من طرف اسرة التحرير الخميس فبراير 20, 2014 7:21 am
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
● [ سورة الفلق ] ●
[ الفلق -1 ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :سورة الفلق سورة لم يُر مثلها كما عبر عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي والسورة التي تليها"سورة الناس" فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ أَوْ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ" 1 وحيث مدحها - عليه السلام - بهذه الكلمات؛ فمعنى ذلك أننا أمام كنوز ضخمة، وذخائر حية، وأسلحة قوية، في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها وشدائدها والكائدين فيها، والماكرين، والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجالين، يعني ذلك: أننا أمام أخطار كبيرة تؤثر في مسيرة الحياة، وتنعكس على الإنسان حيث تؤدي هذه الشرور التي ذُكرت في السورة الكريمة إلى الوفاة في بعض الأحيان، والجنون وفقدان الذاكرة وحالات صرع في أحيانٍ أخرى، فهي وأختها(سورة الناس) آيات بينات تذكر الداء والدواء.. وكان - عليه الصلاة والسلام - يوليهما عناية خاصة؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" 2 "هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى- لنبيه - عليه السلام - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام.. "3
والملاحظ المتأمل والمتمعن في السورة الكريمة يجد أنها تعالج شروراً خفية غير ظاهرة، وتأثيراتها تظهر على المصاب دون أن تعرف من قام بها في كثير من الأحيان، وقد تتشاجر مع أحد الناس-لا سمح الله-فتراه ويراك، وتشتكيه إلى المحاكم، ويؤتى بالشهود، أما في هذه الشرور المذكورة فلا يرى الفاعل إلاّ الله - تعالى -، أو إذا أخبر صاحبها بارتكاب جريمته، وقليلاً جداً ما يحدث ذلك، ولذلك جاء الأمر الرباني يخص هذه الشرور بالذكر من بين كثرة هائلة من الأخطار والآفات المحدقة بالإنسان، وجاء الأمر الرباني كذلك بطلب الغوث والمعونة والاستجارة والاستعاذة بالله - سبحانه -، من كل الشرور بشكل عام، ومن هذه الشرور المذكورة بشكل خاص..وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله.
[ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ] -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :لا بد من الصراحة في إعلان الحقيقة الكبرى، وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف، مفتقر إلى الله - سبحانه - في كل أحواله يقول خالقنا - سبحانه -: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "{فاطر: 15}، ولذلك دفعه خوفه من الأشياء، وخشيته من الأخطار، إلى التعوذ والاستعانة بالجن، والسحر، والأصنام، والأنداد والشركاء، ويظن أنّ هذه الأشياء قادرة على حمايته، وتوفير الأمن والطمأنينة له، وهو واهم في ذلك؛ "يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"{الحج: 73}، والحقيقة الكبرى التي طلبها رب الفلق من نبيه - عليه السلام - أن يعلنها على الملأ ويقولها بملء فيه أنه: إذا كنتم أيها الناس، أيها الكفار، أيها المشركون، يا ضعاف الإيمان، تستعيذون بالشركاء و بالأنداد، وبالسحرة و الكهنة و الجن وما أشبه، فإنني" أعوذ برب الفلق" والاستعاذة معناها: كما جاء في لسان العرب: "عاذ به يَعُوذُ عَوْذاً وعِياذاً ومَعاذاً: لاذ به ولجأَ إِليه واعتصم. يقال: عَوَّذْت فلاناً بالله وأَسمائه وبالمُعَوِّذتين إِذا قلت أُعِيذك بالله وأَسمائه من كل ذي شر وكل داء وحاسد وحَيْنٍ". "فالاستعاذة حالة نفسية، قوامها الخشية من الخطر، و الثقة بمن يستعاذ به، و هي إلى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به، و هي - فوق ذلك - الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر، و إنقاذ الإنسان.
أما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا، فمن قائل: أنه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره. إلى قائل: بأنه الصبح، أو الخلق، أو ما اطمأن من الأرض، أو الجبال و الصخور. قال ابن جرير: "والصواب القول الأول إنه فلق الصبح وهذا هو الصحيح وهو اختيار البخاري في صحيحه - رحمه الله - تعالى -" قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ أن انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ من شر ما خلق ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"من شر ما خلق": " أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها! " 8 و " قال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ"9 ولقد" زود الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير، و يحاذر جانب الشر من نفسه و من الخلق المحيط به، و الإنسان بدوره مزود بالوحي و العقل و الغريزة لكي يتجنب الشر و الاستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور"10
ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - يستعيذ من أشياء كثيرة، نذكر منها مثلاً: ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَال: "َ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ " 11وكذلك ما رواه عَمْرَو الْأَوْدِيَّ قَال: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَة، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْن، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ " 12
وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يلتجئون و يعتصمون ويستجيرون بالله من أنواع الشرور المختلفة؛ فهذا إبراهيم - عليه السلام - يطلب من ربه أن يبعده وأبنائه من شر عبادة الأصنام، التي أضلت الكثير من البشر"وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ" {إبراهيم: 35}وهذا يوسف - عليه السلام - يلتجئ إلى الله من شر مكر النساء اللواتي أردن به الكيد والوقوع فيما يسخط الخالق" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ" {يوسف: 33} وهذا يعقوب - عليه السلام - لما حصل ليوسف وأخيه ما حصل، وثق بأن الله - سبحانه - سيحفظهما من الشرور والمكائد فقال: " فالله خير حافظاً" {يوسف: 64}وهذا نبي الله موسى - عليه السلام -: يستعيذ بالله خالقه وخالق قومه من أن يمسه قومه بسوء سواء بالقول أو الفعل"وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي" {الدخان: 20}
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ غاسق إذا وقب ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قالوا: "الغسق: شدة الظلام، و الغاسق: هو الليل أو من يتحرك في جوفه، والوقب: الدخول، قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، والحسن، وقتادة، أنه الليل إذا أقبل بظلامه"13 والمقصود هنا - غالبا هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب! "14
نعم، "يهبط الليل بظلامه و وسواسه و طوارقه، و يتحرك في جنحه الهوام و بعض الوحوش، و ينشط المجرمون و الكائدون، و يستولي المرض و الهم على البعض، و تشتد الغرائز و الشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية، و يحتاج الإنسان إلى مضاء عزيمة و ثقة، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره، و هكذا يستعيذ بالله منه"15 قال الرازي: "وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث"16 ولهذا نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - المسلم أن يمشي في الليل وحده: فعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الْوِحْدَةِ؛ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ يَعْنِي وَحْدَه ُ" 17 ولهذا أيضاً كان من توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألا يسافر المرء وحده، بل مع ركب أقله ثلاثة. "الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب" 18
ولعل القارئ الكريم يلاحظ ما الذي يحصل حينما ينطفئ التيار الكهربائي ليلاً في مدينة من مدن العالم الكبيرة؛ من سلب ونهب وسرقات واغتصاب وشرور مختلفة ومتنوعة، ولا ملجأ ولا منجا من ذلك إلا الله - سبحانه -، والاستجارة به وطلب الغوث منه.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ النفاثات في العقد ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
والنفاثات: "السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء! والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ; ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. " سيد قطب، مرجع سابق، ص4007
وقد شنّ الإسلام على السحر حرباً ضروساً لا هوادة فيها، يقول - تعالى - فيمن يتعلمون السحر: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم"{البقرة: 102}. وقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - السحر من كبائر الذنوب الموبقات، التي تهلك الأمم قبل الأفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل الآخرة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ. "
"وقد اعتبر بعض فقهاء الإسلام السحر كفرا، أو مؤديا إلى الكفر، وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر تطهيرا للمجتمع من شره. وكما حرم الإسلام على المسلم الذهاب إلى العرافين لسؤالهم عن الغيوب والأسرار حرم عليه أن يلجأ إلى السحر أو السحرة لعلاج مرض ابتلي به، أو حل مشكلة استعصت عليه، فهذا ما برئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، قال: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له". وقد ابتليت مجتمعات المسلمين بهذا الشر العظيم، وانتشر السحرة والمشعوذون بصورة لم يسبق لها مثيل، وصار الناس يذهبون إلى العرافين والسحرة المفسدين يبتغون عندهم العلاج والشفاء، فعمّ البلاء وطم، ولذا كان للإسلام هديه الخاص في علاج السحر قوامه وعماده الاستعاذة بالله والركون إليه والاستعانة به، فإن السحر داء خفي ومستتر يحتاج إلى علاج خاص وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ حاسد إذا حسد ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول القرطبي: "الحسد أول ذنب عُصى الله به في السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض؛ فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت، مبغوض، مطرود، ملعون" 37ويقول أيضاً: "وقيل الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا"
وجاء في مختار الصحاح: الحسد: " أن تتمنى زوال نعمة المحسود إليك، وبابه دخل، وقال الأخفش: وبعضهم يقول يحسِده بالكسر حسداً بفتحتين وحسده على الشيء، وحسده الشيء بمعنى و تحاسد القوم وقوم حسدة كحامل وحملة. "
قال الثعالبي: " وقوله - تعالى -: "وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ، يريد بـ«النَّفْس»: السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه - تعالى - الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحَسَدِ؛ ليعلم أنَّه أخسُّ الطَبائع. " ولعل من أنواع الحسد الشديدة الخطورة "العين"؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ٍ أبو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "الْعَيْنُ حَقٌّ" وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ.. "، و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ"
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ ومن أعرض عن ذكرِي فإن له معيشة ضنكا ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشّةً ضَنْكًا..}
سُئِل الشيخ العلامة صالح الفوزان - حفظه الله - تعالى -:
ما معنى قوله - تعالى -{وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى} [طه: 124]. ما معنى تفسير هذه الآية؟
فأجاب: يقول الله - سبحانه وتعالى-: {فإما يأتينَّكم منِّي هُدًى فمن اتَّبع هُداي فلا يضل و لا يشقى [123] وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى[124]}.
في الآيتين الكريمتين أن من اتبع القرآن و عمل به فإن الله - سبحانه وتعالى - تكفل له بأن لا يضل في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. و في الآية الثانية أن من أعرض عن القرآن و لم يعمل به فإن الله جل و علا يعاقبه بعقوبتين:
الأولى: أنه يكون في معيشة ضنكاً و قد فسر ذلك بعذاب القبر، و أنه يعذب في قبره، و قد يراد به المعيشة في الحياة الدنيا و في القبر أيضا فالآية عامة.
والحاصل: أن الله توعده بأن يعيش عيشةً سيئةً مليئةً بالمخاطر و المكاره و المشاق جزاءً له على إعراضه عن كتاب الله جل و علا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال و وقع في الحرج.
والعقوبة الثانية: أن الله جل و علا يحشره يوم القيامة أعمى، لأنه عمي عن كتاب الله في الدنيا فعاقبه الله بالعمى في الآخرة، قال {قال رب لِمَ حشرتني أعمى و قد كنتُ بصيراً [125] قال كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فنَسيتَهاَ و كَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى [126]}[طه]، فإذا عمي عن كتاب الله في الدنيا بأن لم يلتفت إليه و لم ينظر فيه و لم يعمل به، فإنه يحشر يوم القيامة على هذه الصورة البشعة و العياذ بالله. و هذا كقوله - تعالى -{و من يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين[36] و إنَّهم ليصدُّنَهم عن السبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون[37] حتى إذا جاءنا قال يا ليتَ بيني و بَينَكَ بُعدَ المشرقين فبئسَ القرين[38] و لن ينفعَكم اليومَ إذ ظلَمتُم أنكم في العذاب مُشتَركين[39] أفأنتَ تُسمعُ الصُّمَّ أو تهدي العُميَ و مَن كَانَ في ضَلالٍ مُبين[40]}[الزخرف].
فالحاصل: أن الله جل و علا توعد من أعرض عن كتابه و لم يعمل به في الحياة الدنيا بأن يعاقبه عقوبة عاجلةً في حياته في الدنيا و عقوبة آجلة في القبر و العياذ بالله و في المحشر، و الله - تعالى -أعلم. [المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان: ج2/59] وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قرأت في تفسير عماد الدين أبي الفداء الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير عليه رحمات الله عند تفسير قوله - تعالى -(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في سورة الأنبياء الآية 107 قوله: (...فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. الطبري 18/552)
فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها:
قال - تعالى -في شأن نوح: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ " [الأعراف: 64].
وقال - تعالى -في شأن هو: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 72]. والآيات كثيرة.
وأما من السنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. رواه مسلم.
هذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر.
قال القاضي عياض في " الشفا " (1/91): " للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب ". ا. هـ.
وقال أبو نعيم في " دلائل النبوة ": فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته - عليه السلام - فيهم، وذلك قوله - تعالى -: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [الأنفال: 33]، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به. ا. هـ.
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ لا يمسه إِلا المطهرون ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على قولين:
1 - أن المقصود الكتاب الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
2 - أن المقصود القرآن لا يمسه إلا الطاهر أما المحدث حدثا أكبر أو أصغر على خلاف بين أهل العلم فإنه لا يمسه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح العمدة (1/384) القول الأول، فقال:
والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المطهرون لوجوه:
أحدهما: إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا: لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله: " كَلَّا إِنَّهَا. تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 11 - 16].
وثانيها: أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وثالثها: أنه قال: " فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " [الواقعة: 78]، والمكنون: المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ.
ورابعها: أن قوله: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر، لم يصح الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية.
وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله.
وسادسها: أنه لو قال: " الْمُطَهَّرُونَ " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهرون، كما قال - تعالى -: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة: 108]، وقال - تعالى -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222].
وسابعها: أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه.
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/417):
قلت: مثاله قوله - تعالى -: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79] قال - يقصد الإمام ابن القيم شيخَ الإسلام -: والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة:
- منها: أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة. - ومنها: أنه قال: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال - تعالى -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222]. فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
- ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم، والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى.
- ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر - تعالى -: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه كما قال - تعالى -في آية الشعراء: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [عراء: 210 - 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.
- ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 12 - 16]، قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير: " لَا يَمَسُّهُ إالْمُطَهَّرُونَ " أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس:
- ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف.
- ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك. ا. هـ.
والله أعلم وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ] -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف/175-176-177].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو مِن أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المروحة أحبُّ إليه مِن اللحم الطري. والعذرة أحبُّ إليه مِن الحلوى وإذا ظفر بميتةٍ تكفي مائةَ كلبٍ لم يَدَع كلباً واحداً يتناول منها شيئاً إلاّ هرَّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشَرَهِه.
ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ نبحه وحمل عليه، كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء، فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبرٌ على الجوع.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً، يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث.
فهكذا مشبَّهه شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإنْ حملتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ، كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.
وقال عطاء: ينبح إنْ حملتَ عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب، فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ، كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث وإنْ تركْتَه على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه: { وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ }الأعراف/193]. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ] -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
تأمَّلْ ما في هذا المثل مِن الحِكم والمعاني:
فمنها: قوله: { آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } فأخبر سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياته، فإنَّها نعمةٌ، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا } أي: خرج منها كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسلخ عن اللحم. ولم يقل (فسلخناه منها) لأنَّه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
- ومنها: قوله سبحانه: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان } أي: لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: { فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ } [الشعراء/60] وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محميَّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غِرَّةٍ وخطفة. فلمَّا انسلخ مِن آيات الله ظفِر به الشيطانُ ظفَر الأسد بفريسته {فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنَّه سبحانه قال: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } فأخبر سبحانه أنَّ الرفعة عنده ليست بمجرد العلم - فإنَّ هذا كان مِن العلماء- وإنَّما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإنَّ هذا كان مِن أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، نعوذ بالله مِن علمٍ لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنَّه هو الذي يرفع عبدَه إذا شاء بما آتاه من العلم، وإنْ لم يرفعه الله فهو موضوعٌ، لا يرفعُ أحدٌ به رأساً، فإنَّ الربَّ الخافضَ الرافعَ سبحانه خفضه ولم يرفعه. والمعنى: لو شئنا فضَّلناه وشرَّفْناه ورفعنا قدرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ } : عائدٌ على الكفر والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حقٌّ ، والأول هو مراد الآية، وهذا مِن لوازم المراد ، وقد تقدم أنَّ السلف كثيراً ما ينبهون على لازمِ معنى الآية، فيظنُّ الظانُّ أنَّ ذلك هو المراد منها.
وقوله: } وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ }. قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض، وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمُخلِدُ من الرجال: هو الذي يبطىء في مِشْيته، ومِن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أنْ تخرج رَباعيَّتُه. وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود، وهو الدوام والبقاء. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة:
بأبناء حيٍّ مِن قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِم وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة/17] أي: قد خُلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سنٍّ واحدٍ أبداً.
وقيل: هم المقرَّطون في آذانهم، والمسوَّرون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسَّروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السنِّ فلا تنافي بين القولين.
وقوله: } فَاتَّبَعَ هَوَاهُ }، قال الكلبي: اتَّبع مسافل الأمور وترك معاليها. وقال أبو رَوْق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. وقال ابن يمان: اتَّبع امرأته لأنهَّا هي التي حملته على ما فعل.
فإنْ قيل: الاستدراك بـ (لكن) يقتضي أنْ يثبت بعدها ما نفى قبله، أو ينفي ما أثبت كما تقول: (لو شئتُ لأعطيتُه، لكني لم أعطِه) و (لو شئتُ لما فعلتُ كذا لكني فعلتُه).
والاستدراك يقتضي: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّا لم نشأ، أو لم نرفعه)، فكيف استدرك بقوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ } بعد قوله : { لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }؟
قيل: هذا مِن الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أنَّ مضمون قوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أنَّه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: مِن إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنَّه آثر الدنيا وأخلدَ إلى الأرض واتَّبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها، فذكر المشيئة، والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنَّه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. قال: ألا ترى إلى قوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أنْ يكون { وَلَوْ شِئْنَا } في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره: لوجب أنْ يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنَّا لم نشأ. ا.هـ.
فهذا من الزمخشري شنشنةٌ نعرفها مِن قدريٍّ نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنُّجعة في جعْلِ كلام الله معتزليّاً قدريّاً. فأين قوله: { وَلَوْ شِئْنَا } مِن قوله: ولو لزمها؟. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفاً على مشيئة الله -وهو الحق- بَطَل أصله.
وقوله: (إنَّ مشيئة الله تابعةٌ للزوم الآيات) مِن أفسدِ الكلام وأبطلِه، بل لزومه لآياته تابعٌ لمشيئة الله، فمشيئةُ الله سبحانه متبوعةٌ لا تابعةٌ، وسببٌ لا مسبَّب، وموجب مقتضٍ لا مقتضى، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده) ا.هـ .
انظر : " أعلام الموقعين " [1/165-169]. وانظر: " الفوائد " [ص150].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:ضرب اللهُ المثلَ لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها: بالكلب، ولم تكن حقارةُ الكلبِ مانعةً مِن ضربه تعالى المثلَ به. وكذلك ضربُ المثلِ بالذباب في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ } [الحج/73] ، وكذلك ضربُ المثلِ ببيتِ العنكبوت في قوله: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت/41]. وكذلك ضربُ الله المثلَ بالحمارِ في قوله: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة/5] وهذه الآيات تدل على أنَّه تعالى لا يستحيي مِن بيانِ العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة. وقد صرَّح بهذا المدلول في قوله: { إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة/26]. ا.هـ (أضواء البيان [2/303]).
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (النساء: 71)الحذر والحذر بمعنى كالأثر والأثر، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى: احذروا وتيقظوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم- (الكشاف 1/280 ) وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم[تيسير الكريم الرحمن /150 ) ويكون ذلك أيضاً ببذل المال في سبيل الله، وإعداد المقاتلين، فمن جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، قال - سبحانه - ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)) وقال - جل شأنه -: ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) يقول الشيخ المراغي - رحمه الله -: ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات، إلى نحو ذلك؛ حتى لا يهاجمكم على غرة، أو يهددكم في دياركم، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد، استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له. وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح.
ثبات: جمع ثبة، وقد تجمع على ثبين، أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية
أو انفروا جميعا: يعني كلكم
من فوائد الآية
ـ فضيلة أهل الإيمان حتى صاروا أهلاً للخطاب
ـ وجوب أخذ الحذر من أعدائنا
ـ أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون
ـ وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله
ـ هذه النفرة تكون حسب المصلحة إما جماعات أو جميعا
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
كتاب : المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
المؤلف : أمير بن محمد المدري
منتدى ميراث الرسول - البوابة
( صلى الله عليه وسلم )