من طرف اسرة التحرير الخميس فبراير 24, 2022 3:27 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ تابع الباب الثاني والعشرون ] ●
وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى ولكل حاسة من الحواس ولكل عضو من الأعضاء كمالا حسيا وكمالا معنويا وفقد كماله المعنوي شر من فقد كماله الحسي فكماله المعنوي بمنزلة الروح والحسي بمنزلة الجسم فأعطاه كماله الحسي خلقا وقدرا وأعطاه كماله المعنوي شرعا وأمرا فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه فلم يدع للإحسان إليه والاعتناء بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها إفراحا يفرحه ولا شفاء يطلبه بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه إفراحه ولا تدرك معرفته ويكفي العاقل البصير الحي القلب فكرة في فرع واحد من فروع الأمر والنهي وهو الصلاة وما اشتملت عليه من الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية والحكم الربانية والعلوم النافعة والتوحيد التام والثناء على الله بأصول أسمائه وصفاته وذكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم وما في مقدماتها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان وأخذ الزينة واستقبال بيته الذي جعله إماما للناس وتفريغ القلب وإخلاص النية وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول الثناء وفروعه مخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه والإقبال على غيره فيقدم بقلبه الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء وأعظم من كل شيء بلا سبب في كبريائه السماوات وما أظلت والأرض وما أقلت والعوالم كلها عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة قاهر عباده ناظر إليهم عالم بما تكن صدورهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم لا يخفى عليه خافية من أمرهم ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكر تبارك اسمه وتعالى جده وتفرده بالإلهية ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثنى عليه به من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليهم ورحمته بهم وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه ملك سواه حتى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ويدينهم بأعمالهم ثم إفراده بنوعي التوحيد توحيد ربوبيته استعانة به وتوحيد إلهيته عبودية له ثم سؤاله أفضل مسئول وأجل مطلوب على الإطلاق وهو هداية الصراط المستقيم الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم وجعله صراطا موصلا لمن سلكه إليه وإلى جنته وأنه صراط من اختصهم بنعمته بأن عرفهم الحق وجعلهم متبعين له دون صراط أمة الغضب الذي عرفوا الحق ولم يتبعوه وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتّباعه فتضمنت تعريف الرب والطريق الموصل إليه والغاية بعد الوصول وتضمنت الثناء والدعاء وأشرف الغايات وهي العبودية وأقرب الوسائل إليها وهي الاستعانة مقدما فيها على الوسيلة والمعبود المستعان على الفعل إيذانا لاختصاصه وإن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه وتضمنت ذكر الإلهية والربوبية والرحمة فيثنى عليه ويعبد بإلهيته ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويدبر الملك ويضل من يستحق الإضلال ويغضب على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر ويهدي ويتوب برحمته فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب وشفاء الصدور ونور البصائر وحياة الأرواح وهو كلام رب العالمين فيحل به في ما شاء من روضات مونقات وحدائق معجبات زاهية أزهارها مونقة ثمارها قد ذللت قطوفها تذليلا وسهلت لمتناولها تسهيلا فهو يجتني من تلك الثمار خيرا يؤمر به وشرا ينهى عنه وحكمة وموعظة وتبصرة وتذكرة وعبرة وتقريرا لحق ودحضا لباطل وإزالة لشبهة وجوابا عن مسألة وإيضاحا لمشكل وترغيبا في أسباب فلاح وسعادة وتحذيرا من أسباب خسران وشقاوة ودعوة إلى هدى ورد عن ردي فتنزل على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه ويحل منها محل الأرواح من أبدانها فأي نعيم وقرة عين ولذة قلب وابتهاج وسرور لا يحصل له في هذه المناجاة والرب تعالى يسمع لكلامه جاريا على لسان عبده ويقول حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي ثم يعود إلى تكبير ربه عز وجل فيجد ربه عهد التذكرة كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته وما ينبغي أن يعامل به ثم يرجع جاثيا له ظهره خضوعا لعظمته وتذللا لعزته واستكانة لجبروته مسبحا له بذكر اسمه العظيم فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره وربه فوقه يرى خضوعه وذله ويسمع كلامه فهو ركن تعظيم وإجلال كما قال صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ثم عاد إلى حاله من القيام حامدا لربه مثنيا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمها مثنيا عليه بأنه أهل الثناء والمجد ومعترفا بعبوديته شاهدا بتوحيده وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظمت ثم يعود إلى تكبيره ويخر له ساجدا على أشرف ما فيه وهو الوجه فيعفره في التراب ذلا بين يديه ومسكنه وانكسارا وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفيه وأن لا يكون بعضه محمولا على بعض وأن يتأسر التراب بجبهته وينال قبل وجهة المصلى ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلا للخضوع والتذليل لمن له العز كله والعظمة كلها وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده فلو دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله وهو وينزهه عن مثل هذه الحال وأن من هو فوق كل شيء وعال على كل شيء ينزه عن السفول بكل معنى بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب وقد قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد وجعل بين خضوع خضوع قبله وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في مراتب العبودية كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به فتذكر عظمة الرب في حال خضوعه وعلوه في حال سفوله ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها مطابق افتتاح الركعة بالقرآن واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي فإنها بدئت بالقراءة وختمت بالسجود وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة ليستعد بالأول لتكميل ما بعده ويجبر بما بعده ما قبله وليشبع القلب من هذا الغذاء وليأخذ رواه ونصيبه وافرا من الدواء ليقاومه فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرا جدا وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء إذا أخذ منه المريض قيراطا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية وأزال بحسبه فما حصل الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده ويثني عليه بأفضل التحيات ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل ومن نالته الأمة على يديه ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية ثم يتشهد شهادة الحق ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلا عليه فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة هذا إلى ما تضمنته الأحوال والمعارف من أول المقامات إلى آخرها فلا تجد منزلة من منازل السير إلى الله ولا مقاما من مقامات العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة وهذا الذي ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر فكيف يقال أنها تكليف محض لم يشرع لحكمة ولا لغاية قصدها الشارع بل هي محض وكلفة ومشقة مستندة إلى محض المشيئة لا لغرض ولا لفائدة البتة بل مجرد قهر وتكليف وليست سببا لشيء من مصالح الدنيا والآخرة ثم تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها كيف تجدها مشحونة بالحكم المقصودة والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن وتفريح للقب وتنشيط للجوارح وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من درن المخالفات فهي منظفة للقلب والروح والبدن وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور وتأمل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها منها يدخل إليها ثم جعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة جعل مكانه المسح وجعل ذلك مخرجا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان يبطشها يداه مع الماء أو مع آخر قطر فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" رواه مسلم وفي صحيح مسلم أيضا عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى يخرج من تحت أظفاره" فهذا من أجل حكم الوضوء وفوائده وقال نفاة الحكمة أنه تكليف ومشقة وعناء محض لا مصلحة فيه ولا حكمة شرع لأجلها ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سيماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى أن تحت كل شعرة شهوة سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة" فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة فيبرد حرارة الشهوة فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله وتلاوة كلامه والوقوف بين يديه فوالله لو أن أبقراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه وعظموهم عليه غاية التعظيم وأبدوا له من الحكم والفوائد ما قدروا عليه ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهمل جوارحه قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أمر العبودية بجميع جوارحه كلها على ربه بحظها من عبوديته فيسلم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسه وقواه لربه عز وجل واقفا بين مقبلا بكله عليه معرضا عمن سواه متنصلا من إعراضه عنه وجنايته على حقه ولما كان هذا طبعه وذاته أمران يجدد هذا الركوع إليه والإقبال عليه وقتا بعد وقت لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه وينقطع عنه بالكلية وكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه وأفضل هداياه التي ساقها إليه فأبى نفاة الحكمة إلا جعلها كلفة وعناء وتعبا لا لحكمة ولا لمصلحة البتة إلا مجرد القهر والمشيئة وقد فتح ذلك الباب فساق الشريعة كلها من أولها إلى آخرها هذا المساق واستدل بما ظهر لك على ما خفي عنك ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك وما خفي عنك فهو فوق عقلك وفهمك ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدة أسفار فيكتفي منه بأدنى بينة والله المستعان، الوجه الثالث والعشرون أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية والنباتات التي هي كذلك فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحد من ذلك النوع من الحكم والمصالح هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصورة الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضا ولا هو مفيض له فحصول هذا التنوع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه فعال لما يريد اختيارا ومشيئة فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئا بعد شئ من أظهر الدلالات وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع كقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقول تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتأمل كيف نبه سبحانه باختلاف الحيوانات في المشي مع اشتراكها في المادة على الاختلاف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها وأغذيتها ومساكنها فنبه على الاشتراك والاختلاف فيشير إلى يسير منه فالطير كلها تشترك في الريش والجناح وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم تفاوت واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل وتفاوتها في ما وراء ذلك واشتراك ذوات الأظلاف في الظلف وتفاوتها في غير ذلك واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والأشكال واشتراك حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيها وتتكون فيها وتفاوتها أعظم تفاوت عجز البشر إلى الآن عن حصره واشتراك الوحوش في البعد عن الناس والتفاوت عنهم وعن مساكنهم وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها وأفعالها أعظم تفاوت يعجز البشر عن حصره واشتراك الماشي منها على بطنه في ذلك وتفاوت نوعه واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت نوعه أعظم تفاوت وكل من هذه الأنواع له علم وإدراك وتحيل على جلب مصالحه ودفع مضاره يعجز كثير منها نوع الإنسان فمن أعظم الحكم الدلالة الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته وقدرته وحكمته على ذلك كله بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته وذلك أدل شيء على قوته القاهرة وحكمته البالغة وعلمه الشامل فيعلم إحاطة قدرة واحدة وعلم واحد وحكمة واحدة أعني بالنوع من قادر واحد حكيم واحد بجميع هذه الأنواع وأضعافها مما لا تعلمه العقول البشرية كما قال: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} فيجمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات وهي إلهية الحق التي كل إلهية سواها فهي باطل ومحال فهي غاية الغايات ثم ينزل منها إلى غايات أخر هي وسائل بالنسبة إليها وغايات بالنسبة إلى ما دونها وأن إلى ربك المنتهى فليس وراءه معلوم ولا مطلوب ولا مذكور إلا العدم المحض وليس في الوجود إلا الله ومفعولاته وهي آثار أفعاله وأفعاله آثار صفاته وصفاته قائمة به من لوازم ذاته والمقصود إن الغايات المطلوبة العلم بإحاطة علم واحد من عالم واحد وفعل واحد من فاعل واحد وقدرة واحدة من قادر واحد وحكمة واحدة من حكيم واحد بجميع ما فيه على اختلاف ما فيه واجتمعت غايات فعله وأمره إلى غاية واحدة وذلك من أظهر أدلة توحيد الإلهية كما ابتدأت كلها من خالق واحد وقادر واحد ورب واحد ودل على الأمرين أعني توحيد الربوبية والإلهية النظام الواحد والحكمة الجامعة للأنواع المختلفة مع ضدها وتعذرها ودل افتقار بعضها إلى بعض وتشبك بعضها ببعض ومعاونة بعضها ببعض وارتباطه به على أنها صنع فاعل واحد ورب واحد فلو كان معه آلهة وأرباب غيره كما لا ترضى ملوك الدنيا أن يحتاج مملوك احدهم إلى مملوك غيره مثله لما في ذلك من النقص والعيب المنافي لكمال الاقتدار والغناء ودل انتظامها في الوجود ووقوعها في ثباتها واختلافها على أكمل الوجوه وأحسنها على انتهائها إلى غاية واحدة ومطلوب واحد هو إلهها الحق ومعبودها الأعلى الذي لا إله لها غيره ولا معبود لها سواه فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها واجتماعها فيما اجتمعت فيه وافتراقها فيما افترقت على إله واحد ورب واحد ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله فالموجودات بأسرها كعسكر واحد له ملك واحد وسلطان واحد يحفظ بعضه ببعض وينظم مصالح بعضه ببعض ويسد خلل بعضه ببعض فيمد هذا بهذا ويقوي هذا بهذا وينقص من هذا فيزيده في الآخر يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويبيد هذا فينشي مكانه من جنسه ما يقوم مقامه ويسد مسده فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث الأول لا غيره وأن حكمته لم تتغير وعلمه لم ينقص وقدرته لم تضعف وأنه لا يتغير بتغيير ما يغير منها ولا يضمحل باضمحلاله ولا يتلاشى بتلاشيه بل هو الحي القيوم العزيز الحكيم هذا إلى ما في لوازم مكبرها وانتظام بعضها ببعض وما يصدر عنها من الأفعال والآثار من حكم وأفعال أخرى وغايات أخر حكمها حكم موادها وحواملها كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها مثال ذلك في أحدوثة واحدة إنك ترى المعدة تشاق الغذاء وتجتذبه إليها فانظر لوازم ذلك قبل تناوله ولوازمه بعد تناوله وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة الدنيا فإذا جذبته إليها أنضجته وطبخته كما تنضج القدر ما فيها فتنضجه الإنضاج الذي تعده لتغذي أجزاء البدن وقواه وأرواحه به وهي إذا أنضجته لأجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به فيدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به ولكن قد قصده وأحكمه من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير يدبره بحكمته ولطفه وساقه في المجاري التي لا ينفذ فيها الإبر لدقة مسالكها حتى أوصله إلى المحتاج إليه الذي لا صلاح له إلا بوصوله إليه وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة وفعلها يلي فعلها وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في أعداد الغذاء والقلب للرئة والرئة للقلب في أعداد الهواء وإصلاحه فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبر واحد وحكيم واحد فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من النوع الإنساني تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم بعض وأعانت بعضهم ببعض حراثا لزارع وزراعا لحاصد وحائكا لخياط وخياطا لنجار ونجارا لبناء فهذا يعين هذا بيده وهذا برجله وهذا يعينه بعينه وهذا بإذنه وهذا بلسانه وهذا بماله وإذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه ولا يقوم بحاجاته ولا توجد في كل واحد منهم جميع خواص نوعه فهم بأشخاصهم الكثير كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض قد كمل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء فجعل ذلك في النوع الإنساني بجملته والله سبحانه وقد فرق كمالات النوع في أشخاصه وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له بحيث لو قيل أكثر من ذلك لأعطاه فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله وفضل عنه أضعاف ما فاض عليه فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدا وكذلك يفضل في الجنة فضل عن أهلها فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد العوامل والمعدات وذلك بمشيئته وحكمته فهو الذي أوجدها وهو الذي أعدها وهو الذي أمدها ولما كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بد من بقاء كثير منه مبذولا في الوجود مهملا وهذا كضوء الشمس مثلا فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به وهي تشرق على مواضع فضلت عن حوائج بني آدم والحيوان وكذلك المطر والنبات وسائر النعم ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حكم ومصالح وعبر ودلالات وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه فلا بد أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة ولا يقال ما الحكمة في خلقها فإن هذا سؤال جاهل ظالم فإن الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير والمعمور بعضها لا كلها والرب تعالى واسع الجود دائمه فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار فيعلم من استقراء العالم وأحواله انتهاؤه إلى عالم واحد وقادر واحد وحكيم واحد أتقن نظامه أحسن الإتقان وأوجده على أتم الوجود وهو سبحانه ناظم أفعال الفاعلين مع كثرتها ورابط بعضها ببعض ومعين بعضها ببعض وجاعل بعضها سببا لبعض وغاية لبعض وهذا من أدل الدليل على انه خالق واحد ورب واحد وقادر واحد دل على قدرته كثرة أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد وتعاقبها على تتالي الآنات وتعين تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها ودل على علمه وحكمته كون كل شيء كبير وصغير ودقيق وجليل داخلا في النظام الحكمي ليس منها شيء حتى مسام الشعر في الجلد ومراشح اللعاب في الفم ومجاري الشعب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات التي تعجز عنها أبصارنا ولا تنالها قدرتنا وهذا فيما دق لصغره وفيما جل لعظمه كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها فيمطرها عليها فيخرج بها نباتا ويحيي بها حيوانا ويجعل فيها جزأين من الطعام والشراب والأقوات والأدوية دع ما فوق ذلك من تسخير الشمس والقمر والنجوم واختلاف مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار وفصول العام التي بها نظام مصالح من عليها فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع عباده فالسماء سقفه والأرض بساطه والنجوم زينته والشمس سراجه ومصالح سكانه والليل سكنهم والنهار معاشهم والمطر سقياهم والنبات غذاؤهم ودواهم وفاكهتهم والحيوان خدمهم ومنه قوتهم ولباسهم والجواهر كنوزهم وذخائرهم كل شيء منها لما يصلح له فضروب النبات لجميع حاجاتهم وصنوف الحيوانات معدة لجميع مصالحهم وذلك أدل دليل على وحدانية خالقه وقدرته فلم يكن لون السماء أزرق اتفاقا بل لحكمة باهرة فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر حتى أن في وصف الأطباء لمن أصابه ما أضر ببصره أو كلم بصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار الراجعة فلا ينكأ فيها فهذا الذي أدركه الناس بعد الفكر والتجربة قد وجد مفروغا منه في الخلقة ولم يكن طلوع الشمس وغروبها على هذا النظام لغير علة ولا حكمة مطلوبة فكم من حكمة ومصلحة في ذلك من إقامة الليل والسكن فيه والنهار والمعاش فيه فلو جعل الله عليهم الليل سرمدا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم والحكمة في طلوعها أظهر من أن تنكر ولكن تأمل الحكمة في غروبها إذ لولا ذلك لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة وكان الكد الدائم بتكافؤ أبدانهم وتسرع فسادها وكان ما على الأرض يحرق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ونظامه وكذلك الحكمة في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة وما في ذلك من الحكمة فإن في الشتاء تفور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد من ذلك مواد الثمار وتكيف الهواء فتنشأ منه السحاب ويحدث المطر الذي به حياة الأرض والحيوان وتشتد أفعال الحيوان وتقوى الأفعال الطبيعية وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد الكامنة في الشتاء وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار ويتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء وغيره وفي الخريف يصفو الهواء و يعتدل فيذهب بسورة حر الصيف وسمومه إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم وكذلك الحكمة في تنقل الشمس فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لفاتت مصالح العالم ولما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات لأن الجبال والجدران يحجبانها عنها فاقتضت الحكمة الباهرة أن جعلت تطلع أول النهار من المشرق وتشرق على ما قابلها من وجه الغرب ثم لا تزال تغشى وجها بعد وجه حتى تنتهي إلى الغرب فتشرق على ما استتر عنها أول النهار فتأخذ جميع الجهات منها قسطا من النفع وكذلك الحكمة الباهرة في انتهاء مقدار الليل والنهار إلى هذا الحد فلو زاد مقدار أحدهما زيادة عظيمة لتعطلت المصالح والمنافع وفسد النظام وكذلك الحكمة في ابتداء القمر دقيقا ثم أخذه في الزيادة حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى فكم في ذلك من حكمة ومصلحة ومنفعة للخلق فإن بذلك يعرفون الشهور والسنين والآجال وأشهر الحج والتاريخ ومقادير الأعمار ومدد الإجارات وغيرها وهذا وإن كان يحصل بالشمس إلا أن معرفته بالقمر وزيادته ونقصانه أمر يشترك فيه الناس كلهم وكذلك الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات لم يجعل ظلاما محضا لا ضياء فيه فلا يمكن فيه سفر ولا عمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة وجعل نوره باردا ليقاوم حرارة نور الشمس فبرد سمومه فيعتدل الأمر ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر ويزيل ضررها وكذلك الحكمة في خلق النجوم فإن فيها من الهداية في البر والبحر والاستدلال على الأوقات وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلا بمجرد الاتفاق كما يقوله نفاة الحكمة واقتضت هذه الحكمة أن جعلت نوعين نوعا منها يظهر وقتا ويحتجب آخر ونوعا آخر لا يزال ظاهرا غير محتجب بل جعل ظاهرا بمنزلة الإعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة وهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها إلى حيث شاؤا وجعلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تعاديه متى طلع في وقت يعني دل على تلك الأمور فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد فما خلق الله شيئا سدى وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأزواج والأجرام العلوية أكمل نظام يعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه وقد استفرغت الأمم السابقة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم يصل منه إلا إلى مالا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما وقد جعل الخلاق العليم سبحانه النجوم فرقتين فرقة منها لازمة مراكزها من الفلك ولا تسير إلا بسيره وفرقة أخرى مطلقة تنتقل في البروج وتسير بأنفسها غير سير فلكها فلكل منها مسيران مختلفان أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق وقد شبه هذا النوع بنملة تدب على رحا والرحا تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان أحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى خلفها فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا يعدوه فزعم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود فإن قلت فما الغرض المقصود بذلك وأي حكمة فيه قيل استدل بما عرفت من الحكمة على ما خفي عنك منها ولا تجعل ما خفي عليك دليلا على بطلانها مع أن من بعض الحكم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقل المتنقل منها ومسيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أمور كثيرة وحوادث جمة بتنقل الشمس والقمر والسيارات في منازلها ولو كانت كلها متنقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه فإنه إنما يقاس مسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا فذلك تقدير العزيز العليم وصنع الرب الحكيم وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقدير مقدر حكيم أتقن ما صنعه وأحكم ما دبره ويعرف بما فيه من الحكم والمصالح والمنافع إلى خلقه فشدت العقول والفطر بأنه ذو الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة والعلم التام المحيط وأنه لم يخلق ذلك باطلا ولا من الحكمة عاطلا وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات فإن قيامهما وكمالهما لما كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا يتحمله بل بالتدريج قليلا قليلا إلى أن ينتهي منتهاه ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم وهذا كله بأسباب هي منشأ الحكم والمصالح فلا يبطل السبب بإثبات الحكمة ولا الحكمة بالسبب ولا السبب والحكمة بالمشيئة فيكون من الذين يبخس حظهم من العقل والسمع وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها فجعلت مخزونة في الأجسام توري عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ثم تخبوا إذ استغنى عنها فجعلت على خلقه وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها ثم في النار خلة أخرى وهي أنها مما خص به الإنسان دون سائر الحيوان فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ولما كانت الحاجة إليها شديدة جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها إذا شاء ومن إبطالها ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي تذكر بنار الآخرة فيحترز منها ويستمتع بها المقوون وهم النازلون بالفيفاء وهي الأرض الخالية وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم حيث لا يجدون ما يشترونه فيغنيهم عن ما يصنعونه بالنار وكذلك الحكمة في خلق النسيم وما فيه من المصالح والعبر فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من خارج ومن داخل وفيه طرد هذه الأصوات فيؤديها إلى السامع وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المسام وينقلها من موضع إلى موضع وهو الذي يزجي السحاب ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالروايا على ظهور الإبل وهو الذي يسير السحاب أولا فيكون كسفا متفرقة فيؤلف بينه ثانيا فيصير طبقا واحدا ثم يلقحه ثالثا كما يلقح الفحل الأنثى فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل ثم يسوقه رابعا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه ثم يعصره خامسا حتى لا يخرج ماؤه ثم يذروا ماءه بعد عصره سادسا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه ثم يربي النبات سابعا فيكون له بمنزلة الماء والغذاء يجففه بحرارته ثامنا لئلا يعفن ولا يمكن بقاؤه ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع فزعم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا سبب ولا غاية وهذا لو تتبعناه لجاء عدة أسفار بل لو تتبعنا خلقة الإنسان وحده وما فيها من الحكم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل فنقول، في الوجه الرابع والعشرين قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ومنها أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث واقتضت حكمته البالغة ان خلطهم في دار الامتحان فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه ريبا ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا فالله ومنها أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة