بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ المدينة المنورة
مسجد الرسول وحجرات ازواجه
ذكر ابتداء بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نزل على أم كلثوم بن الهدم في بني عمرو بن سالم ابن عوف، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان كلثوم بن الهدم أسلم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتوفي في السنة الأولى، وروى البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وعن مسلم: أقام فيه أربع عشرة ليلة، وأخذ مربد كلثوم بن الهدم وعمله مسجداً وأسسه وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار فركب ناقته القصواء، وجد المسلمون ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله وخلفه وكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة فيقول لهم خيراً، ويقول عن ناقته: " إنها مأمورة خلوا سبيلها "، فمر ببني سالم بن عوف فأتى مسجدهم الذي في وادي رانوناء وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل، وقيل: أربعون، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً حتى انتهت به إلى زقاق الحسنى من بني النجار فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، وقيل: بركت أولاً على باب مسجده صلى الله عليه وسلم ثم ثارت وهو عليها فبركت على باب أبي أيوب، ثم التفت وثارت وبركت في مبركها الأول، وألقت جرانها في الأرض وزرمت فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا المنزل يا رسول الله فاحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة ايام ثم بنى مسجده، ثم لم يزل في بيت أبي أيوب ينزل عليه من الوحي حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان ابتداء بنيانه صلى الله عليه وسلم مسجده في شهر ربيع الأول من السنة الأولى، وكانت إقامته في دار أبي أيوب سبعة أشهر.
قال الشيخ جمال الدين: ودار أبي أيوب مقابلة لدار عثمان رضي الله عنه من جهة القبلة والطريق بينهما، وهي اليوم مدرسة للمذاهب الأربعة اشترى عرصتها الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن ايوب بن شادي وبناها، وأوقفها على المذاهب الأربعة وأوقف عليها وقفاً بميافارقين وهي دار ملكه ولها بدمشق وقف أيضاً، ويليها من جهة القبلة عرصة كبيرة تحاذيها من القبلة كانت داراً لجعفر بن محمد الصادق، وفيها الآن قبلة مسجده وفيها اثر المحاريب، وهي اليوم ملك للأشراف المنايفة، وللمدرسة قاعتان كبرى وصغرى، وفي إيوان الصغرى الغربي خزانة صغيرة مما يلي القبلة فيها محراب يقال إنه مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال رحمه الله تعالى: واعلم أن المسجد الشريف في دار بني غنم بن مالك بن النجار وكان مربداً للتمر لسهل وسهيل بني رافع بن مالك بن النجار وكانا غلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وبناه، وقيل: لم يأخذ له ثمناً، وقيل: اشتراه من بني عفراء بعشرة دنانير دفعها عنه أبو بكر رضي الله عنه، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وبنو النجار أخوال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجار تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج وهم بطون كثيرة، سمي بالنجار؛ لأنه اختتن بالقدوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير دور الأنصار دور بني النجار ". وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطع وبقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له وجعلوا عضادتيه حجارة، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وبنى صلى الله عليه وسلم مسجده مربعاً وجعل قبلته إلى بيت المسجد، وطوله سبعون ذراعاً في عرض شبر أو أزيد، وجعل له ثلاثة أبواب وجعلوا ساريتي المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن،
وفي الصحيحين: كان جدار المسجد ما كادت الشاة تجوزه. وعن عائشة رضي الله عنها: كان طول جدار المسجد بسطة، وكان عرض الحائط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبنوه لبنة ونصفاً، ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأقيم له سوار من جذوع النخل شقة شقة ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف بهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين، فقال لهم: " عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات يعم فيعمل والأمر أعجل من ذلك "، فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى عليه السلام كان إذا قام به اصاب رأسه السقف.
قال أهل السير: وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده مرتين، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله تعالى عليه خيبر بناه فزاد في الدور مثله.
ذكر ما جاء في قبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجده متوجهاً إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وقيل: ستة عشر، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة في صلاة الظهر يم الثلاثاء النصف من شعبان، وقيل: في رجب، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ثم قال: بيده هكذا، فأمات كل جبل بينه وبين الكعبة لا يحول دون نظره شيء فلما فرغ، قال جبريل: هكذا فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب من البيت، فهي المقطوع بصحتها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه للناس من الشام من مسجده أن تضع الإسطوانة المحلقة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي مستقبل الشام وهي خلف ظهرك حتى إذا كنت محاذياً لباب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل عليه السلام والباب عن منكبك الأيمن وأنت في صحن المسجد كانت قبلته في ذلك الموضع، وأنت واقف في مصلاه صلى الله عليه وسلم وسيأتي ذكر الاسطوانة في محله.
يروى أن أول ما نسخ من أمور الشرع أمر القبلة، وتقدم في باب الفضائل فضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجده صلى الله عليه وسلم.
ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد، وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراع واحد من عرعر أوساج، ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بنى لهن حجرات وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أهل السير: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيّه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلى جهة المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد. قال عمران بن أبي أنس: كانت منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر. قال النجار: وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع، وكان الناس يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة حكاه مالك، وقال: كان المسجد يضيق على أهله، وحجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة فيه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
وعن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل بنت أم سلمة بابها وحجرتها بلبن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن فقال: " ما هذا البناء " ، فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس. فقال لي: " يا أم سلمة شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان ". وقال عطاء الخرساني: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد يقرأ يأمر بإدخالهم في المسجد، فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم. وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم يتركونها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة فيقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر. وقال يزيد بن أمامة: ليتها تركت حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح الدنيا عنده.
وأما بيت فاطمة رضي الله عنها فإنه كان خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار المصلى إلى القبلة، وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منه يعلم خبرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بابها كل صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول: " الصلاة الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ".
قال الحافظ محب الدين بن النجار: وبيتها اليوم حوله مقصورة، وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. قال عفيف الدين المرجاني: وهو اليوم أيضاً باق على ذلك.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نزل على أم كلثوم بن الهدم في بني عمرو بن سالم ابن عوف، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان كلثوم بن الهدم أسلم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتوفي في السنة الأولى، وروى البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وعن مسلم: أقام فيه أربع عشرة ليلة، وأخذ مربد كلثوم بن الهدم وعمله مسجداً وأسسه وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار فركب ناقته القصواء، وجد المسلمون ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله وخلفه وكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة فيقول لهم خيراً، ويقول عن ناقته: " إنها مأمورة خلوا سبيلها "، فمر ببني سالم بن عوف فأتى مسجدهم الذي في وادي رانوناء وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل، وقيل: أربعون، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً حتى انتهت به إلى زقاق الحسنى من بني النجار فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، وقيل: بركت أولاً على باب مسجده صلى الله عليه وسلم ثم ثارت وهو عليها فبركت على باب أبي أيوب، ثم التفت وثارت وبركت في مبركها الأول، وألقت جرانها في الأرض وزرمت فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا المنزل يا رسول الله فاحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة ايام ثم بنى مسجده، ثم لم يزل في بيت أبي أيوب ينزل عليه من الوحي حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان ابتداء بنيانه صلى الله عليه وسلم مسجده في شهر ربيع الأول من السنة الأولى، وكانت إقامته في دار أبي أيوب سبعة أشهر.
قال الشيخ جمال الدين: ودار أبي أيوب مقابلة لدار عثمان رضي الله عنه من جهة القبلة والطريق بينهما، وهي اليوم مدرسة للمذاهب الأربعة اشترى عرصتها الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن ايوب بن شادي وبناها، وأوقفها على المذاهب الأربعة وأوقف عليها وقفاً بميافارقين وهي دار ملكه ولها بدمشق وقف أيضاً، ويليها من جهة القبلة عرصة كبيرة تحاذيها من القبلة كانت داراً لجعفر بن محمد الصادق، وفيها الآن قبلة مسجده وفيها اثر المحاريب، وهي اليوم ملك للأشراف المنايفة، وللمدرسة قاعتان كبرى وصغرى، وفي إيوان الصغرى الغربي خزانة صغيرة مما يلي القبلة فيها محراب يقال إنه مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال رحمه الله تعالى: واعلم أن المسجد الشريف في دار بني غنم بن مالك بن النجار وكان مربداً للتمر لسهل وسهيل بني رافع بن مالك بن النجار وكانا غلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وبناه، وقيل: لم يأخذ له ثمناً، وقيل: اشتراه من بني عفراء بعشرة دنانير دفعها عنه أبو بكر رضي الله عنه، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وبنو النجار أخوال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجار تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج وهم بطون كثيرة، سمي بالنجار؛ لأنه اختتن بالقدوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير دور الأنصار دور بني النجار ". وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطع وبقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له وجعلوا عضادتيه حجارة، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وبنى صلى الله عليه وسلم مسجده مربعاً وجعل قبلته إلى بيت المسجد، وطوله سبعون ذراعاً في عرض شبر أو أزيد، وجعل له ثلاثة أبواب وجعلوا ساريتي المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن،
وفي الصحيحين: كان جدار المسجد ما كادت الشاة تجوزه. وعن عائشة رضي الله عنها: كان طول جدار المسجد بسطة، وكان عرض الحائط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبنوه لبنة ونصفاً، ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأقيم له سوار من جذوع النخل شقة شقة ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف بهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين، فقال لهم: " عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات يعم فيعمل والأمر أعجل من ذلك "، فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى عليه السلام كان إذا قام به اصاب رأسه السقف.
قال أهل السير: وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده مرتين، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله تعالى عليه خيبر بناه فزاد في الدور مثله.
ذكر ما جاء في قبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجده متوجهاً إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وقيل: ستة عشر، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة في السنة الثانية من الهجرة في صلاة الظهر يم الثلاثاء النصف من شعبان، وقيل: في رجب، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة ثم قال: بيده هكذا، فأمات كل جبل بينه وبين الكعبة لا يحول دون نظره شيء فلما فرغ، قال جبريل: هكذا فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب من البيت، فهي المقطوع بصحتها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه للناس من الشام من مسجده أن تضع الإسطوانة المحلقة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي مستقبل الشام وهي خلف ظهرك حتى إذا كنت محاذياً لباب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل عليه السلام والباب عن منكبك الأيمن وأنت في صحن المسجد كانت قبلته في ذلك الموضع، وأنت واقف في مصلاه صلى الله عليه وسلم وسيأتي ذكر الاسطوانة في محله.
يروى أن أول ما نسخ من أمور الشرع أمر القبلة، وتقدم في باب الفضائل فضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجده صلى الله عليه وسلم.
ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد، وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراع واحد من عرعر أوساج، ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بنى لهن حجرات وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أهل السير: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيّه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلى جهة المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد. قال عمران بن أبي أنس: كانت منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر. قال النجار: وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع، وكان الناس يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة حكاه مالك، وقال: كان المسجد يضيق على أهله، وحجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة فيه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
وعن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل بنت أم سلمة بابها وحجرتها بلبن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن فقال: " ما هذا البناء " ، فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس. فقال لي: " يا أم سلمة شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان ". وقال عطاء الخرساني: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد يقرأ يأمر بإدخالهم في المسجد، فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم. وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم يتركونها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة فيقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر. وقال يزيد بن أمامة: ليتها تركت حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح الدنيا عنده.
وأما بيت فاطمة رضي الله عنها فإنه كان خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار المصلى إلى القبلة، وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منه يعلم خبرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بابها كل صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول: " الصلاة الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ".
قال الحافظ محب الدين بن النجار: وبيتها اليوم حوله مقصورة، وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. قال عفيف الدين المرجاني: وهو اليوم أيضاً باق على ذلك.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء