكون عند الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى حد الوجوب وهذا قول الخوارزمي وقد سلم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي وسلم أن الداعي مخلوق لله وقال أن العبد مستقل بإيجاد فعله قال: "والعلم بذلك ضروري" قال ابن الخطيب: "وهذا غلو منه في القدر" وقوله أنه يتوقف على الداعي والداعي خلق لله غلو في الجبر فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما ولم ينصفه فليس ما ذهب إليه غلو في قدر ولا جبر فإن توقف الفعل على الداعي ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس جبرا فضلا أن يكون غلوا فيه وكون العبد محدثا لفعله ضرورة بما خلقه الله فيه من القدرة والاختيار ليس قولا بمذهب القدرية فضلا عن كونه غلوا فيه.
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة