بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
تابع : الحديث الأول
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه البخاري ومسلم
فصل
وأما النية بالمعنى الذي ذكره الفقهاء وهو تمييز العبادات وتمييز العبادات بعضها من بعض فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارة حمية وتارة لعدم القدرة على الأكل وتارة تركا للشهوات لله عز وجل فيحتاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه وكذلك العبادات كالصلاة والصيام منها فرض ومنها نفل والفرض يتنوع أنواعا فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات في كل يوم وليلة والصيام الواجب تارة يكون صيام رمضان وتارة يكون كفارة أو عن نذر ولا يتميز هذا كله إلا بالنية وكذلك الصدقة تكون نفلا وتكون فرضا والفرض منه زكاة ومنه كفارة ولا يتميز ذلك إلا بالنية فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم وإنما لكل امريء مانوى وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء فإن منهم من لا يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت وإن لم يستحضر تسميته في الحال وهي رواية عن الإمام أحمد وينبني على هذا القول أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ونسي عينها أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات الفجر والمغرب ورباعية واحدة وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية معينة أيضا بل يجزى نية الصيام مطلقا لأن وقته غير قابل لصيام آخر وهو أيضا رواية عن الإمام أحمد وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية لتعيينه بنفسه فهو كرد الودائع وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزي بنية الصدقة المطلقة كالحج وكذلك قال أبو حنيفة لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يلبي بالحج عن رجل فقال له أحججت عن نفسك قال لا قال هذه عن نفسك ثم حج عن الرجل وقد تكلم في صحة هذا الحديث ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره وأخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا سواء نوى التطوع أو غيره ولا يشترط للحج تعيين النية فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه وكذلك لو حج عن نذر أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنها تنقلب عنها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعدما دخلوا معه وطافوا وسعوا أن يفسخوا حجهم ويجعلوه عمرة وكان منهم القارن والمفرد وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم وليس بفرض وقد أمرهم أن يجعلوه طواف عمرة وهو فرض وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج وعمل به وهو مشكل على أصله فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام تبعا لانقلاب الإحرام من أصله ووقوعه عن فرضه بخلاف ما إذا طاف للزيارة بنية الوداع أو التطوع فإن هذا لا يجزيه إلا أن ينوي به الفرض ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه والله أعلم ومما يدخل في هذا الباب أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة فأخذها ممن هي عنده فعلم بذلك أبوه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما إياك أردت فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدق لك ما نويت وقال للآخذ لك ما أخذت خرجه البخاري وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث وعمل به في المنصوص عنه وإن كان أكثر أصحابه على خلافه فإن الرجل إنما منع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن تكون محاباة فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرا وكان غنيا في نفس الأمر أجزأته على الصحيح لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه والفقر أمر خفي لا يكاد يطلع عل حقيقته وأما الطهارة فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية وهذا قول جمهور العلماء ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب عليه تكفير الذنوب والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق فلا يكون مأمورا به ولا تصح به الصلاة ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة ماورد في الوضوء من الثواب ولو شرك بين نية الوضوء وبين قصد التبرد أو إزالة النجاسة أو الوسخ أجزأه في المنصوص عن الشافعي وهذا قول أكثر أصحاب أحمد لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس وكذلك الحج كما قال خذوا عني مناسككم ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم مسائل الأيمان فلغوا اليمين لا كفارة فيه وهو ماجرى على اللسان من غير قصد بالقلب ألبتة كقوله لا والله وبلى والله في أثناء الكلام قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية وكذلك يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وما قصد بيمينه فإن حلف بالطلاق أو عتاق ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه فإنه يدين فيما بينه وبين الله عز وجل وهل يقبل منه في ظاهر الحكم فيه قولان للعلماء مشهوران وهما روايتان عن أحمد وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته شبهني قال كأنك ظبية كأنك حمامة فقالت لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق فقال ذلك فقال عمر خذ بيدها فهي امرأتك خرجه أبو عبيد وقال أراد الناقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها ويحل عنها فهي خلية من العقال وهي طالق لأنها قد انطلقت منه فأراد الرجل ذلك فأسقط عنه عمر الطلاق لنيته قال وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق والعتاق وهو ينوي غيره إن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل في الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه ويروي عن السميط السدسي وقال خطبت امرأة فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقلت إنى طلقتها ثلاثا فزوجوني ثم نظروا فإذا امرأتي عندي فقالوا أليس قد طلقتها ثلاثا فقلت كان عندي فلانة فطلقتها وفلانة فطلقتها فأما هذه فلم أطلقها فأتيت شقيق بن ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدا فقلت له سل أمير المؤمنين عن هذه فخرج فسأله فذكر ذلك لعثمان فجعلها له فقال بنيته خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق وحكي إجماع العلماء على مثل ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد حديث السميط تعرفه قال نعم السدسي وإنما جعل نيته بذلك وقال إسحق فإن كان الحالف ظالما ونوى خلاف ما حلفه عليه غريمه لم تنفعه نيته وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك وفي رواية له اليمين على نية المستحلفوهو محمول على الظالم فأما المظلوم فينفعه ذلك وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج الناس أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فخلي سبيله وأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فقال صدقت المسلم أخو المسلم وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق أو العتاق فلا بد له من النية وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا فيه خلاف مشهور بين العلماء وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن كما لو نواه أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط فيه خلاف أيضا مشهور ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة كالبتة ونحوها فهل يقع به الثلاث أو واحدة فيه قولان مشهوران فظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية فإن نوى به مادون الثلاث وقع به ما نواه وحكي عنه رواية أخرى أنه يلزمه الثلاث أيضا ولو رأى امرأة يظنها امرأته فطلقها ثم بانت أجنبية طلقت امرأته لأنه إنما قصد طلاق امرأته نص على ذلك أحمد وحكي عنه رواية أخرى أنها لا تطلق وهو قول الشافعي ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة ظنها أجنبية فطلقها فبانت امرأته فهل تطلق فيه قولان وهما روايتان عن أحمد والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها لا تطلق ولو كان له امرأتان فنهى إحداهما عن الخروج ثم رأى امرأة قد خرجت فظنها المنهية فقال لها فلانة خرجت أنت طالق فقد اختلف العلماء فيها فقال الحسن تطلق المنهية لأنها هي التي نواها وقال إبراهيم يطلقها وقال عطاء لا تطلق واحدة منها وقال أحمد إنها تطلق المنهية رواية واحدة لأنه نوى طلاقها وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق هل تطلق في الحكم فقط أم في الباطن أيضا على طريقتين لهم وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء مانوى على أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا بالبيع وإنما لكل امريء مانوى ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدا وفيما ذكرنا كفاية وقد تقدم عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث إنه يدخل في سبعين بابا من الفقه والله أعلم والنية هي قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة وغلط المحققون منهم واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها فمنهم من استحبه ومنهم من كرهه ولا نعلم في هذه المسائل نقلا خاصا عن السلف ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده فإن مجاهدا قال إذا أراد الحج يسمي ما يهل به وروى عنه أنه قال يسميه في التلبية وهذا ليس مما نحن فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته فيقول لبيك عمرة وحجة وإنما كلامنا أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام اللهم إنى أريد الحج والعمرة كما استحب ذلك كثير من الفقهاء وكلام مجاهد ليس صريحا في ذلك وقال أكثر السلف منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي تجزيه النية عند الإهلال وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له أتعلم الناس أو ليس الله يعلم ما في نفسك ونص مالك على مثل هذا وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به حكاه صاحب كتاب تهذيب المدونة من أصحابه وقال أبو داود فقلت لأحمد أتقول قبل التكبير يعني في الصلاة شيئا قال لا وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية والله سبحانه وتعالى أعلم.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول
صلى الله عليه وسلم
فصل
وأما النية بالمعنى الذي ذكره الفقهاء وهو تمييز العبادات وتمييز العبادات بعضها من بعض فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارة حمية وتارة لعدم القدرة على الأكل وتارة تركا للشهوات لله عز وجل فيحتاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه وكذلك العبادات كالصلاة والصيام منها فرض ومنها نفل والفرض يتنوع أنواعا فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات في كل يوم وليلة والصيام الواجب تارة يكون صيام رمضان وتارة يكون كفارة أو عن نذر ولا يتميز هذا كله إلا بالنية وكذلك الصدقة تكون نفلا وتكون فرضا والفرض منه زكاة ومنه كفارة ولا يتميز ذلك إلا بالنية فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم وإنما لكل امريء مانوى وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء فإن منهم من لا يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت وإن لم يستحضر تسميته في الحال وهي رواية عن الإمام أحمد وينبني على هذا القول أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ونسي عينها أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات الفجر والمغرب ورباعية واحدة وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية معينة أيضا بل يجزى نية الصيام مطلقا لأن وقته غير قابل لصيام آخر وهو أيضا رواية عن الإمام أحمد وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية لتعيينه بنفسه فهو كرد الودائع وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزي بنية الصدقة المطلقة كالحج وكذلك قال أبو حنيفة لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يلبي بالحج عن رجل فقال له أحججت عن نفسك قال لا قال هذه عن نفسك ثم حج عن الرجل وقد تكلم في صحة هذا الحديث ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره وأخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا سواء نوى التطوع أو غيره ولا يشترط للحج تعيين النية فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه وكذلك لو حج عن نذر أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنها تنقلب عنها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعدما دخلوا معه وطافوا وسعوا أن يفسخوا حجهم ويجعلوه عمرة وكان منهم القارن والمفرد وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم وليس بفرض وقد أمرهم أن يجعلوه طواف عمرة وهو فرض وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج وعمل به وهو مشكل على أصله فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام تبعا لانقلاب الإحرام من أصله ووقوعه عن فرضه بخلاف ما إذا طاف للزيارة بنية الوداع أو التطوع فإن هذا لا يجزيه إلا أن ينوي به الفرض ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه والله أعلم ومما يدخل في هذا الباب أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة فأخذها ممن هي عنده فعلم بذلك أبوه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما إياك أردت فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدق لك ما نويت وقال للآخذ لك ما أخذت خرجه البخاري وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث وعمل به في المنصوص عنه وإن كان أكثر أصحابه على خلافه فإن الرجل إنما منع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن تكون محاباة فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرا وكان غنيا في نفس الأمر أجزأته على الصحيح لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه والفقر أمر خفي لا يكاد يطلع عل حقيقته وأما الطهارة فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية وهذا قول جمهور العلماء ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا وأن من توضأ كما أمر كان كفارة لذنوبه وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها حيث رتب عليه تكفير الذنوب والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق فلا يكون مأمورا به ولا تصح به الصلاة ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة ماورد في الوضوء من الثواب ولو شرك بين نية الوضوء وبين قصد التبرد أو إزالة النجاسة أو الوسخ أجزأه في المنصوص عن الشافعي وهذا قول أكثر أصحاب أحمد لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس وكذلك الحج كما قال خذوا عني مناسككم ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم مسائل الأيمان فلغوا اليمين لا كفارة فيه وهو ماجرى على اللسان من غير قصد بالقلب ألبتة كقوله لا والله وبلى والله في أثناء الكلام قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية وكذلك يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وما قصد بيمينه فإن حلف بالطلاق أو عتاق ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه فإنه يدين فيما بينه وبين الله عز وجل وهل يقبل منه في ظاهر الحكم فيه قولان للعلماء مشهوران وهما روايتان عن أحمد وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته شبهني قال كأنك ظبية كأنك حمامة فقالت لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق فقال ذلك فقال عمر خذ بيدها فهي امرأتك خرجه أبو عبيد وقال أراد الناقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها ويحل عنها فهي خلية من العقال وهي طالق لأنها قد انطلقت منه فأراد الرجل ذلك فأسقط عنه عمر الطلاق لنيته قال وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق والعتاق وهو ينوي غيره إن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل في الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه ويروي عن السميط السدسي وقال خطبت امرأة فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقلت إنى طلقتها ثلاثا فزوجوني ثم نظروا فإذا امرأتي عندي فقالوا أليس قد طلقتها ثلاثا فقلت كان عندي فلانة فطلقتها وفلانة فطلقتها فأما هذه فلم أطلقها فأتيت شقيق بن ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدا فقلت له سل أمير المؤمنين عن هذه فخرج فسأله فذكر ذلك لعثمان فجعلها له فقال بنيته خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق وحكي إجماع العلماء على مثل ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد حديث السميط تعرفه قال نعم السدسي وإنما جعل نيته بذلك وقال إسحق فإن كان الحالف ظالما ونوى خلاف ما حلفه عليه غريمه لم تنفعه نيته وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك وفي رواية له اليمين على نية المستحلفوهو محمول على الظالم فأما المظلوم فينفعه ذلك وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج الناس أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فخلي سبيله وأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا فحلفت أنا أنه أخي فقال صدقت المسلم أخو المسلم وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق أو العتاق فلا بد له من النية وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا فيه خلاف مشهور بين العلماء وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن كما لو نواه أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط فيه خلاف أيضا مشهور ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة كالبتة ونحوها فهل يقع به الثلاث أو واحدة فيه قولان مشهوران فظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية فإن نوى به مادون الثلاث وقع به ما نواه وحكي عنه رواية أخرى أنه يلزمه الثلاث أيضا ولو رأى امرأة يظنها امرأته فطلقها ثم بانت أجنبية طلقت امرأته لأنه إنما قصد طلاق امرأته نص على ذلك أحمد وحكي عنه رواية أخرى أنها لا تطلق وهو قول الشافعي ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة ظنها أجنبية فطلقها فبانت امرأته فهل تطلق فيه قولان وهما روايتان عن أحمد والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها لا تطلق ولو كان له امرأتان فنهى إحداهما عن الخروج ثم رأى امرأة قد خرجت فظنها المنهية فقال لها فلانة خرجت أنت طالق فقد اختلف العلماء فيها فقال الحسن تطلق المنهية لأنها هي التي نواها وقال إبراهيم يطلقها وقال عطاء لا تطلق واحدة منها وقال أحمد إنها تطلق المنهية رواية واحدة لأنه نوى طلاقها وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق هل تطلق في الحكم فقط أم في الباطن أيضا على طريقتين لهم وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء مانوى على أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا بالبيع وإنما لكل امريء مانوى ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدا وفيما ذكرنا كفاية وقد تقدم عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث إنه يدخل في سبعين بابا من الفقه والله أعلم والنية هي قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة وغلط المحققون منهم واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها فمنهم من استحبه ومنهم من كرهه ولا نعلم في هذه المسائل نقلا خاصا عن السلف ولا عن الأئمة إلا في الحج وحده فإن مجاهدا قال إذا أراد الحج يسمي ما يهل به وروى عنه أنه قال يسميه في التلبية وهذا ليس مما نحن فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته فيقول لبيك عمرة وحجة وإنما كلامنا أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام اللهم إنى أريد الحج والعمرة كما استحب ذلك كثير من الفقهاء وكلام مجاهد ليس صريحا في ذلك وقال أكثر السلف منهم عطاء وطاوس والقاسم بن محمد والنخعي تجزيه النية عند الإهلال وصح عن ابن عمر أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له أتعلم الناس أو ليس الله يعلم ما في نفسك ونص مالك على مثل هذا وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به حكاه صاحب كتاب تهذيب المدونة من أصحابه وقال أبو داود فقلت لأحمد أتقول قبل التكبير يعني في الصلاة شيئا قال لا وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية والله سبحانه وتعالى أعلم.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول
صلى الله عليه وسلم