من طرف اسرة التحرير الجمعة يناير 11, 2019 3:19 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الثامن والعشرون ] ●
عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً ، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ ، فَقُلْنا : يَا رَسول الله ، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا ، قال : ( أوصيكُمْ بتَقوى الله ، والسَّمْعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ ).
رواه أبو داود والتِّرمذيُّ (1) ، وقال : حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ.
الشرح
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (3) من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، زاد أحمد في روايةٍ له ، وأبو داود : وحُجْر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العِرباض ابن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين (4) ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له ، وزعم الحاكمُ (5) أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن معدان غيرَ ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .
__________
(1) السنن ( 4607 ) ، والجامع الكبير ( 2676 ) .
(2) في " مسنده " 4/146 .
(3) في " سننه " ( 43 ) و( 44 ) .
(4) قال الحافظ ابن كثير في " تحفة الطالب " : 134 – 135 ( 46 ) : ( وصححه أيضاً الحافظ أبو نعيم الأصبهاني . وقال شيخ الإسلام الأنصاري : هو أجود في أهل الشام ، وأحسنه ) .
(5) في " المستدرك " 1/96 .
● [ الصفحة التالية ] ●
قلتُ : ليس الأمرُ كما ظنَّه ، وليس الحديثُ على شرطهما ، فإنَّهما لم يخرِّجا
لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً ، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية .
وأيضاً ، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدَّم ، وروي عنه عن ابن أبي بلال ، عن العِرباض ، وخرَّجه الإمام أحمد (1) مِنْ هذا الوجه أيضاً ، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، عن العِرباض ، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه (2) ، وزاد في حديثه : ( فقد تركتُكم على البيضاءِ ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ ) ، وزاد في آخر الحديث : ( فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ ، حيثما قيدَ انقاد ) .
وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجةٌ فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرَّجه
الحاكم (3) ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : ( فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ ، حيثما قيد انقاد ) .
__________
(1) في " مسنده " 4/127 .
(2) المسند 4/126 ، والسنن ( 43 ) .
(3) في " المستدرك " 1/96 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّجه ابن ماجه (1) أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى ابن أبي المطاع ، سمعتُ العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرَّح فيه بالسَّماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " (2) : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية ، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلطٌ ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي ، وحكاه عن دُحيم (3) ، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم(4) ، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر ، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم .
فقولُ العِرباض : وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : ( بليغة ) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } (5) ، وقال : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (6) ، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم ، بل يتخوّلُهُم به أحياناً ، كما في " الصحيحين " (7)
__________
(1) في " سننه " ( 42 ) .
(2) التاريخ الكبير 8/188 ( 12449 ) .
(3) قول دحيم ذكره ابن حجر في " التقريب " ( 7649 ) .
(4) من غيرهم ) سقطت من ( ص ) .
(5) النساء : 63 .
(6) النحل : 125 .
(7) صحيح البخاري 1/27 ( 68 ) و8/109 ( 6411 )، وصحيح مسلم 8/142 ( 2821 ) ( 82 ) و( 83 ) .
وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 255 ) ، والحميدي ( 107 ) ، وابن أبي شيبة ( 26515 ) ، وأحمد 1/377 و378 و427 و465 ، والترمذي ( 2855 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 5889 ) ، وابن حبان ( 4524 ) من طرق ، عن أبي وائل ، بهذا الإسناد .
● [ الصفحة التالية ] ●
عن أبي وائل ، قال : كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمان ، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ ، فقال : ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .
والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ .
وفي " صحيح مسلم "(1) عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً .
وخرَّجه أبو داود (2) ولفظه : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات .
وخرَّج مسلم (3) من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ (4) من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً ) .
__________
(1) الصحيح 3/11 ( 866 ) ( 41 ) و( 42 ) .
(2) في " سننه " ( 1107 ) ، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب .
(3) في " صحيحه " 3/12 ( 869 ) ( 47 ) .
(4) قال البغوي في " شرح السنة " عقيب الحديث ( 1077 ) : ( أي علامة ، فهي على وزن مَفْعِلة ، والميم زائدة ، كقولهم : مخلفة ، ومعناه : أنَّ هذا مما يستدل به على فقه الرجل ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمام أحمد (1) وأبو داود (2) من حديث الحكم بن حزن ، قال : شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ .
وخرَّج أبو داود (3) عن عمرو بنِ العاص : أنَّ رجلاً قام يوماً ، فأكثر القولَ ، فقال عمرٌو : لو قَصَد في قوله ، لكان خيراً له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول ، فإنَّ الجواز هو خير ) .
وقوله : ( ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب ) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (4) ، وقال : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (5) ، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } (6) ، وقال : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ } (7) ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } (8) .
__________
(1) في " مسنده " 4/212 ، وإسناده حسن شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان حسنا الحديث .
(2) في " سننه " ( 1096 ) .
(3) في " سننه " ( 5008 ) ، وإسناده لا بأس به .
(4) الأنفال : 2 .
(5) الحج : 34 – 35 .
(6) الحديد : 16 .
(7) الزمر : 23 .
(8) المائدة : 83 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ ، وذكر الساعةَ ، اشتدَّ غضبه ، وعلا صوتُه ، واحمرَّت عيناه ، كأنَّه منذرُ جيش يقول : صبَّحَكم ومسَّاكم . خرَّجه مسلم بمعناه (1) .
وفي " الصحيحين "(2) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى الظُّهرَ ، فلمَّا سلم ، قام على المنبر ، فذكر السَّاعة ، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً ، ثم قال : ( من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا ) ، قال أنس : فأكثر النَّاسُ البكاءَ ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول : ( سلوني ) ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ، قال : ( النار ) ، وذكر الحديث .
وفي " مسند الإمام أحمد "(3) عن النُّعمان بن بشير : أنَّه خطب ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول : ( أنذرتكم النَّار ، أنذرتكم النَّار ) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه .
__________
(1) في " صحيحه " 3/11 ( 867 ) ( 43 ) و( 44 ) .
(2) صحيح البخاري 1/143 ( 540 ) و8/96 ( 6362 ) 9/118 ( 7294 ) ، وصحيح مسلم 7/92 ( 2359 ) ( 134 ) و7/93 ( 2359 ) و( 136 ) و7/94 ( 2359 ) ( 137 ) .
(3) المسند 4/268 و272، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب فهو صدوق حسن الحديث .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " الصحيحين "(1) عن عدي بن حاتمٍ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اتقوا النَّار ) ، قال : وأشاح ، ثم قال : ( اتقوا النَّار ) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : ( اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث عبد الله بن سلمة ، عن عليٍّ ، أو عنِ الزُّبير ابن العوّام ، قال : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا ، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله ، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه ، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً ، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه .
وخرَّجه الطبراني والبزارُ (3) من حديث جابر ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ ، أو وعظَ ، قلت : نذير قوم أتاهُم العذابُ ، فإذا ذهبَ عنه ذلك ، رأيت أطلقَ الناس وجهاً ، وأكثَرهم ضَحِكاً ، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) صحيح البخاري 8/14( 6023 ) و8/140 ( 6540 ) و8/144 ( 6563 ) ، وصحيح مسلم 3/86 ( 1016 ) ( 68 ) .
(2) في " مسنده " 1/167 ، وفي سنده عبد الله بن سلمة وحديثه من قبيل الحسن ، والله أعلم .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 2477 ) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9/17 ، وقال: ( رواه البزار وإسناده حسن ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقولهم : ( يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع ، فأوصنا ) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل ، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ (1)
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/412 ، وابن ماجه ( 4171 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3987 )
و( 3988 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ فقال : عِظني وأوجز ، فقال : ( ثم إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً واجمع الإياس مما في يدي الناس ) بلفظ أحمد .
وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك .
● [ الصفحة التالية ] ●
؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع ، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : ( لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) (1) ، وطفق يودِّعُ الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة ، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً(2) ، وخطبهم ، فقال : ( يا أيُّها النّاس ، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب ) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله ، ووصَّى بأهل بيته ، خرَّجه مسلم (3) .
وفي " الصحيحين " (4) ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات ، فقال : ( إنِّي فَرَطُكُم على الحوض ، فإنَّ عَرْضَهُ ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم ) . قال عقبة : فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر .
وخرَّجه الإمام أحمد (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/318 ، ومسلم 4/79 ( 1297 ) ( 310 ) ، وأبو داود ( 1970 ) ، والترمذي ( 886 ) ، والنسائي 5/270 ، وابن خزيمة ( 2877 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 2995 ) و( 2997 ) ، والبيهقي 5/125 و130 من حديث جابر بن عبد الله ، به . والروايات متباينة اللفظ متفقة المعنى .
(2) في ( ص ) : ( جمع الناس بين مكة والمدينة في وادٍ يقال له : غدير خم ) .
(3) في " صحيحه " 7/122 ( 2408 ) ( 36 ) .
(4) صحيح البخاري 2/114 ( 1344 ) و4/240 ( 3596 ) و5/132 ( 4085 ) و8/112 ( 6426 ) و8/151 ( 6590 ) ، وصحيح مسلم 7/67 ( 2296 ) ( 30 ) و( 31 ) .
(5) في " مسنده " 4/154 .
وأخرجه : البخاري 5/120 ( 4042 ) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر .
● [ الصفحة التالية ] ●
ولفظه : صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ، ثم طلَعَ المنبرَ ، فقال : ( إنِّي فرطُكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدَكم الحوضُ ، وإنِّي لأنظرُ إليه ، ولستُ أخشى عليكم الكُفر ، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي ، أُوتيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتمَه وجوامعه ، وعلمت كم خزنةُ النَّار ، وحملةُ العرش ، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم ، فإذا ذُهِبَ بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرِّموا حرامه ) .
فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه الخطب ، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع .
وقولهم : ( فأوصنا ) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا (2) أنَّه مودِّعٌ ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه ، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك بها ، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسَّمع والطَّاعة ) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة .
__________
(1) في " مسنده " 2/172 و212 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، ولجهالة عبد الرحمان بن مُريح .
(2) في ( ص ) : ( علموا ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
أمَّا التَّقوى ، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها ، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ } (1) ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ (2) .
وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا(3) ، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله (4) .
وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا ، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ .
__________
(1) النساء : 131 .
(2) عند الحديث الثامن عشر .
(3) قبل هذا في ( ص ) : ( المسلمين في ) .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7508 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء : ( أنِ احشُدوا ، فإنَّ لي إليكم حاجةً ) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح ، قال : ( هل حشدتم كما أمرتكم ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه؟ ) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ( أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً . قلنا : نعم ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ) ثلاثاً ، ( هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً ، قلنا : نعم ، قال : فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه (1) .
وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً ، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية ، قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع ، فسمعتُه يقول : ( يا أيُّها النَّاسُ ، اتَّقوا الله ، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله ) (2) .
وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة (3) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7678 ) وإسناده ضعيف من أجل عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وأبيه .
(2) أخرجه : أحمد 6/402 ، والترمذي ( 1706 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) في " صحيحه " 4/79 ( 1298 ) ( 311 ) من حديث أم الحصين ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع ، يقول : ( اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكُم ، وصوموا شهركم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخُلُوا جنَّةَ ربِّكم ) (1) ، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال : ( يا أيُّها النَّاس ، إنَّه لا نبيَّ بعدي ، ولا أمَّةَ بعدكم ) وذكر الحديث بمعناه (2) .
وفي " المسند " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً ، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً ، وسمع وأطاع ، فله الجنَّة ، أو دخل الجنَّة ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ ) ، وفي روايةٍ : ( حبشي ) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده ، وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " (4) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/251 و262 ، والترمذي ( 616 ) ، وقال الترمذي : ( حسن
صحيح ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7535 ) و( 7617 ) و( 7622 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 543 ) و( 834 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وهو صحيح.
(3) مسند الإمام أحمد 2/361 – 362 ، وإسناده ضعيف لجهالة المتوكل أو أبي المتوكل الراوي عن أبي هريرة ، وفي السند بقية بن الوليد مدلس ويدلس تدليس التسوية وقد عنعن .
(4) الصحيح 9/78 ( 7142 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع ، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . والأحاديث في المعنى كثيرة جداً .
ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس اثنان ) (2) ، وقوله : ( النّاس تبعٌ لقريش ) (3) ، وقوله : ( الأئمة من قريش ) (4) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ (5) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ أبرارها ، وفجارُها أمراءُ فجارها ، ولكلٍّ حقٌّ ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً ، فاسمعوا له وأطيعوا ) وإسناده جيد ، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً (6) ، وقال الدارقطني (7) : هو أشبه .
__________
(1) الصحيح 2/120 ( 648 ) ( 240 ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1956 ) ، وأحمد 2/29 ، والبخاري 9/78 ( 7140 ) ، ومسلم 6/2 ( 1820 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1122 ) ، وابن حبان ( 6266 ) من حديث ابن عمر ، به .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 2380 ) ، وأحمد 2/242 ، والبخاري 4/217 ( 3495 ) ، ومسلم 6/2 ( 1818 ) ( 1 ) و( 2 ) ، والبيهقي 8/141 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) أخرجه : الطيالسي ( 2133 ) ، وابن أبي شيبة ( 32388 ) ، وأحمد 3/129 و183 ، والنسائي في " الكبرى " ( 5942 ) ، وأبو يعلى ( 3644 ) و( 4032 ) ، والبيهقي 8/144 من حديث أنس بن مالك ، به ، وهو حديث صحيح .
(5) في " المستدرك " 4/75 – 76 .
(6) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1517 ) و( 1518 ) .
(7) في " العلل " 3/199 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : ( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة ) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن يعِشْ منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) . هذا إخبارٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة ، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده ، والسُّنة : هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 4017 ) ، وابن حبان ( 1610 ) و( 1611 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/217 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 479 ) من حديث أبي ذر ، به ، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه وتفصيل طرقه ورواياته في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه . =
= ... ومفحص القطاة : هو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض ، كأنَّها تفحص عنه التراب ، أي : تكشفه . النهاية 3/415 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات ؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ ، كما صحَّ عنه أنَّه قال : ( إنَّما الطَّاعةُ في المعروف ) (1) .
وفي " المسند " (2) عن أنس : أنَّ معاذَ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيتَ إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك ، ولا يأخذون بأمركَ ، فما تأمرُ في أمرهم ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل - ) .
وخرَّج ابن ماجه (3) من حديث ابن مسعود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ) فقلت : يا رسول الله إنْ أدركتُهم ، كيف أفعلُ ؟ قال : ( لا طاعة لمن عصى الله ) .
وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته ، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة ، كاتِّباع سنته ، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/82 و94 ، والبخاري 5/203 ( 4340 ) و9/78 ( 7145 ) و9/109 ( 7257 ) ، ومسلم 6/15 ( 1840 ) ( 39 ) و6/116 ( 1840 ) ( 40 ) ، وأبو داود ( 2625 ) ، والنسائي 7/159 – 160 وفي " الكبرى " ، له ( 8722 ) من حديث علي بن أبي طالب ، به .
(2) مسند الإمام أحمد 3/213 ، وإسناده لا بأس به إن شاء الله .
(3) في " سننه " ( 2865 ) ، وإسناده حسن .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) و" جامع الترمذي " (2) عن حُذيفة قال : كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً ، فقال : ( إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم ، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار ، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ ، فصدقوه ) ، وفي روايةٍ : ( تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ ، واهتدوا بهدي عمار ) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده ، والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم : أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ، فإنَّ في حديث سفينة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً ) (3) ، وقد صححه الإمام أحمد ،
واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة (4) .
__________
(1) المسند 5/385 و399 و400 .
(2) الجامع الكبير ( 3663 ) و( 3799 م ) ، وقال في الموضع الثاني : ( هذا حديث حسن ) على أنَّه أشار إلى الاختلاف في إسناده .
(3) أخرجه : أحمد 5/220 و221 ، وأبو داود ( 4646 ) و( 4647 ) ، وابن أبي عاصم في
" الآحاد والمثاني " ( 113 ) و( 139 ) و( 140 ) وفي " السنة " ، له ( 1181 ) و( 1185 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1402 ) و( 1403 ) و( 1404 ) و( 1405 ) و( 1407 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8155 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 3349 ) ، وابن حبان ( 6657 ) و( 6943 ) .
(4) قال عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1400 ) : ( سمعت أبي يقول : … أما الخلافة فنذهب إلى حديث سفينة فنقول : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلفاء ).
● [ الصفحة التالية ] ●
ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً ، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد (1) من حديث حُذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة ، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكونُ مُلكاً جبرية ، فتكون ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة ) ثُمَّ سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجلٌ ، فحدَّثه بهذا الحديث ، فسُرَّ به ، وأعجبه .
وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ ، فيقول : نهى عنه إمامُ هدى : عمرُ بن عبد العزيز (2) .
وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة : هل هو إجماعٌ ، أو حُجَّةٌ ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد (3) ، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء ، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق .
__________
(1) في " مسنده " 4/273 ، وإسناده حسن .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/257 .
(3) انظر : البحر المحيط للزركشي 3/527 – 528 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً ، ولم يُخالفه منهم أحدٌ ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة ، فهل يقدم قولُه على قول غيره ؟ فيه قولان أيضاً للعلماء ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة ، وكذا ذكره الخطابيُّ (1) وغيره ، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك ، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال : ( إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه ) (2) . وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه ، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه ) .
__________
(1) في " معالم السنن " 4/278 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 31986 ) ، وأحمد 2/401 ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 1250 ) ، وابن حبان ( 6889 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه أيضاً : ابن سعد في "طبقاته" 2/335 ، وأحمد 2/53 و95 وفي "فضائل الصحابة" ، له ( 313 ) ، والترمذي ( 3682 ) ، وابن حبان ( 6895 ) من حديث ابن عمر ، به ، وهو حديث قويٌّ بمجموع طرقه .