بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الحديث الشريف جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الثامن والعشرون ] ●
عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً ، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ ، فَقُلْنا : يَا رَسول الله ، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا ، قال : ( أوصيكُمْ بتَقوى الله ، والسَّمْعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ ). رواه أبو داود والتِّرمذيُّ، وقال : حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ. هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، زاد أحمد في روايةٍ له ، وأبو داود : وحُجْر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العِرباض ابن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، قال : ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له ، وزعم الحاكمُ أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن معدان غيرَ ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما. قلتُ : ليس الأمرُ كما ظنَّه ، وليس الحديثُ على شرطهما ، فإنَّهما لم يخرِّجا لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً ، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية. وأيضاً ، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدَّم ، وروي عنه عن ابن أبي بلال ، عن العِرباض ، وخرَّجه الإمام أحمد مِنْ هذا الوجه أيضاً ، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، عن العِرباض ، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه، وزاد في حديثه : ( فقد تركتُكم على البيضاءِ ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ ) ، وزاد في آخر الحديث : ( فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ ، حيثما قيدَ انقاد ). وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجةٌ فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرَّجه الحاكم، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : ( فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ ، حيثما قيد انقاد ). وخرَّجه ابن ماجه أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى ابن أبي المطاع ، سمعتُ العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرَّح فيه بالسَّماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية ، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلطٌ ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي ، وحكاه عن دُحيم، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر ، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم. فقولُ العِرباض : وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : ( بليغة ) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }، وقال : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم ، بل يتخوّلُهُم به أحياناً ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمان ، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ ، فقال : ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا. والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ . وفي " صحيح مسلم " عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً. وخرَّجه أبو داود ولفظه : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات. وخرَّج مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً ). وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحكم بن حزن ، قال : شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ . وخرَّج أبو داود عن عمرو بنِ العاص : أنَّ رجلاً قام يوماً ، فأكثر القولَ ، فقال عمرٌو : لو قَصَد في قوله ، لكان خيراً له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول ، فإنَّ الجواز هو خير ). وقوله : ( ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب ) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }، وقال : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }، وقال : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ }، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ }. وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ ، وذكر الساعةَ ، اشتدَّ غضبه ، وعلا صوتُه ، واحمرَّت عيناه ، كأنَّه منذرُ جيش يقول : صبَّحَكم ومسَّاكم . خرَّجه مسلم بمعناه. وفي " الصحيحين " عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى الظُّهرَ ، فلمَّا سلم ، قام على المنبر ، فذكر السَّاعة ، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً ، ثم قال : ( من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا ) ، قال أنس : فأكثر النَّاسُ البكاءَ ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول : ( سلوني ) ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ، قال : ( النار ) ، وذكر الحديث . وفي " مسند الإمام أحمد " عن النُّعمان بن بشير : أنَّه خطب ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول : ( أنذرتكم النَّار ، أنذرتكم النَّار ) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. وفي " الصحيحين " عن عدي بن حاتمٍ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اتقوا النَّار ) ، قال : وأشاح ، ثم قال : ( اتقوا النَّار ) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : ( اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ ). وخرَّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن سلمة ، عن عليٍّ ، أو عنِ الزُّبير ابن العوّام ، قال : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا ، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله ، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه ، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً ، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه. وخرَّجه الطبراني والبزارُ من حديث جابر ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ ، أو وعظَ ، قلت : نذير قوم أتاهُم العذابُ ، فإذا ذهبَ عنه ذلك ، رأيت أطلقَ الناس وجهاً ، وأكثَرهم ضَحِكاً ، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم -. وقولهم : ( يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع ، فأوصنا ) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل ، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك ؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع ، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : ( لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، وطفق يودِّعُ الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة ، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً، وخطبهم ، فقال : ( يا أيُّها النّاس ، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب ) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله ، ووصَّى بأهل بيته ، خرَّجه مسلم. وفي " الصحيحين " ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات ، فقال : ( إنِّي فَرَطُكُم على الحوض ، فإنَّ عَرْضَهُ ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم ) . قال عقبة : فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر. وخرَّجه الإمام أحمد وأخرجه : البخاري 5/120 ( 4042 ) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر. ولفظه : صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ، ثم طلَعَ المنبرَ ، فقال : ( إنِّي فرطُكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدَكم الحوضُ ، وإنِّي لأنظرُ إليه ، ولستُ أخشى عليكم الكُفر ، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها ). وخرَّج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي ، أُوتيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتمَه وجوامعه ، وعلمت كم خزنةُ النَّار ، وحملةُ العرش ، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم ، فإذا ذُهِبَ بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرِّموا حرامه ). فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه الخطب ، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع . وقولهم : ( فأوصنا ) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا أنَّه مودِّعٌ ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه ، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك بها ، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسَّمع والطَّاعة ) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة. أمَّا التَّقوى ، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها ، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ }، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ. وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله. وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا ، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ. وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء : ( أنِ احشُدوا ، فإنَّ لي إليكم حاجةً ) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح ، قال : ( هل حشدتم كما أمرتكم ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ( أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً . قلنا : نعم ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ) ثلاثاً ، ( هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً ، قلنا : نعم ، قال : فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه. وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً ، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية ، قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع ، فسمعتُه يقول : ( يا أيُّها النَّاسُ ، اتَّقوا الله ، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله ). وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة. وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع ، يقول : ( اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكُم ، وصوموا شهركم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخُلُوا جنَّةَ ربِّكم )، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال : ( يا أيُّها النَّاس ، إنَّه لا نبيَّ بعدي ، ولا أمَّةَ بعدكم ) وذكر الحديث بمعناه. وفي " المسند " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً ، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً ، وسمع وأطاع ، فله الجنَّة ، أو دخل الجنَّة ). وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ ) ، وفي روايةٍ : ( حبشي ) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده ، وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ ). وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع ، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . والأحاديث في المعنى كثيرة جداً. ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس اثنان )، وقوله : ( النّاس تبعٌ لقريش )، وقوله : ( الأئمة من قريش ) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ أبرارها ، وفجارُها أمراءُ فجارها ، ولكلٍّ حقٌّ ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً ، فاسمعوا له وأطيعوا ) وإسناده جيد ، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً، وقال الدارقطني : هو أشبه . وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : ( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة ). وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن يعِشْ منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) . هذا إخبارٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة ، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده ، والسُّنة : هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض. وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات ؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ ، كما صحَّ عنه أنَّه قال : ( إنَّما الطَّاعةُ في المعروف ). وفي " المسند " عن أنس : أنَّ معاذَ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيتَ إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك ، ولا يأخذون بأمركَ ، فما تأمرُ في أمرهم ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل - ). وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن مسعود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ) فقلت : يا رسول الله إنْ أدركتُهم ، كيف أفعلُ ؟ قال : ( لا طاعة لمن عصى الله ). وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته ، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة ، كاتِّباع سنته ، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور. وفي " مسند الإمام أحمد " و" جامع الترمذي " عن حُذيفة قال : كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً ، فقال : ( إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم ، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار ، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ ، فصدقوه ) ، وفي روايةٍ : ( تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ ، واهتدوا بهدي عمار ) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده ، والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم : أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ، فإنَّ في حديث سفينة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً ) ، وقد صححه الإمام أحمد ، واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة. ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً ، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد من حديث حُذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة ، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكونُ مُلكاً جبرية ، فتكون ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة ) ثُمَّ سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجلٌ ، فحدَّثه بهذا الحديث ، فسُرَّ به ، وأعجبه. وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ ، فيقول : نهى عنه إمامُ هدى : عمرُ بن عبد العزيز. وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة : هل هو إجماعٌ ، أو حُجَّةٌ ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء ، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق. ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً ، ولم يُخالفه منهم أحدٌ ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة ، فهل يقدم قولُه على قول غيره ؟ فيه قولان أيضاً للعلماء ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة ، وكذا ذكره الخطابيُّ وغيره ، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك ، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال : ( إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه ). وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه ، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه ). وقال مالكٌ : قال عمرُ بنُ عبد العزيز : سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمر من بعده سُنناً ، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله ، وقوَّةٌ على دين الله ، ليس لأحدٍ تبديلُها ، ولا تغييرُها ، ولا النظرُ في أمرٍ خالفَها ، مَنِ اهتدى بها ، فهو مهتدٍ ، ومن استنصر بها ، فهو منصور ، ومن تركها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين ، ولاَّه اللهُ ما تولَّى ، وأصلاه جهنَّم ، وساءت مصيراً. وحكى عبدُ الله بن عبد الحكم عن مالك : أنَّه قال : أعجبني عَزْمُ عمرَ على ذلك ، يعني : هذا الكلام . وروى عبدُ الرحمان بنُ مهدي هذا الكلام عن مالكٍ ، ولم يحكِه عن عمرَ . وقال خلَفُ بنُ خليفة : شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطبُ النَّاس وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنَّ ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه ، فهو وظيفةُ دينٍ ، نأخذ به ، وننتهي إليه. وروى أبو نعيم من حديث عَرْزب الكندي : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّه سيحدث بعدي أشياء ، فأحبها إلي أنْ تلزموا ما أحدث عمر ). وكان عليٌّ يتبع أحكامه وقضاياه ، ويقول : إنَّ عمرَ كان رشيدَ الأمر. وروى أشعثُ ، عن الشَّعبيِّ ، قال : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا كيف قضى فيه عمرُ ، فإنَّه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبلَه حتى يُشاوِرَ. وقال مجاهد : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا ما صنع عمر ، فخُذُوا به. وقال أيوب ، عن الشعبيِّ : انظروا ما اجتمعت عليه أمَّةُ محمد ، فإنَّ الله لم يكن ليجمعها على ضلالةٍ ، فإذا اختلفت ، فانظروا ما صنعَ عُمَر بنُ الخطاب ، فخذوا به. وسئل عكرمة عن أم الولد ، فقال : تعْتقُ بموت سيدها ، فقيل له : بأيِّ شيء تقولُ ؟ قال : بالقرآن ، قال : بأيِّ القرآن ؟ قال : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }، وعمرُ من أولي الأمر. وقال وكيع : إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيءٍ ، فهو الأمرُ. وروي عن ابن مسعود أنَّه كان يحلف بالله : إنَّ الصِّراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنَّة. وبكلِّ حالٍ ، فما جمع عمرُ عليه الصَّحابةَ ، فاجتمعوا عليه في عصره ، فلا شكَّ أنَّه الحقُّ ، ولو خالف فيه بعدَ ذلك مَنْ خالف ، كقضائه في مسائلَ مِنَ الفرائض كالعول ، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أنَّ للأمِّ ثلث الباقي ، وكقضائه فيمن جامعَ في إحرامه أنَّه يمضي في نسكه وعليه القضاءُ والهديُ ، ومثل ما قضى به في امرأةِ المفقودِ ، ووافقه غيره مِنَ الخُلفاء أيضاً ، ومثلُ ما جمع عليه النَّاسَ في الطَّلاق الثَّلاث ، وفي تحريم متعة النِّساء ، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان ، ووضع الخراج على أرض العنوة ، وعقد الذِّمة لأهل الذِّمة بالشُّروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك. ويشهد لصحة ما جمع عليه عمرُ الصحابة ، فاجتمعوا عليه ، ولم يُخالف في وقته قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني في المنام أنزِعُ على قليبٍ ، فجاء أبو بكرٍ ، فنزع ذَنُوباُ أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعفٌ ، والله يغفر له ، ثم جاء ابنُ الخطَّاب ، فاستحالت غَرْباً ، فلم أرَ أحداً يفري فَرْيَهُ حتَّى رَوِيَ النَّاس ، وضربوا بعَطَنٍ ) ، وفي روايةٍ : ( فلم أرَ عبقرياً من النَّاسِ يَنْزِعُ نزعَ ابنِ الخطاب ) وفي روايةٍ : ( حتى تولَّى والحوض يتفجَّرُ ). وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عمرَ لم يمت حتَّى وضع الأمورَ مواضعها ، واستقامت الأمورُ ، وذلك لِطول مدَّته ، وتفرُّغه للحوادث ، واهتمامه بها ، بخلاف مدَّةِ أبي بكر فإنَّها كانت قصيرةً ، وكان مشغولاً فيها بالفُتوح ، وبعث البُعوث للقتال ، فلم يتفرَّغ لكثيرٍ من الحوادث ، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلُغه ، ولا يُرفَعُ إليه ، حتَّى رفعت تلك الحوادثُ إلى عمرَ ، فردَّ النَّاس فيها إلى الحقِّ وحملهم على الصَّواب. وأمَّا ما لم يجمع عمرُ النَّاسَ عليه ، بل كان له فيه رأيٌ ، وهو يسوِّغ لغيره أنْ يرى رأياً يُخالف رأيه ، كمسائل الجَدِّ مع الإخوة ، ومسألة طلاق البتة ، فلا يكونُ قولُ عمر فيه حجَّةً على غيره مِنَ الصَّحابة ، والله أعلم. وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين ؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به ، فالراشدُ ضدُّ الغاوي ، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ ، وعمل بخلافه. وفي رواية ( المهديين ) ، يعني : أنَّ الله يهديهم للحقِّ ، ولا يُضِلُّهم عنه ، فالأقسام ثلاثة : راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ ، فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه ، والغاوي : عرفه ولم يتَّبعه ، والضالُّ : لم يعرفه بالكليَّة ، فكلُّ راشدٍ ، فهو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً ، فهو راشد ؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً. وقوله : ( عَضُّوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها ، والنواجذ : الأضراس. قوله : ( وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ) تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ ، وأكَّد ذلك بقوله : ( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، والمراد بالبدعة : ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه ، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه ، فليس ببدعةٍ شرعاً ، وإنْ كان بدعةً لغةً ، وفي " صحيح مسلم " عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته : ( إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلُّ بدعة ضلالة ). وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف - عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه ، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئاً ). وخرَّج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال : بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان ، فقال : إنا قد جمعنا الناس على أمرين : رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة ، والقصص بعد الصُّبح والعصر ، فقال : أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحْدَثَ قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة ) فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ . وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا. فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين ، وهو شبيهٌ بقوله : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ )، فكلُّ من أحدث شيئاً ، ونسبه إلى الدِّين ، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه ، فهو ضلالةٌ ، والدِّينُ بريءٌ منه ، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع ، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية ، لا الشرعية ، فمِنْ ذلك قولُ عمر - رضي الله عنه - لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد ، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال : نعمت البدعةُ هذه . وروي عنه أنَّه قال : إنْ كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة. وروي أنَّ أبيَّ بن كعب ، قال له : إنَّ هذا لم يكن ، فقال عمرُ : قد علمتُ ، ولكنَّه حسنٌ . ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحُثُّ على قيام رمضان ، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً ، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - . ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر. ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ. ومن ذلك : أذانُ الجمعة الأوَّل ، زاده عثمانُ لحاجةِ النَّاسِ إليه ، وأقرَّه عليٌّ ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه ، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال : هو بدعة، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان. ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ ، وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ ، فوافق على جمعه، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بكتابة الوحي ، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقاً أو مجموعاً ، بل جمعُه صار أصلح. وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة ، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة ، وكان ذلك عينَ المصلحة. وكذلك قتال من منع الزكاة : توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة، فوافقه الناسُ على ذلك. ومِنْ ذلك القصص ، وقد سبق قولُ غضيف بن الحارث : إنَّه بدعةٌ ، وقال الحسن : القصص بدعةٌ ، ونعِمَت البدعةُ ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخٍ مستفاد. وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد ، وإنَّما كان يذكرهم أحياناً ، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده ، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ : أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس. وفي " صحيح البخاري " عن ابن عبَّاسٍ قال : حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً ، فإنْ أبيتَ فمرَّتين ، فإنْ أكثرت ، فثلاثاً ، ولا تُمِلَّ الناس . وفي " المسند " عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ : حدِّثِ النَّاسَ يوماً ، ودعِ النَّاس يوماً ، لا تُملَّهم. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة . ورُوي عنه أنَّه قال له : روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم ، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء . وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا حرملة ابن يحيى قال : سمعتُ الشافعي - رحمة الله عليه - يقول : البدعة بدعتان : بدعةٌ محمودةٌ ، وبدعة مذمومةٌ ، فما وافق السنة فهو محمودٌ ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ . واحتجَّ بقول عمر : نعمت البدعة هي. ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه مِنْ قبلُ : أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه ، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه ، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً ؛ لموافقتها السنة. وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا ، وأنَّه قال : والمحدثات ضربان : ما أُحدِثَ مما يُخالف كتاباً ، أو سنةً ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذه البدعة الضلال ، وما أُحدِث مِنَ الخير ، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا ، وهذه محدثة غيرُ مذمومة. وكثير من الأمور التي حدثت ، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا ؟ فمنها : كتابةُ الحديث ، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة ، ورخَّص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة. ومنها : كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قومٌ من العُلماء ، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم. وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك. وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه ، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدَهم ، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة. وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة ، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم ، فإذا رأيتم محدثةً ، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل. وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين. وروى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. وكأنَّ مالكاً يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها ، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ. وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم. وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته ، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ ، فقومٌ نَفَوا كثيراً ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك ، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهاً لله عمَّا تقتضي العقولُ تنْزيهه عنه ، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله - عز وجل - ، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللَّوازم نفياً وإثباتاً دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها. ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي ، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة العقلية. ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف ، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة ، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة ، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ ، وأنَّها حجابٌ ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعاً مخالفتُه للكتاب والسُّنة ، وإجماع سلف الأمة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي منتدى ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم