من طرف اسرة التحرير الأربعاء يونيو 11, 2014 1:28 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
مقامات بديع الزمان الهمذاني
من المَقَامَةُ الغَيْلانِيَّةُ إلى المَقَامَةُ الْبِصْرِيَّةُ
● [ المَقَامَةُ الغَيْلانِيَّةُ ] ●
حَدَثَنْي عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ بِجُرْجَانَ، فِي مُجْتَمَعٍ لنَا نَتَحَدَّثُ، وَمَعَنَا يَوْمَئِذٍ رَجُلُ العَرَبِ حِفْظاُ وَرِوَايةً، وَهَوَ عِصْمَةُ بْنُ بَدْرٍ الفَزَارِيُّ، فأَفْضَى بِنَا الكَلاَمُ إِلَى ذِكْرِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ خَصْمِهِ حِلْماً، وِمِنْ أَعْرَضَ عَنْ خَصْمِهِ احْتِقَاراً، حَتَّى ذَكَرْنَا الصَّلَتَانَ الْعَبْدِيَّ وَالبَيِثَ، وَمَا كَانَ مِنْ احْتِقَارِ جَريرٍ وَالفَرَزْدَقِ لَهُمَا، فَقَالَ عِصْمَةُ: سَأُحَدِثَكُم بِمَا شَاهَدَتْهُ عَيْني، وَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ غَيْري، بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي بِلادِ تَمِيمٍ مُرْتَحِلاً نَجِيَبةً، وَقائِداً جَنِيبَةً، عنَّ ليَ رَاكِبٌ عَلىَ أَوْرَقٍ جَعْدِ اللُّغَامِ، فَحَاذَانِي حَتَّى إِذا صَكَّ الشَّبَحُ بِالشَّبَحِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: وعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، مَنِ الرَّاكِبُ الجَهيرُ الكَلاَمِ المُحَيِّي بِتَحيَّة الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: أَنَا غَيْلاَنُ بْنُ عُقْبَةَ، فَقُلتُ: مَرْحَباً بِالكَرِيم حَسَبهُ الشَّهِيرِ نَسَبُهُ، السَّائِرُ مَنْطِقُهُ، فَقَالَ: رَحُبَ وَادِيكَ، وَعَزَّ نَاِديَكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عِصْمةُ بْنُ بَدرٍ الفَزَارِيُّ، قَالَ: حَياَّكَ اللهُ نِعْمَ الصَّدِيقُ، وَالصَاحبُ والرَّفِيقُ، وَسِرْنَا فَلَمَّا هَجَّرْنا قَالَ: أَلاَ نُغَوِّرُ يَاعِصْمةُ فَقَدْ صَهَرَتْنَا الْشَّمْسُ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَمِلْنَا إِلِى شَجراتٍ أَلاَءٍ كَأَنْهُنَّ عَذارَى مُتَبَرِّجاتٌ، قَد نَشَرْنَ غَدائِرَهُنَّ، ِلأثَلاثٍ تُنَاوِحُهُنَّ، فَحَطَطْنَا رِحَالَنَا، وَنِلْنَا مِنَ الطَّعَامِ، وَكانَ ذُو الرُّمَةِ زَهِيدَ الأَكلِ، وَصَلَّيْنَا بَعْدُ، وَآلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلى ظِلِّ أَثَلةٍ يُرِيدُ الْقَائِلَةَ، وَاضَطَجَعَ ذُو الرُّمَّةِ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ مِثَلَ صَنِيعِهِ، فَوَلَّيْتُ ظَهْرِي الأَرْضَ، وَعَيْنَاي لاَ يَمْلِكُهُمَا غُمْضٌ، فَنَظَرْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ إِلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ قَدْ ضَحِيَتْ وَغَبِيطُهَا مُلْقىً، وَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يَكْلأُهَا كأَنَّهُ عَسِيفٌ أَوْ أَسِيفٌ فَلَهِيتُ عَنْهُمَا، وَما أَنَا وَالسُّؤالَ عَمَّا لاَ يَعْنِينِي؟ وَنَام ذُو الرُّمَّةِ غِرَاراً، ثُمَّ انْتَبَهَ، َوكاَنَ ذلِكَ فِي أَيَّامِ مُهَاجاتِهِ لِذَلكَ الْمُرِّيَّ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ وَأَنْشَدَ يَقُولُ:
أَمِنْ مَيَّةَ الطُّلَلُ الدَّارِسُ ... أَلَظَّ بِهِ العَاصِفُ الرَّامِسُ
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَ شَجِيجُ الْقَذَالِ ... وَمُسْتَوْقَدٌ مَا لَهُ قَابِس
وَحَوْضٌ تَثَلَّمَ مِنْ جَانِبَيْهِ ... وَمُحْتَفَلٌ دَارِسٌ طامِسُ
وَعَهْدي بِهِ وَبِهِ سَكْنُهُ ... وَمَيَّهُ وَالإِنْسُ وَالآِنسُ
كَأَنِّي بِمَيَّةَ مُسْتَنْفِرٌ ... غَزَالاً ترَاءَى لَهُ عَاطِسٌ
إِذَا جِئْتُهَا رَدَّنيِ عَابِسٌ ... رَقِيبٌ عَلَيْها لَهَا حَارِسٌ
سَتَأْتِي امْرِأَ الْقَيْسِ مَأْثُورَةٌ ... يُغَنِّي بِها العَابِرَ الجَالِسُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ امْرأَ القَيْسِ قَدْ ... أَلَظَّ بِهِ دَاؤُهُ النَّاجِسُ
هُمُ القَوْمُ لاَ يَأَلَمُونَ الْهِجَاءَ ... وَهَلْ يَأَلَمُ الحَجَرُ الْيَابِسُ
فَمَا لَهُمُ في الْعُلاَ رَاكِبٌ ... وَلاَ لَهُمُ فِي الوَغَى فَارِسُ
مُمَرْطَلةٌ فِي حِياضِ المَلاَمِ ... كَمَا دَعَسَ الاْدَمَ الدَّاعِسُ
إِذَا طَمَحَ النَّاسُ لِلْمَكْرُماتِ ... فَطَرْفُهُمُ المُطْرِقُ النَّاعِسُ
تَعَافُ الأَكَارِمُ إِصْهَارَهُمْ ... فَكًلُّ أَيَامَاهُمُ عانِسُ
فَلَمَّا بَلَغَ هَذا البَيْتَ تَنَبَّهَ ذَلِكَ النَّائِمُ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ، وَيَقُولُ: أَذُو الرُّمَيْمَةِ يَمْنَعُنِي النَّوْمَ بِشِعْر غيْرِ مُثَقّفٍ وَلاَ سَائِر؟ فَقُلْتُ يَا غَيْلاَنُ، مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: الْفَرَزْدَقُ، وَحَمِى ذُو الرُّمَّةِ فَقَالَ:
وَأَمَّا مُجاشِعٌ الأَرْذَلُونَ ... فلَم يَسْقِِ مَنْبِتَهُمْ رَاجِسُ
سَيَعْقِلَهُمُ عَنْ مَسَاعِي الْكِرَام ... عِقَالٌ، وَيَحْبِسهُمُ حَابِسُ
فَقُلْتُ: الآنَ يَشْرَقُ فَيَثُورُ، وَيَعُمُّ هذا وَقبِيلَتُهُ بِالهِجَاءِ، فَوَاللهِ مَا زَادَ الفَرَزْدَقُ عَلى أَنْ قَالَ: قُبْحَاً لكَ يا ذَا الرُّمَيْمَةِ! أَتَعْرِضُ لِمِثْلي بِمَقالٍ مُنْتَحَلٍ؟ ثُمَّ عَادَ فِي نَوْمِهِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئاً، وَسَارَ ذُو الرُّمَّةِ وَسِرْتُ مَعَهُ، وَإِنِّي لأَرَى فِيهِ انْكِسَاراً حَتَّى افْتَرَقْنَا.
● [ المَقَامَةُ الأَذْرَبِيجَانِيَّةُ ] ●
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: لَمَّا نَطَّقَنِي الْغِنَى بِفَاضِلِ ذَيْلِهِ، اتُّهِمتُ بِمَالٍ سلَبْتُهُ، أَو كَنْزٍ أَصَبْتُهُ، فَحَفَزَنيِ اللَّيْلُ، وَسَرَتْ بِي الخَيْلُ، وَسَلكتُ فِي هَرَبِي مَسَالِكَ لَمْ يَرُضْهَا السَّيْرُ، وَلاَ اهْتَدَتْ إِلَيْهَا الطَّيْرُ، حَتَّى طَوَيْتُ أَرْضَ الرُّعْبِ وَتَجاوَزْتُ حَدَّهُ، وَصِرْتُ إِلى حِمَى الأَمْنِ َوَوجَدْتُ بَرْدَهُ، وَبَلَغْتُ أَذْرَبِيجَانَ وقَدْ حَفِيَتِ الرَّوَاحِلُ، وأَكَلَتَّهَا المَرَاحِلُ، وَلَمَّا بَلَغْتُهَا:
نَزَلْنَا عَلى أَنَّ المُقَامَ ثَلاثَةٌ ... فَطَابَتْ لَنَا حَتَّى أَقَمْنَا بِها شَهْراً
فَبَيْنَا أَنا يَوْماً في بِعْضِ أَسْوَاقِها إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ بِرَكْوَةٍ قَدِ اعْتَضَدَهَا وَعَصاً قَدِ اعْتَمَدَها، وَدنِّيَّةٍ قَدْ تَقَلَّسَهَا، وَفُوطةٍ قدْ تَطَلَّسَهَا، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ يا مُبْدِئَ الأَشْيَاءِ وَمُعيدَهَا، وَمُحْيِيَ الْعِظَامِ وَمُبِيدَها، وَخَالِقَ الْمِصْباحِ وَمُدِيرَهُ، وفالِقَ الإِصْباحِ وَمُنِيرَهُ، وَمُوصِلَ الآلاءِ سابِغَةً إِلَيْنا، وَمُمْسِكَ السَّمَاءِ أَنْ تَقَعَ عَلَيْنَا، وَبَارِئَ النَّسَمِ أَزْواجاً وَجَاعِلَ الشَّمْسِ سِرَاجاً، والسَّمِاءِ سَقْفاً والأَرْضِ فِرَاشاً، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً وَالنَّهَارِ مَعَاشاً، ومُنْشِئَ السَّحَابِ ثِقَالاً، وَمُرْسِلَ الصَّواعِقِ نِكَالاً، وَعَالِمَ ما فَوْقَ النُّجُومِ وما تَحْتَ التُّخُومِ، أَسْأَلَكَ الصَّلاةَ عَلى سَيِّدِ المُرْسَلينَ، مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّاهِرينَ، وأَنْ تُعِينَني على الغُرْبَةِ أَثْنِي حَبْلَهَا، وَعلى العُسْرَةِ أَعْدُو ظِلَّها، وأَنْ تُسَهِّلَ لِي عَلى يَدَيْ مِنْ فَطَرَتْهُ الفِطْرَةُ، وَأَطْلَعَتْهُ الْطُّهْرَةُ، وَسَعِدَ بالدِّينِ الْمَتِينِ، وَلَمْ يَعْمَ عَنِ الحَقِّ الْمُبِينِ، رَاحِلةً تَطْوِى هَذَا الطَّرِيقَ، وزَاداً يَسَعُنِي والرَّفِيقَ.
قَالَ عيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَنَاجَيْتُ نَفْسِي بِأَنَّ هذَا الرَّجُلَ أَفْصَحُ مِنْ إِسْكَنْدَرِيِّنَا أَبِي الفَتْحِ، وَالْتَفَتُّ لَفْتَةً فَإِذَا هُوَ واللهِ أَبُو الْفَتْحِ، فَقُلْتُ يَا أَبَا الفَتْحِ بَلَغَ هذِهِ الأَرْضَ كَيْدُكَ، وانْتَهى إِلى هذَا الشِّعْبِ صَيْدُكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أِنا جَوَّالةُ البِلا ... دِ وجَوَّابِةُ الأُفُقْ
أَنَا خُذْرُوَفةُ الزَّما ... نِ وَعَمَّارَةُ الطُّرُقْ
لاَ َتلُمْنِي لَكَ الَّرشَا ... دُ عَلَى كُدْيَتي وذُقْ
● [ الْمَقَامَةُ الجُرْجَانِيَّةُ ] ●
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ بِجُرجَانَ، فِي مَجْمَعٍ لَنَا نَتَحَدَّثُ وما فينا إِلاَّ مِنَّا، إِذْ وَقَفَ عَليْنَا رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّويلِ المُتَمَدِّدِ، ولا الْقصيرِ المُتَرَدِّدِ، كَثُّ العُثْنُونِ، يَتْلُوهُ صِغَارٌ فِي أَطْمارٍ، فافْتَتَحَ الْكَلامَ بِالسَّلامِ، وَتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَوَلاَّنا جميلاً، وأَوْلَيْناهُ جَزيلاً، فَقَالَ: يا قَوْمُ إِنِّي امْرؤٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، مِنَ الثُغُورِ الأَمَويَّةِ نَمَتْني سُلَيْمٌ ورَحَّبَتْ بِي عَبْسٌ جُبْتُ الآفاق، وتَقَصَّيْتُ العِرَاقَ، وَجُلْتُ الْبَدْوَ وَالْحَضَرَ، ودَارَيْ رَبِيَعَةَ وَمُضَرَ، ما هُنْتُ، حَيْثُ كُنْتُ، فَلا يُزْرِيَنَّ بِي عِنْدكُمْ ما تَرَوْنَهُ مِن سَمَلي وأَطْماري، فَلَقَدْ كُنَّا وَاللهِ مِنْ أَهْلِ ثَمٍّ وَرَمٍّ، نُرْغِي لَدَى الصَّباحِ ونُثْغِى عِنًدَ الرَّواحِ
وفِينَا مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُم ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُها القَوْلُ والفِعْلُ.
عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رَزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُوَعِنْدَ المُقِلَّينَ السَّمَاحَةُ والبَذْلُ
ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يا قَوْمُ قَلَبَ لِي مِنْ بَيْنِهمْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ، فاعْتَضْتُ بِالنَّوْمِ السَّهَر، وبالإِقامَةِ السَّفَرَ، تَتَرَامى بِي المَرَامي، وتَتَهَادَى بِي المَوَامِي، وَقَلَعَتْنِي حَوَادِثُ الزَّمَنِ قلْعَ الصَّمْغَةِ، فَأُصْبِحُ وأُمْسِي أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ وأَعْرَى مِنْ صَفْحَةِ الْوَليدِ، وأَصْبَحْتُ فَارِغَ الفِناءِ، صَفِرَ الإِنَاءِ، مالِي إِلَّا كَآبَةُ الأَسْفارِ، ومُعَاَقَرَةُ السِّفَارِ، أُعَانِي الفَقْرَ، وأمَاني الْقَفْرَ، فِراشِي الْمَدَرُ، وَوِسَادِي الحَجَرُ.
بِآمدَ مَرَّةً وَبِرأْسِ عَيْنٍ ... وأَحْيَاناً بِمَيّا فَارِقِينَا
لَيْلَةً بِالشَّآمِ ثُمَّتَ بِالأهْ ... وَازِ رَحْلِي وَلَيلَةً بِالْعِرَاقِ
فَما زَالَتِ النَّوَى تَطْرَحُ بيِ كُلَّ مَطْرَحٍ، حَتَّى وَطِئْتُ بِلادَ الحَجَرِ وَأَحَلَّتنِي بَلَدَ هَمَذَانَ، فَقَبِلَنِي أَحْيَاؤُهَا، وَأَشْرَأَبَّ إِلَىَّ أَحِبَّاؤُهَا، وَلكِنِّي مِلْتُ لإِعْظَمِهشمْ جَفْنَةً، وَأَزْهَدِهِمْ جَفْوةً:
َلهُ نَارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ ... إِذَا النِّيرانُ أُلْبِسَتِ الْقِنَاعَا
فَوَطَّأَ لِي مَضْجَعاً، وَمَهَّدَ لِي مَهْجَعاً، فَإِنْ وَنَى لِيَ وَنْيةً هَبَّ لِيَ ابْنٌ كأَنَّهُ َسَيْفٌ يَمَانٍ، أَوْ هِلاَلٌ بَدَا فِي غَيْرِ قَتَمانٍ، وَأَوْلاني نِعَماً ضَاقَ عَنْهَا قَدْرِي، وَاتَّسَعَ بِهَا صَدْرِي، أَوَّ لُهَا فَرْشُ الدَّارِ، وَآخِرُها أَلْفُ دِينَارٍ، فَمَا طَيَّرَتْنِي إِلا َّالنِّعَمُ حَيْثُ تَوَالَتْ، وَالدِّيَمُ لَمَّا انْثَالتْ، فَطَلَعْتُ مِنْ هَمَذَانَ طُلُوعَ الشَّارِدِ، وَنَفَرْتُ نِفَارَ الْآبِدِ، أَفْرِي الْمَسَالِكَ، وَأَقْتَفِرُ المَهَالِكَ، وَأَعَانِي الْمَمَالِكَ، عَلَى أَنِّيَ خَلَّفْتُ أُمَّ مّثْوَايَ وَزُغْلوُلاً لِي.
كأَنَّهُ ُدْمُلٌج مِنْ فِضَّةٍ نَبَهٌ ... فِي مَلْعَبٍ مِنْ عَذَارَى الحَيِّ مَفْصُومُ
وَقَدْ هَبَّتْ بِي إِلَيْكُمْ رِيحُ الاِحْتِيَاجِ، وَنَسِيمُ الإِلْفَاجِ، فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ لِنِقْضٍ مِنَ الَأَنْقَاضِ مَهْزُولٍ، هَدَتْهُ الحَاجَةُ، وَكَدَّتْهُ الْفَاقَةُ:
أَخَا سَفَرٍ، جَوَّابَ أَرْضٍ، تَقَاذَفَتْ ... بِهِ فَلَوَاتٌ؛ فَهْوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ
جَعَلَ اللهُ لِلخَيْرِ عَلَيْكُمْ دَلِيلاً، وَلاَ جَعَلَ للِشَّرِّ إِلَيْكُمْ سَبِيلاً.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَرَقَّتْ وَاللهِ لَهُ الْقُلُوبُ، وَاغْرَوْرَقَتْ لِلُطْفِ كلاَمِهِ العُيُونُ، وَنُلْنَاُه مَا تَاحَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ، وأَعْرَضَ عَنَّا حَامِداً لَنا، فَتَبِعْتُهُ، فَإِذَا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الْفَتْح الإِسْكَنْدَرِيُّ.
● [ المَقَامَةُ الْأَصْفَهَانِيَّةُ ] ●
حَدَّثَنا عِيسَى ْبنُ هِشَامٍ قَالَ:
كُنْتُ بِأَصْفَهَانَ، أَعْتَزِمُ المَسِيرَ إِلى الرَّيِّ، فَحَلَلْتُهَا حُلُولَ أَلْفَيِّ، أَتَوَقَّعُ الْقَافِلةَ كُلَّ َلْمَحةٍ، وَأَتَرَقَّبُ الرَّاحِلَةَ كلَّ صّبْحَةٍ، فَلَمَّا حُمَّ مَا تَوَقَّعْتُهُ نُودِيَ لِلصَّلاةِ نِدَاءً سَمِعْتُهُ، وتَعَيَّنَ فَرْصُ الإِجَابَةِ، فَانْسَلَلْتُ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابةِ، أَغْتَنِمُ الجَمَاَعةَ أُدْرِكُهَا، وأَخْشَى فَوْتَ القَافِلَةِ أَتْرُكَها، لَكِنِّي اسْتَعَنْتُ بِبَركاتِ الصَّلاةِ، عَلى وَعْثَاءِ الفَلاةِ، فَصِرْتُ إِلَى أَوَّلِ الصَُفُوفِ، وَمَثَلْتُ لِلْوُقُوفِ، وَتَقَدَّمَ الإِمَاُم إِلى المِحْرَابِ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكتَابِ، بِقِراءَةِ حَمْزَةَ، مَدَّةً وَهَمْزَةً، وَبِي الْغَمُّ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ في فَوْتِ القَافِلَةِ، وَالبُعْدِ عَنِ الرَّاحِلَةِ، وَاتْبَعَ الفَاتِحَةَ الوَاقِعَةَ، وَأَنَا أَتَصَلَّى نَارَ الصَّبْرِ وَأَتَصَلَّبُ، وَأَتَقَلَّى عَلى جَمْرِ الغَيْظِ وأَتَقَلَّبُ، َوَلْيَس إِلاَّ السُّكُوتُ وَالصَّبْرُ، أَوِ الكَلاَمُ وَالْقَبْرُ؛ لِمَا عَرَفْتُ مِنْ خُشُونَةِ القَومِ فِي ذَلكَ المَقامِ، أَنْ لَوْ قُطِعًتِ الصَّلاةُ دُونَ السَّلام، فَوَقَفْتُ بِقَدَمِ الضَّرُورَةِ، على تِلْكَ الصُّورَةِ إِلَى انْتِهَاءِ السُّورَةِ، وَقَدْ قَنِطْتُ مِنَ القَافِلَةِ، وَأِيِسْتُ مِنَ الرَّحْلِ وَالرَّاحِلَةِ، ثُمَّ حَنَى قَوْسَهُ لِلْرُّكُوع، بِنَوْعِ مِنَ الخُشُوعِ، وَضَرْبٍ من الخُضُوعِ، لَمْ أَعْهَدْهُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ وَيَدَهُ، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقَامَ، حَتَّى مَا شَكَكْتُ أَنَّهُ قَدْ نَامَ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَمِيِنِهِ، وَأَكَبَّ لِجَبِيِنهِ، ثُمَّ انْكَبَّ لِوَجْهِهِ، وَرَفَعْتُ رَأَسِي أَنْتَهزُ فُرْصةً، فَلَمْ أَرَ بَيْنَ الصُّفُوفِ فُرْجَةً، فَعُدْتُ إِلَى السُّجُودِ، حَتَّى كبَّر لِلْقُعُودِ، وَقامَ إِلى الرَّكْعةِ الثَّانِيَةِ، فَقَرَأَ الفَاتِحَةَ وَالقَارِعَةَ، قِرَاءَةً اسْتَوْفَى بِها عُمْرَ السَّاعَةِ، وَاستَنْزَفَ أَرْوَاحَ الجَمَاعَةِ، فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلى التَّشَهُّدِ بِلَحْيَيْهِ، وَمَالَ إِلَى التَّحِيَّةِ بِأَخْدَعَيْهِ، وَقُلْتُ: قَدْ سَهَّلَ اللهُ الَمْخرَجَ، وَقَرَّبَ الفَرَجَ، قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُحِبُّ الصَّحَابَةَ والجَمَاعَةَ، فَلْيُعِرْنِي سَمْعَهُ سَاعَةً.
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ: فَلَزِمْتُ أَرْضِي، صِيِانَةَ لِعَرْصِي، فَقَالَ: حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لاَ أَقُولَ غَيْرَ الحَقْ، وَلا أَشْهَدَ إِلاَّ بِالصِّدْقِ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبِشَاَرةٍ مِنْ نَبِيكُمْ، لكِنِّي لاَ أُؤَدِّيهَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللهُ هَذا المَسْجدَ مِنْ كُلِّ نَذْلٍ يَجْحَدُ نُبُوءَتَهُ.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَرَبَطني بِالْقُيُودِ، وَشَدَّني بِالحِبَالِ السُّودِ، ثُمَّ قَالَ: رأَيْتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ، كالشَّمْسِ تَحْتَ الغَمامِ، وَالبَدْرِ لَيْلَ التَّمَامِ، يَسِيرُ وَالنُّجُومُ تتَبْعَهُ، ويَسْحَبُ الذَّيْلَ والمَلائِكَةُ تَرْفَعُهُ، ثمَّ علَمَني دُعَاءً أَوْصَانِي أَنْ أُعَلِّمَ ذَلِك أُمَّتَهُ، فَكَتَبْتُهُ عَلَى هذِهِ الأَوْرَاق بِخَلُوقٍ وَمِسْكٍ، وَزَعْفَرَانٍ وَسُكٍ، فَمَنِ اسْتَوْهَبَهُ مِنيِّ وَهَبْتُهُ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ ثَمَنَ القِرْطَاسِ أَخَذْتُهُ.
قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ: فَلَقَدِ انْثِالَتْ عَليهِ الدَّرَاهِمُ حَتَّى حَيَّرَتْهُ، وَخَرَجَ فَتَبِعْتُهُ مُتَعَجِّبَاً مِنْ حِذْقِهِ بِزَرْقِهِ، وَتَمَحُّلِ رِزِقِهِ، وهَمَمْتُ بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حَالِهِ فَأَمْسَكْتُ، وَبِمُكَالَمَتِهِ فَسكَتُّ، وَتَأَمَّلْتُ فَصَاحَتَهُ فِي وَقَاحَتِهِ، وَمَلاحَتَهُ في اسْتِمَاحَتِهِ، وَرَبْطَهُ النَّاسَ بِحيَلتِهِ، وَأَخْذَهُ المَالَ بوَسِيلَتِهِ، وَنَظَرْتُ فإِذَا هُوَ أَبُو الْفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلْتُ: كَيْفَ اهْتَدَيْتَ إِلَى هذِهِ الحِيلَةِ فَتَبَسَّمَ وأَنْشَأَ يَقُولَ:
النَّاسُ حُمْرٌ فَجَوِّزْ ... وابْرُزْ عَلَيْهِمْ وبَرِّزْ
حَتَّى إِذَا نِلْتُ مِنْهُمْ ... مَا تَشْتَهِيهِ فَفَرْوِزْ
● [ المَقَامَةُ الأَهْوَازِيَّةُ ] ●
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قال: كُنْتُ بِالأَهْوازِ، في رُفْقَةِ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِمْ تَسَهَّلِ، لَيْسَ فِينَا إِلاَّ أَمْرَدُ بكْرُ الآمالِ، أَوْ مُخْتَطُّ حَسَنُ الإِقْبالِ، مَرْجُوُّ الايَّامِ وَاللَّيال، فَأَفَضْنَا فِي العِشْرَةِ كَيْفَ نَضَعُ قَوَاعِدَهَا، وَالأُخُوَّةِ كَيْفَ نُحْكِمُ مَعَاقِدَهَا، وَالسُّرورِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَقَاضَاهُ، والشُّرْبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَعاطاهُ، وَالانْسِ كَيْفَ نَتَهَاداهُ، وَفَائِتِ الحَظِّ كَيْفَ نَتَلافَاهُ، وَالشَّرَابِ مِنْ أَيْنَ نُحَصِّلُهُ، وَالمَجْلِسِ كَيْفَ نُزَيُّنُهُ. فَقَالَ أَحَدُنا: عَلَىَّ الْبَيْتُ والنُّزْلُ، وَقالَ آخَرُ: عَلَىَّ الشَّرابُ وَالنَّقْلُ، وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلى المَسيرِ اسْتَقَبَلنَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ فِي يُمْنَاهُ عُكَّازَةٌ، وَعَلى كَتِفَيْهِ جِنَاَزةٌ، فَتَطَيَّرْنَا لَمَّا رَأَيْنَا الجِنَازَةَ وَأَعْرَضْنَا عَنْهَا صَفْحاً، وَطَوَيْنَا دُوَنَها كَشْحاً، فَصَاحَ بِنَا صَيْحَةً كَادَ تْ الأَرْضُ لهَا تَنْفَطِرُ، وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَقَالَ: لَتَروُنَّهَا صُغْراً وَلَتَرْكَبُنَّهَا كَرْهاً وَقَسْراً، مَا لكُمْ تَطَّيَّرونَ مِنْ مَطِّيةٍ رَكِبَهَا أَسْلاَفُكُمْ، وسَيَرْكَبُهَا أَخْلاَفُكُمْ، وَتَتَقَذَّرُونَ سَرِيراً وَطِئَهُ آبَاؤُكُمْ، وَسَيَطؤُهُ أَبْنَاؤُكُمْ، أَمَا واللهِ لَتُحْمَلُنَّ عَلَى هذِهِ العِيدَانِ، إِلَى تِلْكُمُ الدِّيدَانِ، وَلَتُنْقَلُنَّ بِهَذِهِ الجِيَادِ، إِلَى تِلْكُمُ الوِهادِ، وَيْحَكُمْ تَطَيَّرُونَ، كأَنَّكُمْ مُخَيَّرونَ، وَتَتَكَرَّهونَ، كأَنَّكُمْ مُنَزَّهُونَ، هَلْ تَنَفَعُ هَذهِ الطِّيَرَُ، يِا فَجَرَةُ؟ .
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ: فَلَقَدْ نقَضَ مَا كُنَّا عَقَدْنَاهُ، وأَبْطَلَ مَا كُنَّا أَرَدْنَاهُ، فَمِلنَا إِلَيهِ وَقُلنَا لَهُ: مَا أَحْوَجَنَا إِلى وَعْظِكَ، وأَعْشَقَنَا لِلَفْظِكَ، وَلَوْ شِئْتَ لَزِدْتَ قَالَ: إِنَّ وَرَاءَكُمْ مَوَارِدَ أَنْتمْ وَارِدُوهَا، وَقَدْ سِرْتُمْ إِلَيْهَا عِشْرينَ حِجَةً:
وإِنْ امْرأَ قَدْ سَارَ عِشْرِينَ حِجَةً ... إِلى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لِقَرِيبُ
وَمِنْ فَوِقِكُمْ مِنْ يَعْلَمُ أَسْرارَكُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَهَتَكَ أَسْتَارَكُمْ، يُعَامِلِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِحِلمٍ، وَيَقْضِي عَلَيِكُمْ فِي الآخِرَةِ بِعِلمٍ، فَلْيَكُنِ المَوتُ مِنْكُمْ على ذُكْرٍ، لِئَلا تَأَتْوا بِنُكْرٍ، فَإِنَّكُمْ إِذَا اسْتَشْعَرْتُمُوهُ لَمْ تَجْمَحُوا، وَمَتى ذَكَرْتُمُوهُ لَمْ تَمْرَحوا، وإِنْ نَسِيتُمُوهُ فَهْوَ ذَاكِرُكُمْ، وإِنْ نِمْتُمْ عَنْهُ فَهُوَ ثَائِركُمْ، وإِنْ كَرِهْتُمُوهُ فهُوَ زَائِرُكُمْ، قُلْنَا: فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَطْوَلُ مِنْ أَنْ تُحَدَّ، وأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ، قُلْنَا: فَسَانِحُ الوَقْتِ، قَالَ: رَدُّ فَائِتِ العُمْرِ، وَدَفَعُ نَازِلِ الأَمْرِ، قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَلَكِنْ مَا شِئْتَ مِنْ متَاعِ الدُنْيَا وَزُخْرِفِهَا، قَالَ لا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وإِنمَا حَاجَتِي بَعْدَ هَذا أَنْ تَخِدُوا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَعُوا.
● [ المَقَامةُ الْبَغْدَاذِيَّةُ ] ●
حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ؟ أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلاَ حَوْلَ ولاَ قُوةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم، وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ، إِلي الصِدَارِ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ، وَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللهَ لا مَزَّقْتَهُ، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً، وَتَتَسَايَلُ جُوذَابَاتُهُ مَرَقاً، فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ، وَرُشَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً، فَأنْخّى الشَّواءُ بِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ، فَجَعَلها كَالكَحْلِ سَحْقاً، وَكَالطِّحْنِ دَقْا، ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ، حَتَّى اسْتَوفَيْنَا، وَقُلْتُ لِصَاحِبِ الحَلْوَى: زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى فِي الحُلْوقِ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ، وَلْيَكُنْ لَيْلَّي العُمْرِ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ، رَقِيقَ القِشْرِ، كَثِيفِ الحَشْو، لُؤْلُؤِيَّ الدُّهْنِ، كَوْكَبيَّ اللَّوْنِ، يَذُوبُ كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ، لِيَأْكُلَهُ أَبَو َزيْدٍ هَنِيَّاً، قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟ زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ، فَأَنْشَدْتُ:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلهْ ... لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَالَهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِيَمةٍ ... فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ
● [ المَقَامَةُ الْبِصْرِيَّةُ ] ●
حَدَّثّنِي عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَأَنَا مِنْ سِنِّي في فَتَاءٍ، وَمِنَ الزَّيِّ فِي حِبَرٍ وَوِشَاءٍ، وَمِنَ الغِنَى فَي بَقَرٍ وَشَاءٍ، فَأَتَيْتُ المِرْبَدَ فِي رُفْقَةٍ تَأْخُذُهُمُ العُيُونُ، وَمَشَيْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ إِلى بَعْضِ تِلْكَ المُتَنَزَّهَاتِ، فِي تِلْكَ المُتَوَجَّهَاتِ، وَمَلَكَتْنَا أَرْضٌ فَحَلَلْنَاهَا، وَعَمَدْنَا لِقِدَاحِ اللَّهْوِ فَأَجَلْنَاهَا، مُطَرِّحِينَ لِلْحِشْمَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ مِنَّا، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ حتَّى عَنَّ لَنَا سَوادٌ تَخْفْضُهُ وِهَادُ، وَتَرْفَعُهُ نِجَادٌ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يَهُمُّ بِنَا، فَأَتْلَعْنَا لَهُ، حَتَّى أَدَّاهُ إلِيَنْاَ سَيْرُهُ وَلَقِيَنَا بِتَحِّيَةِ الإِسْلاَمِ، وَرَدَدْنَا عَلْيْهِ مُقْتَضى السَّلامِ، ثُمَّ أَجالَ فِينَا طَرْفَهُ وَقَالَ: يا قَوْمُ ما مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ يَلْحَظُنِي شَزْراً، وَيُوسِعُنِي حَزْراً، وَمَا يُنْبِئُكُمْ عَنِّي، أَصْدَقُ مِنِّي، أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنَ الثُّغُورِ الأَمَوِيَّةِ، قَدْ وَطَّأَ لِيَ الفَضْلُ كَنَفَهُ، وَرَحَّبَ بِي عَيْشٌ، وَنَمَانِي بَيْتٌ، ثُمَّ جَعْجَعَ بِي الدَّهْرُعَنْ ثَمِّهِ وَرَمِّهِ، وَأَتْلانِي زَغَاليلَ حُمْرَ الحَوَاصِل:
كَأَنَّهُمْ حَيَّاتُ أَرْضِ مَحْلَةٍ ... فَلَوْ يَعَضُّونَ لَذَكَّي سَمُّهُمْ
إِذَا نَزَلْنَا أَرْسَلُونِي كَاسِباً ... وإِنْ رَحَلْنَا رَكِبُونِي كُلُّهُمْ
وََنَشَزَتُ عَلَيْنَا البِيضُ، وَشَمَسَتْ مِنَّا الصُّفْرُ، وَأَكَلَتْنَا السُّودُ، وَحَطَّمَتْنَا الحُمْرُ، وَانْتَابَنَا أَبُو مَالِكٍ، فَمَا يَلْقَانَا أَبُو جَابِرٍ إِلاَّ عَنْ عُفْرٍ، وَهَذِهِ البَصْرَةُ مَاؤُهَا هَضُومٌ، وَفَقِيرُهَا مَهْضُومٌ، وَالمَرْءُ مِنْ ضِرْسِهِ فِي شُغْلٍ، وَمِنْ نَفْسِهِ في كَلٍّ، فَكَيْفَ بِمَنْ:
يُطَوِّفُ مَا يُطَوِّفُ ثُمَّ يَأَوِي ... إِلَى زُغْبٍ مُحَدَّدَةِ العُيُونِ
كَسَاهُنَّ الْبِلَى شُعْثاً فَتُمْسِي ... جِيَاعَ النَّابِ ضَامِرَةَ البُطُونِ
وَلَقَدْ أَصْبَحْنَ الْيَوْمَ وَسَرَّحْنَ الطَّرْفَ فِي حَيٍّ كَمَيْتٍ، وَبَيْتٍ كلاَ بَيْتٍ، وَقلَّبْنَ الأَكُفَّ عَلَى لَيْتَ، فَفَضَضْنَ عُقَدَ الضُّلُوعِ، وَأَفَضْنَ مَاءَ الدُّمُوعِ، وَتَدَاعَيْنَ بِاسْمِ الجُوعِ.
وَالفَقْرُ فِي زَمَنِ اللِّئَا ... مِ لِكُلِّ ذِي كَرَمٍ عَلاَمَهْ
رَغِبَ الكِرَامُ إِلَى اللِّئَا ... مِ ، وَتِلْكَ أَشْرَاطُ الْقِيَامَهْ
وَلَقَدِ اُخْتِرْتُمْ يَا سَادَةُ، وَدَلَّتْنِي عَلَيْكُمُ السَّعَادَةُ، وَقُلْتُ قَسَماً، إِنَّ فِيهِمْ لَدَسَما، فَهَلْ مِنْ فَتَىً يُعَشِّيهِنَّ، أَوْ يُغَشِّيهِنَّ؟ وَهَلْ مِنْ حُرٍّ يُغَدِّيهِنَّ، أَوْ يُرَدِّيهِنَّ؟ قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَوَاللهِ مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى حِجَابِ سَمْعي كلاَمٌ رَائعٌ أَبْرَعُ، وَأَرْفَعُ وَأَبْدَعُ، مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُ، لاَجَرَمَ أَنَّا اسْتَمَحْنَا الأَوْسَاطَ، وَنَفَضْنَا الأَكْمَامَ، وَنَحَّيْنَا الجُيُوبَ، وَنُلْتُهُ أَنَا مُطْرَفِي، وَأَخَذَتِ الجَمَاعَةُ إِخْذِي، وَقُلْنَا لَهُ: الْحَقْ بِأَطْفَالِكَ، فَأَعْرَضَ عَنَّا بَعْدَ شُكْرٍ وَفَّاهُ، وَنَشْرٍ مَلَأ بِهِ فاهُ.
كتاب : مقامات بديع الزمان الهمذاني
المؤلف : بديع الزمان الهمذاني
منتدى ميراث الرسول - البوابة