من طرف اسرة التحرير الجمعة مارس 07, 2014 12:59 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله تعالى:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد". نزلت هذه الآية الكريمة في صهيب الرومي رضي الله عنه، حينما تخلى للمشركين في مكة عن كل مايملك مقابل أن يخلون سبيله ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، احتجزوه ومنعوه من الهجرة وقال قائلهم ياصهيب جئتنا صعلوكاً لاتملك شيئاً، وأنت اليوم ذو مال كثير! - يساومونه- فقال لهم رضي الله عنه: أرأيتم إن دللتكم على مالي هل تخلون سبيلي؟ قالوا : نعم . فدلهم على ماله بمكة ثم انطلق مهاجراً في سبيل الله لايلوي علىشيء تاركاً كل مايملك خلف ظهره وهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما وصل المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليه الصلاة والسلام مهنيئاً له على حسن صنيعه: "ربح البيع أبا يحيى ربح البيع " فلله در صهيب شرى نفسه طلباً لرضوان الله تعالى. هكذا تكون التضحية وإلا فلا ! هذا صهيب وهذا فعله الذي غدا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة فماذا قدمت أنا؟ وماذا قدمت أنت أخي الحبيب طلباً لمرضات الله؟ ماذا قدمنا من أموالنا في سبيل الله ؟ ماذا قدمنا من أوقاتنا في سبيل الله؟ هل تنازلنا عن شيء ولو يسيرمن شهواتنا وملذاتنا من أجل الله؟ بل كم قد تنازلنا عن إيماننا من أجل دنيانا ؟ أنرقع دنيانا بتمزيق ديننا؟! كيف لوخيرنا بين أموالنا وبين ديننا؟ أو بين أهلينا وبين إيماننا؟
اللهم سترك ياستير ، اللهم لاتفضحنا؟ ولا تمتحنا في إيماننا وتولنا برحمتك ياأرحم الراحمين. هذا حالنا أيها الأخوة ونحن نرجو الجنة ونطمع في نعيم الآخرة ونطمح إلى الدرجات العلى والمنازل الرفيعة بجوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ولانريد أن نقدم ولو جزءً يسيراً من الثمن. يقول الله تعالى: الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ ] 1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
احذروا أيها المسلمون من هجر كتاب الله عز وجل: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً)) الفرقان:30.
فالحذر الحذر من هجران كتاب الله، فهناك من يهجرون كتاب الله تلاوةً حيث تمضي الأيام والأشهر والأسابيع والسنوات ولا يتلو من كتاب الله شيئاً والعياذ بالله، وهناك من يهجرون كتاب الله فهماً وتدبراً، وهناك من يهجرون كتاب الله تطبيقاً وحكماً وسياسة واقتصاداً وقضاءً، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.
إيها المسلمون
سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع قول الله عز وجل في: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ))
الاية فيها أمر للمسلمين ونداء لهم: ((ايأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ)) البقرة:153 الله عز وجل يأمرنا نحن المسلمين خاصة نحن الذين نعيش في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ونعاني ما نعاني؛ ما أحوجنا أن نتدبر كلام الله عز وجل ونستعين بتوجيهاته بالصبر والصلاة، الصبر الذي له أثر كبير في نفوس ومسيرة حياة المؤمنين، فضلاً عن الأجر العظيم الذي يناله المسلم من الله عز وجل حيث يقول الباري سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) الزمر:10، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر: ((عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء – أي مصيبة في نفسه في ولده، ماله، في بيته، في دمه – صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء – أي نعمة – شكر)) أي على كلتا الحالتين المسلم مُثاب ومأجور من عند الله تبارك وتعالى.
اللهم اجعلنا من الصابرين ولا تجعلنا من القانطين ولا من اليائسين يا رب العالمين.
ولا بد من الصبر على الطاعات , والصبر عن المعاصي , والصبر على جهاد المشاقين لله , والصبر على الكيد بشتى صنوفه , والصبر على بطء النصر , والصبر على بعد الشقة , والصبر على انتفاش الباطل , والصبر على قلة الناصر , والصبر على طول الطريق الشائك , والصبر على التواء النفوس , وضلال القلوب , وثقلة العناد , ومضاضة الاعراض .
وحين يطول الأمد , ويشق الجهد , قد يضعف الصبر , أو ينفد , إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر ; فهي المعين الذي لا ينضب , والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة , والزاد الذي يزود القلب ; فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر , الرضى والبشاشة , والطمأنينة , والثقة , واليقين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ ] 2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها
فعن خباب بن الأرث - رضي الله عنه - قال:شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا:ألا تستنصر لنا ? ألا تدعو لنا ? فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض , فيجعل فيها , ثم يؤتى بالمنشار , فيوضع على رأسه فيجعل نصفين , ويمشط بأمشاط الحديد
((ما دون لحمه وعظمه , ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله , والذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون ))
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام , ضربه قومه فأدموه , وهو يمسح الدم عن وجهه , وهو يقول( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
وعن يحيى بن وثاب , عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم)) الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).
أيها المسلمون
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى , يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع , وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود , ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب , ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا , ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة , إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال:" أرحنا بها يا بلال " . . ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
(إن الله مع الصابرين). .
معهم , يؤيدهم , ويثبتهم , ويقويهم , ويؤنسهم , ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم , ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة , وقوتهم الضعيفة , إنما يمدهم حين ينفد زادهم , ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
[ ولا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بل أحياء ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)) البقرة:154
إن الله عز وجل يُبين لنا في هذه الآية الكريمة أن الذي يستشهدون ليسوا أمواتا بل أحياء،
إن هنالك قتلى شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله , والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق , هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم:أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور , ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر , وحسبما ترى العين . . والفكرة التي من أجلها قتلوا هؤلاء ترتوي بدمائهم وتمتد , وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها , وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار , وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به: (أحياء ولكن لا تشعرون). . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى , ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم , ولا يتعاظمها الأمر , ولا يهولنها عظم الفداء .ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله , مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
في صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغون ? فقالوا:يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون )) .
وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا , وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد , ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات , لما يرى من الكرامة )) أخرجه مالك والشيخان
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ? إنهم أولئك الذين يقتلون (في سبيل الله). . في سبيل الله وحده , دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده , لا في أي سبيل آخر , ولا تحت أي شعار آخر , ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث , حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة , ويقاتل حمية , ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . . أخرجه مالك والشيخان .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال:يا رسول الله:رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ? فقال:" لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول:" لا أجر له " . أخرجه أبو داود.
وعنه - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده , ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم , لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم , ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل , ثم اغزو فأقتل , ثم اغزو فأقتل ))أخرجه مالك والشيخان .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله , لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله , وإيمان به , وتصديق برسله .
اللهم اكتب لنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارحم شهداءنا، اللهم تقبل شهداءنا، واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ)) البقرة:155، وذلك الابتلاء والامتحان من الله حتى يميز الخبيث من الطيب، ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ)) البقرة:155، 156.
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءه قبلهم، ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(تفسير الطبري)
ولقد ورد في فضل الصبر أن الله عز وجل إذا أمر ملائكته أن يقبضوا روح العبد المؤمن فتقبض الملائكة روحه ثم يعودون، فيسألهم الله عز وجل - وهو بهم أعلم - أقبضتم روح عبدي فلان؟ فتقول الملائكة: نعم .. ويسألهم الله: ماذا قال عبدي فلان؟ – ماذا كان رد الفعل عند والده عند أقرب الناس إليه؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع – أي إن دأب المسلم أن يقول عندما تصيبه مصيبة: إنا لله و إنا إليه راجعون - فيقول الله عز وجل للملائكة: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
(وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون). .
إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة , وبالتصور الصحيح .
(وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون
وبشر يا محمد الصابرين، الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرّون بعبوديتي، ويوحدونني بالربوبية، ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي، ويقولون عند امتحاني إياهم ببعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها. إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون تسليما لقضائي ورضا بأحكامي.
هؤلاء هم الصابرون . .:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة , وأولئك هم المهتدون). .
صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفا صَالِحا يَرْضَاهُ)).
اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً. اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك. أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
[ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقاءنا اليوم مع أعظم اية في كتاب الله:
مع أية قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم (0من قرأها بعد كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت )
((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم)).البقرة
لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: الله ورسوله أعلم فسأله مرة ثانية، فقال: الله ورسوله أعلم، فحينما سأله الثالثة؟ قال: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدر أبي وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)) هنأه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العلم الذي حواه صدره .. فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم .. بل لقد علم أعظم آية لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله .. فهذه الآية أيها الإخوة مشتملة على عشر جمل مستقلة.
الله لا إله إلا هو
البداية تغرس في قلوبنا أن الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . ومن هذا التصور يستمد المؤمن كل القيم من الله ; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله , ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء(في ضلال القرآن )
وقوله تعالى: ((الله لا إله إلا هو)) إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة ((الحي القيوم)) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره.
الحي القيوم.
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية , فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ لا تأخذه سنة ولا نوم ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
((لا تأخذه سنة ولا نوم)) لا تغلبه سنة وهي النعاس ولهذا قال تعالى: ((ولا نوم)) لأنه أقوى من النعاس.
جاء في الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
((له ما في السموات وما في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
(له ما في السماوات وما في الأرض). .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد , القيوم الواحد , المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله , لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ; فليس لهم أن يخرجوا عنها
((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) كقوله تعالى: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة ... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون))الانبياء
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ?)
إنها صفة أخرى من صفات الله ; توضح مقام لألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ; لا يتعدونه ولا يتجاوزونه , يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ; الذي لا يقدم بين يدي ربه ; ولا يجرؤ على الشفاعة عنده , إلا بعد أن يؤذن له , فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم , ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد .
((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، ((وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً))مريم
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم )
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه , وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة
[ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)) أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: ((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً))الجن
((وسع كرسيه السموات والأرض)) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم.
((ولا يؤوده حفظهما)) أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
((وهو العلي العظيم)) فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل
((وهو العلي العظيم)) وهذه خاتمة الصفات في الآية , تقرر حقيقة , وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو , وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم , ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال: (العلي العظيم)ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو , المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو , ويعظم الإنسان ما يعظم , فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان , فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة الله ومهابته ; وإلى الشعور بجلاله وعظمته ; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك .
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال الله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة و الأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب. قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله والله بصير بالعباد".
في هذه الآية العظيمة مقارنة لطيفة بين متاع زائل وبين نعيم دائم ، بين دنيا فانية وأخرى باقية، إنه امتحان ولكنه مكشوف الأوراق ومحدد النتائج ، أمامك اختياران الأول: متاع الحياة الدنيا والثاني: التقوى (للذين اتقوا). والأمر لايحتاج إلى كثير تفكير فأي عاقل لابد أن يختار الخيار الثاني لأن النتيجة هي: جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله .
أفهذا خير أم متاع زائل وشهوة عابرة ونشوة زائلة؟! ولكن بما أن المسألة بهذا الوضوح فلماذا يفشل كثير من الناس في هذا الإمتحان؟ لابد أن في الأمر سر. والسر هو في أول كلمة في الآية : زين . فمن المزين ولماذا هذا التزين؟ يرى بعض المفسرين أن المزين هو الشيطان وذلك بوسوسته للإنسان وتحسنه الميل لهذه الشهوات، قالوا ويؤيد ذلك قوله تعالى: "وزين لهم الشيطان أعمالهم.." ويرى البعض أن المزين هو الله تعالى وذلك للإمتحان والإبتلاء، ليظهرعبد الشهوة والهوى من عبد الله ويؤيد ذلك قوله تعالى: "إنا جعلنا ماعلى الأرض زينة لهم لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" وكلا القولين له وجه. ومن رحمة الله بنا أنه لم ينهنا عن التمتع بتلك الشهوات بالكلية ولكنه نهانا عن أن نتعلق بها فتشغلنا عن العمل للآخرة ونهانا عن أن نؤثر حبها على حب الله والدار الآخرة فتعمي أبصارنا وتطغينا فنتجاوز حدود الله ونرتكب الآثام من أجلها ونبيع ديننا لتحصيلها.قال تعالى : " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى". ولفتة أخيرة وهي أن في تعداد هذه الشهوات دون غيرها وبالترتيب الوارد في الآية الكريمة لفت نظر لنا وتأكيد على خطر هذه الشهوات المعددة في الآية لنتنبه لها ونحذر منها أشد من غيرها وهي : النساء، والأبناء، والذهب، والفضة، والخيل الأصيلة، والإبل، والبقر، والغنم، والحرث، والزرع. فاللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولامبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ومآلنا. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ إن في خلق السماوات والأرض ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال الله - تعالى-: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.. الآيات))(190) سورة آل عمران.
ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنها ذات مرة في أن تتركه يقوم الليل؛ وقد كانت - رضي الله عنها- تحب قربه والجلوس معه، فتركته - صلى الله عليه وسلم - لقيام الليل، فقام من الليل يصلي ويبكي حتى آذنه بلال بأذان الفجر، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله، فقال له: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها).
فإعمالاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - نقفُ وإياكم مع هذه الآيات الكريمات وقفات تأمل وتفكر لنأخذ الدروس والعبر والفوائد، فمن فوائد هذه الآيات ومناسبة نزولها في الحديث ما يلي:
أن لله - عز وجل - سجلان مفتوحان للنظر والتأمل والتفكير، وكلا السجلين يحملان آيات بينات، وحجج واضحات على وحدانية الصانع، وانفراد الخالق، أول السجلين هوالكون الفسيح، والسماء الواسعة، والأرض المنبسطة، وما بينهما من المخلوقات، وجميعها شاهد على وحدانية الله - تعالى-:
وفي كلِّ شيءٍ له آية تدل على أنه الواحد
وأما السجل الثاني فهو القرآن الكريم، المتضمن لشرعة المكلفين من البشر، ومنهاج العالمين من العباد حتى يستقيم سيرهم مع سير الكون الخاضع لله، والمسبح له.
((وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم))، وفي كلا السجلين وضوح القدرة الإلهية، وإبداع الله في خلقه، وأمره وعظمته القاهرة، وعلمه المحيط.
أن التأمل في خلق السماوات والأرض، وحركة الزمان، وسير عجلة التاريخ؛ زيادة إيمان ويقين، مما جعل الله - عز وجل - يمدح أهله ((بأنهم أولوا الألباب)).
وإن مما نلاحظه أننا وللأسف الشديد أحاطتنا حضارة اليوم من صنعها ما جعلنا نغفل عن آيات الله الكونية، فأصبحنا معلبين في بيوت صماء، وآلات عجماء، وحركة لا حياة فيها، حتى إن معالم الأرض بدأت تختفي من تحتنا، ومناظر الطبيعة تنسحب من حولنا، فلا نشاهد أشجاراً ولا طيوراً، مما له أكبر الأثر على غفلة القلوب، وتجمد الفكر.
قوله تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي تعاقبهما جيئة وذهاباً، وسيرهما السير الحثيث، بحيث يغيران في الإنسان حاله وأحواله، ففي كل واحد منها شأن، حتى يقضي آجل الإنسان في ساعة بل في لحظة من لحظاتها، فكان المتأمل في حركة الزمان من حوله، وغياب الناس عنه، وذهاب الرفقة حيناً فحيناً، وفراق الأحبة تارة بعد تارة، متأمل لحقيقة حياته في ظل ((السماوات والأرض))
3.قوله: ((لأولي الألباب)) هذا ثناء من الله - عز وجل - على الإنسان بأفضل ما فيه من الخلقه ألا وهو العقل؛ لأن العقل وعاء العلم، والعلم دليل إلى الإيمان، فكان العقل وعاء للإيمان أيضاً، ومن كان إيمانه نابع من دون عقل كان في تدينه خلل، وفي منهاجه زلل، فلم يذكر الله معصية ألا وعقب عليها بقوله: ((أفلا يعقلون))، وما أمر سبحانه بخير ومصلحة للعباد إلا وعقب عليها بقوله: ((لعلكم تعقلون)) وذلك في أغلب ما وردت فيه هذه الكلمة من الآيات.
بل لقد عاب أهل النار على أنفسهم عدم العقل (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ))(10- 11) سورة الملك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
[ لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار".
حينما يتسلل الإحباط واليأس إلى نفس المؤمن وهو يرى ماعليه الكفار اليوم من التمكين في الأرض ومايملكونه من القوة والهيمنة ، وعندما يرى جيوشهم وعددهم وعتادهم، ويرى صناعاتهم وتقنيتهم فينتابه شعور بالنقص إزاء ماحققه القوم من رقي وتقدم في عالم الحضارة والمدنية ويصبح متأرجح التفكير في حاضر ماثل للعيان يجسد ضعف أمة الإسلام وهوانها بين الأمم ، تأتي هذه الآية الحكيمة كالبلسم الشافي تعيد إلى نفس المؤمن توازنها وتشعره بالعزة وتضع الأمور في نصابها في بيان حقيقة ومصير أولئك القوم ومآلهم الذين سيصيرون إليه فتتحقق له الطمأنينة ويستشعرعزة الإسلام ونعمة الإيمان التي أمتن الله بها عليه يوم أن جعله مؤمناً بالله موحداً له ومنزهاً له عن الشرك.
إنهم مهما بلغوا من الرقي ومن التطور ومهما ملكوا من الدنيا فإنه ... متاع قليل .. هكذا سماه رب العالمين العليم الخبير .. متاع وقليل أيضا .. نعم إنه متاع إذا ماقورن بنعيم الآخرة الذي سيحرمون منه . هبهم حازوا الدنيا بأكملها جوها وبرها وبحرها وبسطوا نفوذهم على أقطارها وتنعموا بملذاتها وتمتعوا بشهواتها دونما منغصات أو كوارث ، هبهم عمروا فيها مئات السنين ! ثم ماذا بعد ذلك ؟ جهنم وبئس المهاد ! أليس إذن ماكانوا فيه إنما هو مجرد متاع قليل سرعان ماتذهب لذته وتزول شهوته .. لقد خسروا بكفرهم كل شيء ولن يغني عنهم ماهم فيه في الدنيا شيئاً يوم القيامة ، يقول تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين) ويقول تعالى ولو أن للذين ظلموا مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون). أفبعد هذا يغبطهم عاقل على ماهم فيه من التنعم ورغد العيش وماهم فيه من القوة والسيطرة والتمكين رغم مايشوب ذلك كله من المنغصات والمكدرات ؟! وهذا ليس من قبيل الدعوة إلى الركون إلى الكسل والدعة والتخاذل عن السعي للكسب ولعمارة الأرض ولكن القصد منه رفع معنويات المؤمن وتبصيره بحقيقة الأمور وأنه أعز وأكرم عند الله وإن ناله شيء من الذل والهوان والضعف في الحياة الدنيا.
إن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وأن النعيم الحقيقي هو نعيم الجنة والفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة والنجاة من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ثم تُختم الآية الكريمة بما تننشرح له نفوس المؤمنين وتسر أفئدتهم له وتزهدهم بمافي أيدي أعدائهم وتزيدهم شوقاُ إلى ماعند الله والدار الآخرة وتحفزهم على العمل من أجل النعيم الحقيقي في الحياة الحقيقية فيقول تعالى : لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار. رضينا ربنا رضينا .. اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة ولاحياة إلا حياة الآخرة . اللهم إجعلنا من أبناء الآخرة ممن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون وارزقنا اللهم من العمل ماتبلغنا به جنتك ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ماأحييتنا وأجعله الوارث منا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتاب : المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
المؤلف : أمير بن محمد المدري
منتدى ميراث الرسول - البوابة
( صلى الله عليه وسلم )