بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ المدينة المنورة
متهجد النبي وقصة الجذع والمنبر والروضة الشريفة
ذكر مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل
وروى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس وراء بيت عليّ رضي الله عنه ثم يصلي صلاة الليل، قال: وذلك موضع الاسطوان الذي مما يلي الدويرة على طريق النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن سعيد بن عبد الله بن فضل قال: مر بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الاسطوانة هل جاءك فيها أثر ، قلت: لا. قال: فالزمها فإنها كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، ثم قال: قلت: هذه الاسطوانة ، قال: نعم.
قال الشيخ جمال الدين: وهذه الاسطوانة خلف بيت فاطمة رضي الله عنها فالواقف المصلى إليها يكون باب جبريل المعروف قديماً بباب عثمان على يساره، وحول الدرابزين الدابر على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب فيها بالرخام هذا متهجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ محب الدين: وبيت فاطمة رضي الله عنها من جهة الشمال، وفيه محراب إذا توجه المصلي إليه كانت يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه.
ذكر قصة الجذع
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسنداً ظهره إليها فلما كثر الناس قالوا: ابنوا له منبراً، فبنوا له منبراً له عتبتان فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. وعن جابر بن عبد الله كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار. وفي رواية أنس حتى ارتج المنبر لخواره، روى بجواره بالجيم، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به، وفي رواية المطلب: حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت، زاد غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا بكى لما فقد من الذكر "، وزاد غيره: " والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر. كذا في حديث المطلب، وسهل بن سعد، وإسحاق عن أنس، وفي بعض الروايات جعل في السقف. قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلى إليه فلما هدم المسجد أخذه أبيّ وكان عنده إلى أن أكلته الأرض.
وعن الإسفرائيني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يهرق الأرض، فالتزمه ثم أمره فعاد إلى مكانه. وفي حديث أبي بريدة قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: " إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك، ويكمل لك خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك ". ثم أصغى له النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول فقال: بل تغرسني في الجنة يأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا ابلى فيه فسمعه من يليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد فعلت ". ثم قال: " اختار دار البقاء على دار الفناء ". قالت عائشة رضي الله عنها: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غار الجذع فذهب. وقصة الجذع نظير إحياء الموتى لعيسى عليه السلام وأكبر.
وقال ابن أبي الزناد: ولم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع، فمنهم من قال: أخذه أبيّ بن كعب، ومنهم من قال: دفن في موضعه. قال الحافظ محب الدين: وكان الجذع في موضع الاسطوانة المحلقة عن يمين المحراب محراب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصندوق.
قال الشيخ جمال الدين: إنه كان لاصقاً بجدار المسجد القبلي في موضع كرسي الشمعة اليمنى التي عن يمين المصلى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والاسطوانة التي قبل الكرسي متقدمة عن موضع الجذع، فلا يعتمد على قول من جعلها موضع الجذع، وفي الاسطوانة خشبة ظاهرة مثبتة بالرصاص بموضع كان في حجر من حجارة الاسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة تقول العامة هذا الجذع، وليس كذلك بل هو من جملة البدع التي يجب إزالتها؛ لئلا يفتتن بها كما أزيلت الجذعة التي في المحراب القبلي، فإن الشيخ أبا حامد رحمه الله ذكر مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حققه بقوله: إذا وقف المصلي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم اكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن، ويجعل الجذعة التي في القبلة بين يدي عينيه، فيكون واقفاً في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ جمال الدين: وذلك قبل احتراق المسجد الشريف، وقبل أن يجعل هذا اللوح القائم في قبلة مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جعل بعد حريق المسجد وكان يحصل بتلك الجذعة تشويش كثير، وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه خرزة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عالية فيتعلق النساء والرجال إليها، فلما كانت سنة إحدى وسبعمائة جاور الصاحب زين أحمد بن محمد بن علي المعروف بابن حنا فأمر بقلعها فقلعت، وهي اليوم في حاصل الحرم الشريف ثم توجه إلى مكة في أثناء السنة فرأى أيضاً ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام من الرجال والنساء لاستمساك العروة الوثقى في زعمهم فأمر بقلع ذلك المثال أيضاً، والحمد لله، وأما العود الذي في الاسطوانة التي عن يمين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الجذع المتقدم ذكره. فقال الحافظ محب الدين: روى عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلم نقدر على أحد يذكر لنا فيه شيئاً حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك فقال: تدري لم صنع هذا العود ، ولم اسأله فقلت: ما أدري. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول: " استووا وعدلوا صفوفكم ". فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سرق العود فطلبه أبو بكر فلم يجده، ثم وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء قد دفنه في الأرض فأكلته الأرض، فأخذ له عوداً فشقه وأدخله فيه ثم شعبه ورده إلى الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باق.
قال مسلم بن حيان: كان ذلك العود من طرفاء الغابة. وقيل: بل كان من الجذع المذكور.
قال المرجاني: قلت والله أعلم : إن هذا الجذع الذي ذكره ابن النجار إنه في القبلة باق إلى اليوم، لعله الذي قاس به الشيخ أبو حامد وقلعه ابن حنا. قال الشيخ جمال الدين: وكان ذلك قبل حريق المسجد الشريف.
ذكر منبر النبي صلى الله عليه وسلم وروضته الشريفة
عن أبي حازم أن نفراً جاءوا إلى سهل بن سعد وقد تماروا في المنبر من أي عود هو? فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه. فقلت له: فحدثنا فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة " انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أحكم للناس عليها " فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع، وهي من طرفاء الغابة والطرفاء شجر يشبه الأثل إلا أن الأثل أعظم منه.
وعن جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً. فقال: إن شئت. فعمل له المنبر. وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك. قال: بلى. قال: فاتخذ له منبراً مرقاتين. وعن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب في يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال: إن القيام قد يشق علي وشكا ضعفاً في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام. قال: فلما اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذوا الرأي من أصحابه على اتخاذه، قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاماً يقال له فلان أعمل الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " فمره يعمل "، فأرسل إلى اثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلساً، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضعه اليوم ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس وقام بعضهم على رجليه، وأقبل رسول الله حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنبر فقام عليه. وقد روي أن هذا الغلام الذي صنع المنبر اسمه مينا بياء ساكنة مثناة من أسفل بعدها نون. وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي: وذلك في السنة الثامنة من الهجرة اتخذه درجتين ومقعدة. قال ابن أبي الزناد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله عنه قام على الدرجة السفلى كما فعل ابو بكر رضي الله عنه ست سنين، ثم علا فجلس موضع النبي صلى الله عليه وسلم وكسا المنبر قبطية.
ذكر الشيخ محب الدين عن محمد بن الحسن بن زبالة قال: كان طول المنبر منبر النبي صلى الله عليه وسلم الأول في السماء ذراعين وشبراً وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما صلى الله عليه وسلم إذا جلس يخطب شبر وأصبعان، وعرضه ذراع في ذراع وتربيعه سواء، وعدد درجه ثلاث بالمقعد، وفيه خمسة أعواد في جوانبه الثلاث قال الشيخ جمال الدين: هذا ما كان عليه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما حج معاوية رضي الله عنه في خلافته كساه قبطية ثم كتب إلى مروان بن عبد الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر عن الأرض، فدعا له النجارين ورفعوه عن الأرض وزادوا من أسفله ست درجات، وصار المنبر بسبع درجات بالمجلس. قال ابن زبالة: لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده. وقال الشيخ جمال الدين: هذا في زمان محمد بن زبالة، وروى أيضاً عن ابن زبالة أن طول منبر النبي صلى الله عليه وسلم بما زيد فيه أربعة أذرع ومن أسفله عتبة، وذكر ابن زبالة أيضاً أن المهدي بن المنصور لما حج سنة إحدى وستين ومائة قال للإمام مالك بن أنس رحمه الله: أريد أن أعيد منبر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله الأول، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد شد إلى هذه العيدان وسمر فهي ببركته حفت أن تتهافت فلا أرى تغييره، فتركه المهدي على حاله، قيل: إن المهدي فرق في هذه الحجة ثلاثين ألف درهم ومائة ألف وخمسين ألف ثوب، وحمل إليه الثلج من بغداد إلى مكة وكسا البيت ثلاث كساوي بيضاء وحمراء وسوداء توفي بماء سندان بموضع يقال له الرد، في المحرم سنة تسع وستين ومائة. قال الشيخ جمال الدين: وذكر لي يعقوب بن أبي بكر بن أوحد من أولاد المجاورين بالمدينة الشريفة وكان أبوه أبو بكر فراشاً من قوام المسجد الشريف، وهو الذي كان حريق المسجد على يديه واحترق هو أيضاً في حاصل الحرم، إن هذا المنبر الذي زاده معاوية ورفع منبر النبي صلى الله عليه وسلم وجد قد تهافت على طول الزمان وإن بعض خلفاء بني العباس جدده واتخذوا من بقايا أعواد منبر النبي صلى الله عليه وسلم أمشاطاً للتبرك بها، والمنبر الذي ذكره ابن النجار هو المذكور أولاً فإنه قال في تاريخه: وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاثة أصابع، والدكة التي هو عليها من رخام طولها شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة. قال الشيخ جمال الدين: فدل ذلك على أن المنبر الذي احترق غير المنبر الأول الذي عمله معاوية ورفع منبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقه. قال الفقيه يعقوب بن أبي بكر: سمعت ذلك ممن أدركت بأن بعض الخلفاء جدد المنبر واتخذ من بقايا أعواده أمشاطاً، وإن المنبر المحترق هو الذي جدده الخليفة المذكور، وهو الذي أدركه الشيخ محب الدين قبل احتراق المسجد الشريف، فإن الحافظ محب الدين كتب التاريخ في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان احتراق المسجد ليلة الجمعة أول رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة كما سيأتي.
قال الشيخ جمال الدين: ثم إن الملك المظفر عمل منبراً وأرسله في سنة ست وخمسين وستمائة، ونصب في موضع منبر النبي صلى الله عليه وسلم رمانتاه من الصندل، ولم يزل إلى سنة ست وستين وستمائة عشر سنين يخطب عليه، ثم إن الملك الظاهر أرسل هذا المنبر الموجود اليوم فحمل منبر صاحب اليمن إلى حاصل الحرم وهو باق فيه ونصب هذا مكانه، وطوله أربعة أذرع، ومن رأسه إلى عتبته سبعة أذرع يزيد قليلاً، وعدد درجاته سبع بالمقعد، والمنقول أن ما بين المنبر ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ذراعاً.
وأما الروضة الشريفة فتقدم في باب الفضائل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ". وتقدم معنى الحديث. وفي حديث آخر: " ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة ". وفي رواية: " ما بين بيتي ومنبري ".
قال القاضي عياض: قال الطبري: فيه معنيان؛ أحدهما: أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه روى ما يبينه " ما بين حجرتي ومنبري ". والثاني: أن البيت هاهنا القبر، وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث، كما روى " ما بين قبري ومنبري " قال الطبري: وإذا كان قبره في بيته اتفقت معاني الروايات ولم يكن بينها خلاف؛ لأن قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته وهو بيته.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
وروى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس وراء بيت عليّ رضي الله عنه ثم يصلي صلاة الليل، قال: وذلك موضع الاسطوان الذي مما يلي الدويرة على طريق النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن سعيد بن عبد الله بن فضل قال: مر بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الاسطوانة هل جاءك فيها أثر ، قلت: لا. قال: فالزمها فإنها كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، ثم قال: قلت: هذه الاسطوانة ، قال: نعم.
قال الشيخ جمال الدين: وهذه الاسطوانة خلف بيت فاطمة رضي الله عنها فالواقف المصلى إليها يكون باب جبريل المعروف قديماً بباب عثمان على يساره، وحول الدرابزين الدابر على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كتب فيها بالرخام هذا متهجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ محب الدين: وبيت فاطمة رضي الله عنها من جهة الشمال، وفيه محراب إذا توجه المصلي إليه كانت يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه.
ذكر قصة الجذع
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسنداً ظهره إليها فلما كثر الناس قالوا: ابنوا له منبراً، فبنوا له منبراً له عتبتان فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. وعن جابر بن عبد الله كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار. وفي رواية أنس حتى ارتج المنبر لخواره، روى بجواره بالجيم، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به، وفي رواية المطلب: حتى تصدع وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت، زاد غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا بكى لما فقد من الذكر "، وزاد غيره: " والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر. كذا في حديث المطلب، وسهل بن سعد، وإسحاق عن أنس، وفي بعض الروايات جعل في السقف. قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلى إليه فلما هدم المسجد أخذه أبيّ وكان عنده إلى أن أكلته الأرض.
وعن الإسفرائيني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يهرق الأرض، فالتزمه ثم أمره فعاد إلى مكانه. وفي حديث أبي بريدة قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: " إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك، ويكمل لك خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك ". ثم أصغى له النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول فقال: بل تغرسني في الجنة يأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا ابلى فيه فسمعه من يليه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد فعلت ". ثم قال: " اختار دار البقاء على دار الفناء ". قالت عائشة رضي الله عنها: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غار الجذع فذهب. وقصة الجذع نظير إحياء الموتى لعيسى عليه السلام وأكبر.
وقال ابن أبي الزناد: ولم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع، فمنهم من قال: أخذه أبيّ بن كعب، ومنهم من قال: دفن في موضعه. قال الحافظ محب الدين: وكان الجذع في موضع الاسطوانة المحلقة عن يمين المحراب محراب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصندوق.
قال الشيخ جمال الدين: إنه كان لاصقاً بجدار المسجد القبلي في موضع كرسي الشمعة اليمنى التي عن يمين المصلى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والاسطوانة التي قبل الكرسي متقدمة عن موضع الجذع، فلا يعتمد على قول من جعلها موضع الجذع، وفي الاسطوانة خشبة ظاهرة مثبتة بالرصاص بموضع كان في حجر من حجارة الاسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة تقول العامة هذا الجذع، وليس كذلك بل هو من جملة البدع التي يجب إزالتها؛ لئلا يفتتن بها كما أزيلت الجذعة التي في المحراب القبلي، فإن الشيخ أبا حامد رحمه الله ذكر مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حققه بقوله: إذا وقف المصلي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم اكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن، ويجعل الجذعة التي في القبلة بين يدي عينيه، فيكون واقفاً في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ جمال الدين: وذلك قبل احتراق المسجد الشريف، وقبل أن يجعل هذا اللوح القائم في قبلة مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جعل بعد حريق المسجد وكان يحصل بتلك الجذعة تشويش كثير، وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه خرزة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عالية فيتعلق النساء والرجال إليها، فلما كانت سنة إحدى وسبعمائة جاور الصاحب زين أحمد بن محمد بن علي المعروف بابن حنا فأمر بقلعها فقلعت، وهي اليوم في حاصل الحرم الشريف ثم توجه إلى مكة في أثناء السنة فرأى أيضاً ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام من الرجال والنساء لاستمساك العروة الوثقى في زعمهم فأمر بقلع ذلك المثال أيضاً، والحمد لله، وأما العود الذي في الاسطوانة التي عن يمين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الجذع المتقدم ذكره. فقال الحافظ محب الدين: روى عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلم نقدر على أحد يذكر لنا فيه شيئاً حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك فقال: تدري لم صنع هذا العود ، ولم اسأله فقلت: ما أدري. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول: " استووا وعدلوا صفوفكم ". فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سرق العود فطلبه أبو بكر فلم يجده، ثم وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء قد دفنه في الأرض فأكلته الأرض، فأخذ له عوداً فشقه وأدخله فيه ثم شعبه ورده إلى الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باق.
قال مسلم بن حيان: كان ذلك العود من طرفاء الغابة. وقيل: بل كان من الجذع المذكور.
قال المرجاني: قلت والله أعلم : إن هذا الجذع الذي ذكره ابن النجار إنه في القبلة باق إلى اليوم، لعله الذي قاس به الشيخ أبو حامد وقلعه ابن حنا. قال الشيخ جمال الدين: وكان ذلك قبل حريق المسجد الشريف.
ذكر منبر النبي صلى الله عليه وسلم وروضته الشريفة
عن أبي حازم أن نفراً جاءوا إلى سهل بن سعد وقد تماروا في المنبر من أي عود هو? فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه. فقلت له: فحدثنا فقال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة " انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أحكم للناس عليها " فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع، وهي من طرفاء الغابة والطرفاء شجر يشبه الأثل إلا أن الأثل أعظم منه.
وعن جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً. فقال: إن شئت. فعمل له المنبر. وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك. قال: بلى. قال: فاتخذ له منبراً مرقاتين. وعن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب في يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال: إن القيام قد يشق علي وشكا ضعفاً في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام. قال: فلما اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذوا الرأي من أصحابه على اتخاذه، قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاماً يقال له فلان أعمل الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " فمره يعمل "، فأرسل إلى اثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلساً، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضعه اليوم ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس وقام بعضهم على رجليه، وأقبل رسول الله حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنبر فقام عليه. وقد روي أن هذا الغلام الذي صنع المنبر اسمه مينا بياء ساكنة مثناة من أسفل بعدها نون. وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي: وذلك في السنة الثامنة من الهجرة اتخذه درجتين ومقعدة. قال ابن أبي الزناد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله عنه قام على الدرجة السفلى كما فعل ابو بكر رضي الله عنه ست سنين، ثم علا فجلس موضع النبي صلى الله عليه وسلم وكسا المنبر قبطية.
ذكر الشيخ محب الدين عن محمد بن الحسن بن زبالة قال: كان طول المنبر منبر النبي صلى الله عليه وسلم الأول في السماء ذراعين وشبراً وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما صلى الله عليه وسلم إذا جلس يخطب شبر وأصبعان، وعرضه ذراع في ذراع وتربيعه سواء، وعدد درجه ثلاث بالمقعد، وفيه خمسة أعواد في جوانبه الثلاث قال الشيخ جمال الدين: هذا ما كان عليه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما حج معاوية رضي الله عنه في خلافته كساه قبطية ثم كتب إلى مروان بن عبد الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر عن الأرض، فدعا له النجارين ورفعوه عن الأرض وزادوا من أسفله ست درجات، وصار المنبر بسبع درجات بالمجلس. قال ابن زبالة: لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده. وقال الشيخ جمال الدين: هذا في زمان محمد بن زبالة، وروى أيضاً عن ابن زبالة أن طول منبر النبي صلى الله عليه وسلم بما زيد فيه أربعة أذرع ومن أسفله عتبة، وذكر ابن زبالة أيضاً أن المهدي بن المنصور لما حج سنة إحدى وستين ومائة قال للإمام مالك بن أنس رحمه الله: أريد أن أعيد منبر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله الأول، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد شد إلى هذه العيدان وسمر فهي ببركته حفت أن تتهافت فلا أرى تغييره، فتركه المهدي على حاله، قيل: إن المهدي فرق في هذه الحجة ثلاثين ألف درهم ومائة ألف وخمسين ألف ثوب، وحمل إليه الثلج من بغداد إلى مكة وكسا البيت ثلاث كساوي بيضاء وحمراء وسوداء توفي بماء سندان بموضع يقال له الرد، في المحرم سنة تسع وستين ومائة. قال الشيخ جمال الدين: وذكر لي يعقوب بن أبي بكر بن أوحد من أولاد المجاورين بالمدينة الشريفة وكان أبوه أبو بكر فراشاً من قوام المسجد الشريف، وهو الذي كان حريق المسجد على يديه واحترق هو أيضاً في حاصل الحرم، إن هذا المنبر الذي زاده معاوية ورفع منبر النبي صلى الله عليه وسلم وجد قد تهافت على طول الزمان وإن بعض خلفاء بني العباس جدده واتخذوا من بقايا أعواد منبر النبي صلى الله عليه وسلم أمشاطاً للتبرك بها، والمنبر الذي ذكره ابن النجار هو المذكور أولاً فإنه قال في تاريخه: وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاثة أصابع، والدكة التي هو عليها من رخام طولها شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة. قال الشيخ جمال الدين: فدل ذلك على أن المنبر الذي احترق غير المنبر الأول الذي عمله معاوية ورفع منبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقه. قال الفقيه يعقوب بن أبي بكر: سمعت ذلك ممن أدركت بأن بعض الخلفاء جدد المنبر واتخذ من بقايا أعواده أمشاطاً، وإن المنبر المحترق هو الذي جدده الخليفة المذكور، وهو الذي أدركه الشيخ محب الدين قبل احتراق المسجد الشريف، فإن الحافظ محب الدين كتب التاريخ في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان احتراق المسجد ليلة الجمعة أول رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة كما سيأتي.
قال الشيخ جمال الدين: ثم إن الملك المظفر عمل منبراً وأرسله في سنة ست وخمسين وستمائة، ونصب في موضع منبر النبي صلى الله عليه وسلم رمانتاه من الصندل، ولم يزل إلى سنة ست وستين وستمائة عشر سنين يخطب عليه، ثم إن الملك الظاهر أرسل هذا المنبر الموجود اليوم فحمل منبر صاحب اليمن إلى حاصل الحرم وهو باق فيه ونصب هذا مكانه، وطوله أربعة أذرع، ومن رأسه إلى عتبته سبعة أذرع يزيد قليلاً، وعدد درجاته سبع بالمقعد، والمنقول أن ما بين المنبر ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ذراعاً.
وأما الروضة الشريفة فتقدم في باب الفضائل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ". وتقدم معنى الحديث. وفي حديث آخر: " ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة ". وفي رواية: " ما بين بيتي ومنبري ".
قال القاضي عياض: قال الطبري: فيه معنيان؛ أحدهما: أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه روى ما يبينه " ما بين حجرتي ومنبري ". والثاني: أن البيت هاهنا القبر، وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث، كما روى " ما بين قبري ومنبري " قال الطبري: وإذا كان قبره في بيته اتفقت معاني الروايات ولم يكن بينها خلاف؛ لأن قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته وهو بيته.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء