بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
[ فلينظر الإنسان مما خلق ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من الأرض أي مما تحويه وذلك قوله : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } طه/55 ، فخلقه من ترابها و هذا قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } آل عمران/59 .
وفي ذلك آيات في القرآن كثيرة .
ثم جبلت تربتها بالماء فكانت طيناً وفي ذلك يقول رب العالمين : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون } الأنعام/2 .
وفي ذلك أيضاً آيات كثيرة أيضاً .
وكان الطين لازباً - أي : لاصقاً ، وقيل : لزجاً - وفي هذا يقول تعالى : { إنا خلقناهم من طين لازب } الصافات/11 .
قال ابن منظور : ولَزِبَ الطينُ يَلْزُبُ لُزُوباً ، و لزُبَ : لَصِقَ وصَلُب َ، وفي حديث عليّ عليه السلام : دخَل بالبَلَّةِ حتى لَزَبَتْ أَي لَصقتْ ولزمت ْ. وطينٌ لازبٌ أَي لازقٌ . قال الله تعالى : من طِينٍ لازبٍ . " لسان العرب " 1/738 .
ثم صار هذا الطين اللازب منتناً فقال تعالى في ذلك : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون } الحجر/26 .
قال الرازي :
الحَمَأُ : بفتحتين والحَمَأةُ بسكون الميم الطين الأسود . " مختار الصحاح " ص/64 .
وقال في " لسان العرب " 1/61 :
حمأ : الحَمْأَةُ ، والحَمَأُ : الطين الأَسود المُنتن ؛ وفي التنزيل : { من حَمَإٍ مسنون } .
وقال في " لسان العرب " ( 13 / 227 ) :
المَسْنون : المُنْتِن ، وقوله تعالى { مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ } : قال أَبو عمرو : أَي متغير منتن؛ وقال أَبو الهيثم : سُنَّ الماءُ فهو مَسْنُون أَي : تغيَّر .
وحيث أن هذا الطين كان مخلوطاً بالرمل : فهذا هو الصلصال .
قال الرازي :
الصَّلْصالُ : الطين الحر خُلط بالرمل فصار يَتَصَلْصَلُ إذا جف ، فإذا طُبخ بالنار فهو الفخار. " مختار الصحاح " 1/154
وقال في " لسان العرب " ( 11 / 382 ) :
والصَّلْصالُ مِن الطِّين : ما لم يُجْعَل خَزَفاً ، سُمِّي به لَتَصَلْصُله ؛ وكلُّ ما جَفَّ من طين أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً ، وطِينٌ صِلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد .
ثم شبه الصلصال بالفخار وذلك قوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } الرحمن/14 .
وهذا كله يصدقه حديث أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب " . رواه الترمذي ( 2955 ) وأبو داود ( 4693 ) . والحديث : قال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وصححه ابن حبان (14/29) والحاكم (2/288) والألباني في صحيح أبي داود 3926.
هذا خلق آدم عليه السلام : من الأرض - من ترابها - ، ثم جُبل بالماء فكان طيناً ثم صار طيناً أسود منتناً وكون ترابه من الأرض التي بعضها رمل لما جبل كان صلصالاً كالفخار .
ولذلك لما وصف الله خلق آدم في القرآن في كل مرة وصفه بأحد أطواره التي مرَّت بها طريقة خلقه وتكوينة طينته فلا تعارض في آيات القرآن .
ثم أصبح أبناء آدم بعد ذلك يتكاثرون وصار خلقهم من الماء وهو المني الذي يخرج من الرجال والنساء وهو معروف .
وهذا يبينه القرآن في قوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهراً } النور/54 ، وقوله تعالى : { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } السجدة/8 .
قال ابن القيم رحمه الله :
لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وإنشاءهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدَّره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصَّلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها …
- ثم ذكر تناسل الخلق بالجماع وإنزال المني - . " التبيان في أقسام القرآن " ( ص 204 ) .
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ ولا تلبسوا الحق بالباطل ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42)الآية وردت في سياق خطاب بني إسرائيل، وهي عطف على قوله - تعالى -: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }(البقرة :40) وجاءت الآية انتقالاً من غرض التحذير من الضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة: 41) إلى غرض التحذير من الإضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق).
واللَّبس في اللغة، بفتح اللام: الخلط؛ وهو من الفعل (لَبَسَ) بفتح الباء؛ يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، ومنه قوله - تعالى -: {وللبسنا عليهم ما يلبسون}(الأنعام: 9) ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس، بكسر اللام، من الفعل (لَبِسَ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: الأمر الثابت؛ من حَقَّ، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ يقال: بطل بُطلا وبطلانًا، إذا ذهب ضياعًا وخسرًا، وذهب ماله بُطلاً، أي: هدرًا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب؛ وعن أبي العالية قال: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به؛ فالمراد إذًا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.
وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويج الباطل وإظهاره في صورة الحق، وهذا اللَّبْس هو المبتدأ في التضليل، وإليه الانتهاء في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وفي بعض تاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
وقوله - تعالى -: {وتكتموا الحق} عطف على قوله - سبحانه -: {ولا تلبسوا} والمعنى: النهي عن الخلط بين الحق والباطل مقرونًا بكتمان الحق؛ ولك أيضًا أن تجعله منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، والتقدير (وأن تكتموا الحق) والمعنى عليه: لا تخلطوا الحق بالباطل، حال كونكم كاتمين للحق؛ وعلى كلا التوجيهين فالمقصود من الخطاب القرآني النهي عن الخلط بين الحق والباطل، إذ لكل واحد منهما مجاله ووجهته، فلا مجال للقصد إليهما، ولا مجال للخلط بينهما، ولم يبق إلا الفصام بينهما؛ والنهي أيضًا عن كتمان الحق، لما فيه من التضليل والتحريف وطمس الحقيقة التي جاء الإسلام بها للناس كافة.
وتفاديًا لما وقع فيه اليهود من الخلط والكتمان،
وقوله - تعالى -: {وأنتم تعلمون} جملة حالية، فيه دليل على أن كفرهم كان كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، إذ الواجب على الإنسان أن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم بحكمه، خاصة إذا كان ذاك الشيء من أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي لها إنما أذن الله به لمن كان أهلاً ومؤهلاً لذلك، أما الجاهل فليس له من الأمر شيء، وليس له من سبيل إلى ذلك.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، والصواب في أمرنا، والإخلاص في قصدنا، وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين..
[ أتأمرون الناس بالبر ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - سبحانه -: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44)
وردت هذه الآية في سياق تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيان ما كان من أمرهم؛ والغرض من الآية - والله أعلم - بيان حال اليهود، ومن كان على شاكلتهم، وسار على سَنَنِهم، على كمال خسارهم، ومبلغ سوء حالهم، الذي وصلوا إليه؛ إذ صاروا يقومون بالوعظ والتعليم، كما يقوم الصانع بصناعته، والتاجر بتجارته، والعامل بعمله، لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها، ليستحقوا بذلك ما يُعَوَّضون عليه من مراتب ورواتب؛ فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمراد بـ {الناس} في الآية، العامة من أمة اليهود؛ والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
و{البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب.
ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله - تعالى -في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
و (النسيان) في قوله - جل وعلا -: {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله - تعالى -: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وقوله أيضًا: {فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام: 44) وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ.
وقوله - سبحانه -: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.
والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.
وأخيرًا: نختم قولنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله - تعالى -: {أتأمرون الناس بالبر} وقوله: {لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2) وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ فإني قريب أجيب الداع إذا دعان ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
دعوة القرآن إلى الدعاء والحث عليه وردت في مواضع عديدة من كتاب الله، نختار منها قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) وقوله - سبحانه -: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} (الأعراف: 55) وقوله - جلا وعلا -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الدعاء.
والدعاء من جهة اللغة يطلق على سؤال العبد من الله حاجته، ويطلق من جهة الشرع على معان عدة، منها العبادة، وعلى هذا فُسر قوله - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} أي: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني؛ وعن ثابت، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا، بل هو العبادة كلها.
وإذا كان الدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، فإن العبادة أيضًا هي الدعاء، إذ لا تخلو عبادة من الدعاء، ولكن ما نريد إدارة الحديث حوله هنا، هو أهمية الدعاء بمعناه الأصلي واللغوي، ونقصد بذلك توجه العباد إلى الله - تعالى -طلبًا لقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهو أمر يكاد يغفل عنه كثير من المسلمين، مع ندب الشرع إليه، وشدة احتياجهم إليه.
فمن فضل الله- تبارك وتعالى - وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة؛ ففي الحديث: (يقول الله - تعالى -: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني} [رواه مسلم]. وفي حديث آخر: {إن الله - تعالى -ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين} [رواه أحمد].
ويلاحظ أن طلب الدعاء في الخطاب القرآني جاء مقرونًا ومرتبًا عليه الإجابة؛ فالعلاقة بينهما علاقة السبب بالمسبَّب، والشرط بالمشروط، والعلة بالمعلول، فليس على العبد إلا الالتجاء إلى الله - بعد الأخذ بالأسباب - وطلب العون منه في كل عسر ويسر، وفي المنشط والمكره، ووقت الفرج ووقت الكرب؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما إن يدخر له، وإما إن يكف عنه من السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر) [رواه أحمد].
وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) [رواه البخاري ومسلم].
قال السدي في تفسير قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع} ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروها.
والذي نخرج به مما تقدم، أن أمر الدعاء في حياة المسلم لا ينبغي أن يُقَلِّل من شأنه، ولا أن يحرم المسلم نفسه من هذا الخير الذي أكرمه الله به، والمسلم حريص على الخير، أولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واحرص على ما ينفعك) وتأمل في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (احرص) ليتبين لك قيمة هذا الهدي النبوي. ولا شك فإن النفع كل النفع في الدعاء، وخاصة إذا استوفى أسبابه؛ ولعل فيما خُتمت فيه آية البقرة: {لعلهم يرشدون} ما يؤكد هذا المعنى؛ كما أنَّ فيما خُتمت به آية غافر: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ما يشد من أزر هذا المعنى، والله أعلم.
اللهم وفقنا لكل خير، وافتح لنا أبواب الدعاء إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أخبر - سبحانه - في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية.
وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله - سبحانه - ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكو ن ابتلاء واختبارًا وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها.
كتب عمر - رضي الله عنه - رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم.
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال".
وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله - سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال - تعالى -: {فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10) وفي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه - سبحانه - بين عباده ليس محصورًا ومقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين.
ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله - تعالى -: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة - رضي الله عنها -، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} رواه الترمذي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله - سبحانه - أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله.
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله.
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
[ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ]
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يعني تعالى ذكره بقوله: إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلاَّ الله ورسوله والمؤمنون، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من ولاية يهود بني قَينُقاع وحلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ذكر من قال ذلك:
قال صاحب الضلال رحمه الله "هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون). .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . . إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء فهذه الصفات هي صفات الواجب توافرها في من يتخذهم أولياء احباب أنصار .
أسأل الله أن يرزقنا خير الاصحاب وأن يجمعنا في دار الخلد مع سيد الاولين والاخرين وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
وهذه نهاية المطاف مع ما استطعت الوقوف معه من الآيات القرآنية والمواعظ الإيمانية , وأسأل الله وأتوجه اليه أن يجعلنا من أهل القرآن وأن ينفع بهذا العمل ويجعله ذخرا لي يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[ تم كتاب : المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية ]
تأليف : أمير بن محمد المدري
تأليف : أمير بن محمد المدري