من طرف اسرة التحرير الجمعة ديسمبر 07, 2018 1:45 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث التاسع عشر ] ●
عَنْ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ : كُنتُ خَلفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :
( يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلماتٍ : احفَظِ الله يَحْفَظْكَ ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سَأَلْت فاسألِ الله ، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ ).
رواه الترمذيُّ ، وقال : حديثٌ حسنَ صَحيحٌ .
وفي رواية غير التِّرمذي :
( احفظ الله تجده أمامَك ، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً ) .
الشرح
هذا الحديث خرَّجه الترمذيُّ(1) من رواية حَنَشٍ الصنعاني ، عن ابنِ عباس ، وخرَّجه الإمامُ أحمد(2)
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2516 ) .
(2) في " مسنده " 1/293 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 2556 ) ، والطبراني في " الكبير " 12/( 12988 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 426 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
من حديث حنش أيضاً مع إسنادَيْن آخرين منقطعين(1) ولم يُميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : ( يا غلام أو يا غليم ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ ينفعُك الله بهنَّ ؟ ) فقلتُ : بلى ، فقالَ : ( احفظِ الله يحفَظْكَ ، احفظ الله تجدهُ أمامك ، تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ ، وإذا سألتَ ، فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ ، فاستعن بالله ، قد جفَّ القلمُ بما هوَ كائن ، فلو أنَّ الخلق كُلَّهم جميعاً أرادوا أنْ ينفعوك بشيءٍ لم يقضه الله ، لم يَقدِرُوا عليهِ ، وإنْ أرادوا أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا
عليه ، واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، وأنَّ النصر مع الصبر ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ ، وأنَّ مع العسر يسراً ) .
وهذا اللفظُ أتمُّ من اللفظ الذي ذكره الشيخ - رحمه الله - ، وعزاه إلى غير التِّرمذي ، واللفظُ الذي ذكره الشيخ رواه عبدُ بنُ حُميد في " مسنده " بإسناد ضعيفٍ عن عطاء(2) ، عن ابن عباس ، وكذلك عزاه ابنُ الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصلُ أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بنِ حُميد وغيره .
__________
(1) في " مسنده " 1/307 .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 636 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طُرقٍ كثيرة من روايةٍ جماعةٍ منهم(1) : ابنه عليٍّ ، ومولاه عكرمة(2) ، وعطاء بن أبي رباح(3) ، وعمرو بن دينار ، وعُبيد الله بن عبد الله(4) ، وعمر مولى غفرة ، وابن أبي مليكة(5) وغيرهم(6) .
وأصحُّ الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي(7) ، كذا قاله ابنُ منده وغيرُه . وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى ابن عباس بهذه الوصية من حديث عليِّ بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري(8) ، وسهل بن سعد(9)
__________
(1) عبارة : ( جماعة منهم ) سقطت من ( ج ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11560 ) .
(3) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 3/53 ، والطبراني في " الكبير " ( 11416 ) وفي " الأوسط " ، له ( 5417 ) ، والآجري في " الشريعة " : 198 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/314 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء الكبير " 3/398 ، والطبراني في " الكبير " ( 11243 )
و( 11416 ) ، والحاكم 3/542 ، والبيهقي في " الآداب " ( 933 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " 11/117-118 ( 109 ) و( 110 ) .
(6) أخرجه : الحاكم 3/541-542 من طريق عبد الملك بن عمير .
(7) في " الجامع الكبير " ( 2516 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 12988 ) و( 12989 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 425 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 174 ) من طريق حنش أيضاً .
(8) أخرجه : أبو يعلى ( 1099 ) ، والآجري في " الشريعة " : 199 ، وابن عدي في " الكامل " 9/77 ، والخطيب في " تاريخه " 14/124 .
(9) أورده الدارقطني في " الأفراد " – كما في الأطراف - ( 2140 ) وقال عقبه : ( تفرد به زهرة بن عمرو التيمي ) .
ولم يذكره البخاري ولا ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل . انظر : التاريخ الكبير 3/366 ، والجرح والتعديل 3/544 ( 5078 ) ولم أعثر على ترجمة له في غير هذين الكتابين .
● [ الصفحة التالية ] ●
، وعبد الله بن جعفر(1) ، وفي أسانيدها كلها ضعف .
وذكر العقيلي أنَّ أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضُها أصلحُ من بعض(2) ، وبكلِّ حال ، فطريق حنشٍ التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .
وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء(3) : تدبرتُ هذا الحديثَ ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث ، وقِلَّةِ التفهم لمعناه .
قلت : وقد أفردت لشرحه جزءاً كبيراً ونحن نذكر هاهنا مقاصِدَهُ على وجه الاختصار إنْ شاء الله تعالى(4) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( احفظِ الله ) يعني : احفظ حدودَه ، وحقوقَه ، وأوامرَه ،
ونواهيَه ، وحفظُ ذلك : هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتنابِ ، وعندَ حدوده ، فلا يتجاوزُ ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه ، وقال - عز وجل - : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } (5) . وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامرِ الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها .
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها ، فقال : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } (6) ومدح المحافظين عليها بقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (7) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 315 ) .
(2) انظر : الضعفاء الكبير 3/54 .
(3) في ( ص ) : ( أبو الفرج ) .
(4) وهو كتاب مطبوع اسمه " نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس " .
(5) ق : 32-33 .
(6) البقرة : 238 .
(7) المعارج : 34 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ حافظ عليها ، كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَه الجنَّة )(1) وفي حديثٍ آخرَ : ( من حافظ عليهنَّ ، كُنَّ له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة )(2) .
وكذلك الطهارة ، فإنَّها مفتاحُ الصلاة ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن )(3) .
وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ ، قال الله - عز وجل - : { واحْفَظوا أَيْمَانَكُم } (4) ، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيراً ، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 4575 ) ، والحميدي ( 388 ) ، وأحمد 5/315 و317 ، والدارمي ( 1585 ) ، وأبو داود ( 1420 ) ، والنسائي 1/230 وفي " الكبرى " ، له
( 314 ) ، وابن حبان ( 1731 ) و( 2417 ) ، والبيهقي 1/361 والبغوي ( 977 ) من حديث عبادة بن الصامت ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : أحمد 2/169 ، وعبد بن حميد ( 353 ) ، والدارمي ( 2721 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 3180 ) و( 3181 ) ، وابن حبان ( 1467 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1788 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو حديث قويٌّ .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 6807 ) من طريق قتادة بن ربعي ، به .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 996 ) ، وابن أبي شيبة ( 35 ) ، وأحمد 5/276 و280 و282 والدارمي ( 656 ) ، وابن ماجه ( 277 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 167 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1444 ) ، والحاكم 1/130 ، والبيهقي 1/457 ، والخطيب في " تاريخه " 1/293 ، وفي إسناده انقطاع . =
= وأخرجه : ابن ماجه ( 278 ) من طريق عبد الله بن عمرو ، به .
وأخرجه : الطبراني في " مسند الشاميين " ( 217 ) عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به .
(4) المائدة : 89 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومن ذلك حفظُ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع : ( الاستحياءُ من الله حَقَّ الحياء أنْ تَحْفَظَ الرأس وما وَعَى ، وتحفظ البطنَ وما حوى ) خرَّجه الإمام أحمد والترمذي(1) .
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات ، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم . قال الله - عز وجل - : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } (2) ، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (3) .
ويتضمن أيضاً حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب .
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله - عز وجل - : اللسانُ والفرجُ ، وفي حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ حَفِظَ ما بَينَ لَحييه ، وما بَينَ رِجليهِ ، دَخَلَ الجنة ) خرَّجه الحاكم(4) .
وخرَّج الإمام أحمد(5)
__________
(1) في " مسنده " 1/387 ، والترمذي ( 2458 ) ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34320 ) ، والحاكم 4/323 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 7730 ) و( 10561 ) ، والبغوي ( 4033 ) .
(2) البقرة : 235 .
(3) الإسراء : 36 .
(4) في " المستدرك " 4/357 .
وأخرجه : الترمذي ( 2409 ) وفي " العلل " ، له ( 614 ) ، وابن حبان ( 5703 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(5) في " مسنده " 4/398 .
وأخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 7/54 ، وعبد الله بن أحمد في " زوائده على الزهد " : 264 ، وأبو يعلى ( 7275 ) ، والحاكم 4/358 ، وتمام في فوائده كما في "الروض البسام" ( 1116 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 545 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5755 ) ، وهو حديث قويٌّ بشواهده .
● [ الصفحة التالية ] ●
من حديث أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ حَفِظ ما بينَ فَقْمَيهِ وفرجه ، دخل الجنة ) .
وأمر الله - عز وجل - بحفظ الفروج ، ومدحَ الحافظين لها ، فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } (1) ، وقال : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (2) ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } (3) .
وقال أبو إدريس الخولاني : أوَّلُ ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض : حفظُ فرجه ، وقال : لا تضعه إلا في حلال .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحفظك ) يعني : أنَّ من حفظَ حدود الله ، وراعى حقوقَه ، حفظه الله ، فإنَّ الجزاء من جنس العمل ، كما قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } (4) ، وقال : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (5) ، وقال : { إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ } (6) .
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان :
أحدهما : حفظه له في مصالح دنياه ، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ، قال الله - عز وجل - : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ } (7) . قال ابن عباس : هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله ، فإذا جاء القدر خَلُّوْا عنه(8) .
__________
(1) النور : 30 .
(2) الأحزاب : 35 .
(3) المؤمنون : 1-6 .
(4) البقرة : 40 .
(5) البقرة : 152 .
(6) محمد : 7 .
(7) الرعد : 11 .
(8) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15345 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدرْ فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينَه ، وإنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة(1) .
وقال مجاهد : ما مِنْ عبدٍ إلاَّ له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامِّ ، فما من شيء يأتيه إلا قال : وراءك ، إلا شيئاً أذن الله فيه فيصيبه(2) .
وخرَّج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي من حديث ابن عمر ، قال : لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هؤلاء الدَّعوات حين يُمسي وحين يُصبح : ( اللهمّ إني أسألُكَ العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إنِّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهمَّ استُر عورتي، وآمن روعتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغتَالَ من تحتي )(3) .
ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته ، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15371 ) .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15352 ) .
(3) أخرجه : أحمد 25/25 ، وأبو داود ( 5074 ) ، والنسائي 8/382 ، وفي " الكبرى " ، له
( 10401 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 566 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 29278 ) ، وعبد بن حميد ( 837 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 698 ) و( 1200 ) ، وابن ماجه ( 3871 ) ، وابن حبان ( 961 ) ، والطبراني في " الكبير" ( 13296 ) ، والحاكم 1/517 ، وهو حديث صحيح .
● [ الصفحة التالية ] ●
كان بعض العلماء قد جاوز المئة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله ، فوثب يوماً وثبةً شديدةً ، فعُوتِبَ في ذلك ، فقال : هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر ، فحفظها الله علينا في الكبر(1) . وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخاً يسأل الناسَ ، فقال : إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره ، فضيَّعه الله في كبره .
وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى : { وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحاً } (2) : أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما(3) . قال سعيد بن المسيب لابنه : لأزيدنَّ في صلاتي مِنْ أجلِك ، رجاءَ أنْ أُحْفَظَ فيكَ ، ثم تلا هذه الآية { وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحاً } (4) ، وقال عمرُ بن عبد العزيز : ما من مؤمن(5) يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه .
وقال ابن المنكدرِ : إنَّ الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويرات التي حوله فما يزالونَ في حفظ من الله وستر(6) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 17/668 .
(2) الكهف : 82 .
(3) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 332 ) ، والحميدي ( 372 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17543 ) ، والحاكم 2/369 .
(4) ذكره : البغوي في " تفسيره " 3/211 .
(5) في ( ص ) : ( عبد ) .
(6) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 330 ) ، والحميدي ( 373 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/148 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله ، فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال ، وفي " مسند الإمام أحمد " عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كانت امرأةٌ في بيتٍ ، فخرجت في سريَّةٍ من المسلمين ، وتركت ثنتي عشرة عنزاً وصيصيتها كانت تنسج بها ، قال : ففقدت عنزاً لها وصيصيتها ، فقالت : يا ربِّ ، إنَّك قد ضَمِنْتَ لمن خرج في سبيلك أنْ تحفظَ عليه ، وإنِّي قد فَقَدتُ عنزاً من غنمي وصيصيتي ، وإني أَنْشُدُكَ عنزي وصيصيتي ) . قال : وجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدَّة مناشدتها ربَّها تبارك وتعالى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فأصبحت عنزها ومثلها ، وصيصيتها ومثلها )(1) .
والصيصية : هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج(2) .
فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كُلِّ أذى . قال بعضُ السَّلف : من اتقى الله ، فقد حَفِظَ نفسه ، ومن ضيَّع تقواه ، فقد ضيَّع نفسه ، والله الغنىُّ عنه .
ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أنْ يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى ، كما جرى لِسَفِينةَ مولى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كُسِرَ به المركبُ ، وخرج إلى جزيرة ، فرأى الأسدَ ، فجعل يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق ، فلمَّا أوقفه عليها ، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُوَدِّعُهُ ، ثم رجع عنه(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/67 ، هذا الحديث مما تفرد به الإمام أحمد ، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/277 : ( رجاله رجال الصحيح ) .
(2) انظر : العين : 538 ( صيص ) .
(3) أخرجه : البزار كما في "كشف الأستار" ( 2733 ) وهو في "مسنده" ( 3838 )، والطبراني في " الكبير " ( 6432 ) ، والحاكم 3/606 ، وانظر : مجمع الزوائد 9/366-367 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ورؤي إبراهيمُ بن أدهم نائماً في بستان وعنده حَيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس ، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ(1) .
وعكسُ هذا أنَّ من ضيع الله ، ضيَّعهُ الله ، فضاع بين خلقه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم ، كما قال بعض السَّلف : إني لأعصي
الله ، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي(2) .
النوع الثاني من الحفظ ، وهو أشرف النوعين : حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه ، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة ، ومن الشهوات المحرَّمة ، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته ، فيتوفَّاه على الإيمان ، قال بعض السلَّف : إذا حضر الرجل الموت يقال للملك : شمَّ رأسه ، قال : أجد في رأسه القرآن ، قال : شمَّ قلبه ، قال : أجد في قلبه الصيام ، قال : شمَّ قدميه ، قال : أجد في قدميه القيام ، قال : حَفظَ نفسَه ، فحفظه الله.
وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب(3)
__________
(1) سرد هذه القصة عبد الله بن فرج العابد . انظر : حلية الأولياء 8/109 ، وصفة الصفوة 2/105 .
(2) قال هذا الكلام : الفضيل بن عياض . انظر : حلية الأولياء 8/109 .
(3) الذي وجدناه في الصحيحين عن أبي هريرة .
أخرجه : البخاري 9/145 ( 7393 ) ، ومسلم 8/79 ( 2714 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 19830 ) ، وأحمد 2/246 ، وابن ماجه ( 3874 ) ، والترمذي ( 3401 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 791 ) ، وابن حبان ( 5535 ) .
ورواية البراء بن عازب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة . ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : اللهم إني أسلمت وجهي إليك . وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك . لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك . آمنت بكتابك الذي أنزلت . وبنبيك الذي أرسلت . واجعلهن من آخر كلامك . فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة ) .
أخرجه : الطيالسي ( 708 ) ، وأحمد 4/290 ، والبخاري 1/71 ( 247 ) و8/84
( 6311 ) ، ومسلم 8/77 ( 2710 ) ( 57 ) و( 58 ) ، وأبو داود ( 5046 )
و( 5048 ) ، والترمذي في " الدعوات " ( 3574 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 780 ) و( 782 ) و(785) .
● [ الصفحة التالية ] ●
، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه : إنْ قبضتَ نفسي فارحمها ، وإنْ أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين .
وفي حديث عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علمه أنْ يقول : اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائماً ، واحفظني بالإسلام قاعداً ، واحفظني بالإسلام راقداً ، ولا تُطِعْ فيَّ عدواً ولا حاسداً . خرَّجه ابن حبان في " صحيحه " (1) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يودِّع من أراد سفراً ، فيقول : ( استودعُ الله دينكَ وأمانتَكَ وخواتِيمَ عملك ) ، وكان يقول : ( إنَّ الله إذا استُودعَ شيئاً حَفِظَهُ ) . خرَّجه النَّسائي وغيره(2) .
وفي الجملة ، فالله - عز وجل - يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدود دينَه ، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها ، وقد يكونُ كارهاً له ، كما قال في حقِّ يوسُف - عليه السلام - : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } (3) .
قال ابن عباس في قوله تعالى : { أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } (4) ، قال : يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار(5) .
__________
(1) الإحسان ( 934 ) ، وفي إسناده ضعف .
(2) في " الكبرى " ( 10343 ) و( 10356 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 506 ) و( 513 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2826 ) ، وأحمد 2/7 ، وعبد بن حميد ( 834 ) ، وأبو يعلى ( 3883 ) و( 5624 ) ، وابن حبان ( 2693 ) و( 2710 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13384 ) و( 13571 ) ، والبيهقي 9/173 ، والبغوي ( 2011 ) ، وهو حديث صحيح .
(3) يوسف : 24 .
(4) الأنفال : 24 .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 12336 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 5/160 ( 8954 ) و( 8955 ) ، والحاكم 2/328 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي - : هانوا عليه ، فعَصَوْه ، ولو عزُّوا عليه لعصمهم(1) .
وقال ابنُ مسعود : إنَّ العبد ليهمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة حتى يُيسر له ، فينظر الله إليه فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإني إنْ يسرته له أدخلتُه النار ، فيصرفه الله عنه ، فيظلُّ يتطيَّرُ يقول : سبقني فلان ، دهاني فلان ، وما هو إلا فضل الله - عز وجل - .
وخرَّجه الطبراني من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يقول الله - عز وجل - : إنَّ من عبادي من لا يُصلحُ إيمانَهُ إلاَّ الفقر ، وإنْ بسطت عليه أفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانَه إلا الغنى ، ولو أفقرتُه ، لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلاَّ الصِّحَّة ، ولو أسقمته ، لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححتُه ، لأفسده ذلك ، وإنَّ مِنْ عبادي من يطلب باباً من العبادة ، فأكُفُّه عنه ، لكيلا يدخله العُجْبُ ، إني أُدبِّر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليمٌ خبير )(2) .
__________
(1) لم أعثر على كلام الحسن وما وجدته عن أبي سليمان الداراني بلفظ : ( هانوا عليه فتركهم وعصوا ، ولو كرموا عليه منعهم عنها ) . انظر : حلية الأولياء 9/261 ، وشعب الإيمان 5/447 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " 10/270 ، وأبو نعيم في "الحلية" 8/319 ، وهو حديث ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( احفظ الله تجده تجاهك ) ، وفي رواية : ( أمامك ) معناه : أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله ، وراعى حقوقه ، وجد الله معه في كُلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُهُ وينصرهُ ويحفَظه ويوفِّقُه ويُسدده فـ { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (1) قال قتادة : من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه ، فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل(2) .
كتبَ بعضُ السَّلف إلى أخٍ له : أمَّا بعد ، فإنْ كان الله معك فمن تخاف ؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو ؟
وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون : { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (3) ، وقول موسى : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } (4) . وفي قول
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وهما في الغار : ( ما ظَنُّكَ باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن إنَّ الله
معنا )(5) .
__________
(1) النحل : 128 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/340 .
(3) طه : 46 .
(4) الشعراء : 62 .
(5) أخرجه: أحمد 1/4، وعبد بن حميد ( 2 ) ، والبخاري 5/4 ( 3653 ) و5/83 ( 3922 ) و6/83 ( 4663 ) ، ومسلم 7/108 ( 2381 ) ، والترمذي ( 3096 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 16729 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 408 ) ، وابن حبان ( 6278 ) و( 6869 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/480 من حديث أنس ، عن أبي بكر الصديق ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ ، والحفظ والإعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (1) ، وقوله : { وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } (2) ، فإنَّ هذه المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم ، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه ،
والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه ، فمن حفظ الله ، وراعى حقوقه ، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ ، فاستأنس به ، واستغنى به عن خلقه ،
كما في حديث : ( أفضلُ الإيمان أنْ يعلمَ العبدُ أنَّ الله معه حيث كان )(3) وقد سبق .
ورُويَ عن بُنان الحمَّال : أنَّه دخل البريَّةَ وحدَه على طريق تبوك ، فاستوحش ، فهتف به هاتف : لِمَ تستوحش ؟ أليس حبيبُك معك ؟(4)
وقيل لبعضهم : ألا تستوحشُ وحدَك ؟ فقال : كيف أستوحش ، وهو يقول : ( أنا جليسُ مَنْ ذكرني ) (5)
__________
(1) المجادلة : 7 .
(2) النساء : 108 .
(3) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 741 ) وفي " الأسماء والصفات " ، له : 430 .
(4) سرد هذه الرواية أبو علي الروذباري . انظر : حلية الأولياء 10/324 ، وصفة الصفوة 2/271 .
(5) لم أعثر عليه وما وجدته عن نبي الله موسى عليه السلام بلفظ : ( قال موسى : يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ، قال : يا موسى أنا جليس من ذكرني ) .
أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34287 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
، وقيل لآخر : نراكَ وحدكَ ؟ فقال : من يكن الله معه ، كيف يكونُ وحده ؟ ، وقيل لآخر : أما مَعَكَ مؤنسٌ ؟ قال : بلى ، قيل له : أين هو ؟ قال : أمامي(1) ، وخلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي ، وفوقي . وكان الشبلي
ينشد :
إذا نَحْنُ أدلَجْنَا وأنت أمامَنا . كَفَى لِمَطايَانا بذِكرك هاديا(2)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تعرَّف إلى الله في الرَّخاء ، يعرفكَ في الشِّدَّةِ ) يعني : أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله ، وحَفِظَ حدودَه ، وراعى حقوقه في حال رخائه ، فقد تعرَّف بذلك إلى الله ، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة ، فعرفه ربَّه في الشدَّة ، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء ، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه ، ومحبته له، وإجابته لدعائه .
فمعرفة العبد لربه نوعان :
أحدُهما : المعرفةُ العامة ، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان ، وهذه عامةٌ للمؤمنين .
والثاني : معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية ، والانقطاع إليه ، والأُنس به ، والطمأنينة بذكره ، والحياء منه ، والهيبة له ، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون ، كما قال بعضهم : مساكينُ أهلُ الدُّنيا ، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها ، قيل له : وما هو ؟ قال : معرفةُ الله - عز وجل - .
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ : أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي ، وليس معرفتُه الإقرار به ، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه(3) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ج ) : ( ومعي ) .
(2) قائل هذا البيت هو عمرو بن شاس الأسدي ، له صحبة شهد الحديبية ، وكان ذا قدر وشرف ومنزلة في قومه . انظر : الإصابة 4/205-206 ( 6488 ) .
(3) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/196 بلفظ : ما أغبط أحداً إلا من عرف مولاه ، وأشتهي أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذين يستحبونه ، لا معرفة التصديق .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومعرفة الله أيضاً لعبده نوعان :
معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده ، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه ، كما قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } (1) ، وقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } (2) .
والثاني : معرفة خاصة : وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه ، وإجابةَ دعائه ، وإنجاءه من الشدائد ، وهي المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكى عن ربِّه : ( ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه ، فإذا أحببتُه ، كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يُبصرُ به ، ويدَه التي يبطِشُ بها ، ورجلَه التي يمشي بها ، فلئن سألني ، لأُعطِيَنَّهُ ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه ) ، وفي رواية : ( ولئن دعاني لأجيبنّه )(3) .
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد ، فقال له حبيب :
يا أبا سعيد ، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء ؟ ادخل البيتَ ، فدخل ، ودخل الشُّرَطُ على أثره ، فلم يرَوْهُ ، فذُكِرَ ذلك للحجاج ، فقال : بل كان في البيت ، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه .
واجتمع الفضيلُ بنُ عياض بشعوانة العابدة ، فسألها الدُّعاءَ ، فقالت : يا فضيلُ ، وما بينَك وبينَه ، ما إنْ دعوته أجابك ، فغُشِيَ على الفضيل(4) .
وقيل لمعروف : ما الذي هيَّجك(5) إلى الانقطاع والعبادة - وذكر له الموت والبرزخ والجنَّة والنار – ؟ فقال معروف : إنَّ ملكاً هذا كله بيده إنْ كانت بينك وبينه معرفةٌ كفاك جميع هذا .
__________
(1) ق : 16 .
(2) النجم : 32 .
(3) سيأتي تخريجه إن شاء الله ، وهو الحديث الثامن والثلاثون .
(4) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/34 .
(5) في ( ص ) : ( حملك ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي الجملة : فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه ، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته .
وخرَّج الترمذيُّ من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سرَّه أنْ يستجيب الله له عندَ الشَّدائد ، فليُكثرِ الدُّعاءَ في الرَّخاء )(1) .
وخرَّج ابنُ أبي حاتم(2) وغيرهُ من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنس يرفعه : أنَّ يونس - عليه السلام - لمَّا دعا في بطن الحوت ، قالت الملائكة : يا ربِّ ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة ، فقال الله - عز وجل - : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومَنْ هوَ ؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة ؟ قال : نعم ، قالوا : يا ربِّ ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى ، قال : فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء .
وقال الضحاك بن قيس : اذكروا الله في الرَّخاء ، يذكركُم في الشِّدَّة ، وإنَّ يونس - عليه السلام - كان يذكُرُ الله تعالى ، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت ، قال الله - عز وجل - : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (3) ، وإنَّ فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله ، فلما أدركه الغرق ، قال : آمنت ، فقال الله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } (4) (5) .
__________
(1) في " جامعه " ( 3382 ) ، وقال : ( غريب ) أي ضعيف .
وأخرجه : أبو يعلى ( 6396 ) و( 6397 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 44 ) ، وابن عدي في " الكامل " 7/58 ، والحاكم 1/544 .
(2) في " التفسير " 10/3228 ( 18281 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 2711 ) .
(3) الصافات : 143-144 .
(4) يونس : 91 .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34794 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال سلمان الفارسي : إذا كان الرجلُ دَعَّاءً في السرَّاء ، فنزلت به ضرَّاءُ ، فدعا الله تعالى ، قالت الملائكة : صوتٌ معروف فشفعوا له ، وإذا كان ليس بدَعَّاءٍ في السَّرَّاء ، فنَزلت به ضرَّاءُ ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة : صوتٌ ليس بمعروف ، فلا يشفعون له(1) .
وقال رجل لأبي الدرداء : أوصني ، فقال : اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله - عز وجل - في الضَّرَّاء(2) .
وعنه أنَّه قال : ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم ضرَّائك(3) .
وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة ، قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " 1/313 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/209 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 1/278 .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20267 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 718 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " 1/135 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/225 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1141 ) .
(4) الحشر : 18-19 .
● [ الصفحة التالية ] ●
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه ، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده ، ذكره الله عندَ هذه الشدائد ، فكان معه فيها ، ولَطَفَ به ، وأعانه ، وتولاَّه ، وثبته على التوحيد ، فلقيه وهو عنه راضٍ ، ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه ، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه ، نسيه الله في هذه الشدائد ، بمعنى أنَّه أعرض عنه ، وأهمله ، فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له ، أحسن الظنَّ بربه ، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ ، فأحبَّ لقاءَ الله ، وأحبَّ الله لقاءه ، والفاجرُ بعكس ذلك ، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه ، ويَنْدَمُ المفرطُ ، ويقول : { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ } (1) .
قال أبو عبد الرحمان السُّلمي قبلَ موته : كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان(2) .
وقال أبو بكر بنُ عيّاش لابنه عندَ موته : أترى الله يُضيِّعُ لأبيك أربعين سنة يَختِمُ القرآن كُلَّ ليلةٍ ؟(3)
وختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مسجَّى للموت ، ثم قال : بحُبِّي لك ، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع ؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم ، كنتُ أرجوكَ لا إله إلاَّ الله ، ثم قضى(4) .
__________
(1) الزمر : 56 .
(2) أخرجه : يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " 2/590 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/192 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/28 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/271 .
(3) أخرجه : ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/81 ، وذكره الخطيب في " تاريخه " 16/554 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/503 .
(4) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/217 ، والخطيب في " تاريخه " 7/489 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 1/160 ، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 10/337 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ ، رفع يديه ، وقال : اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ(1) .
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته : سيدي لهذه الساعة خبَّأتك ، ولهذا اليوم اقتنيتُك ، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك(2) .
وقال قتادة في قول الله - عز وجل - : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (3) قال : من الكرب عندَ الموت(4) .
وقال عليُّ بن أبي طلحَة ، عن ابن عباس في هذه الآية : يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة(5) .
وقال زيدُ بن أسلم في قوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (6) الآية . قال : يُبشر بذلك عند موته ، وفي قبره ، ويوم يُبعث ، فإنَّه لفي الجنة ، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه .
وقال ثابت البناني في هذه الآية : بلغنا أنَّ المؤمنَ حيث يبعثه الله من قبره ، يتلقاه مَلَكاه اللَّذانِ كانا معه في الدنيا ، فيقولان له : لا تخف ولا تحزن ، فيؤمِّنُ الله خوفَه ، ويُقِرُّ الله عينَه ، فما مِنْ عظيمة تَغشى الناس يومَ القيامة إلاَّ هي للمؤمن قرَّةُ عينٍ لما
هداه الله ، ولما كان يعملُ في الدُّنيا(7) .
__________
(1) أورده الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 10/443 .
(2) هو عبد الصمد بن عمر بن إسحاق ، كان من أهل الزهد والصلاح ، نقل كلامه هذا ابن عقيل ، عن بعض من حضر وفاته . انظر : صفة الصفوة 2/291 .
(3) الطلاق : 2 .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26573 ) .
(5) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26565 ) .
(6) فصلت : 30 .
(7) انظر : تفسير ابن كثير 1/100 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت ، فاستعن بالله ) هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (1) ، فإنَّ السؤال لله هو دعاؤُه والرغبةُ إليه ، والدُّعاء هو العبادة ، كذا روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث النعمان بن بشير ، وتلا قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (2) خرَّجه الإمامُ أحمد ، وأبو داود(3) ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه(4) .
وخرَّج الترمذي(5) من حديث أنس بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الدُّعاءُ مُخُّ العبادة ) ، فتضمن هذا الكلام أنْ يُسأل الله - عز وجل - ، ولا يُسأل غيره ، وأنْ يُستعان بالله دونَ غيره .
وأما السؤال ، فقد أمر الله بمسألته ، فقال : { وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ } (6) . وفي " الترمذي " (7)
__________
(1) الفاتحة : 5 .
(2) غافر : 60 .
(3) أبو داود ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه: أحمد 4/267 و271 و276 و277، وأبو داود ( 1479 )، والترمذي ( 2969 ) و( 2347 ) ، والنسائي في " التفسير " ( 484 ) ، وابن ماجه ( 3828 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1299 ) ، والطيالسي ( 801 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 714 ) ، وابن حبان ( 890 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 3901 ) وفي " الصغير " ، له ( 1041 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1 ) و( 4 ) ، والحاكم 1/491 ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(5) في " الجامع الكبير " ( 3371 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، قال الترمذي: ( غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة ) .
(6) النساء : 32 .
(7) في " الجامع الكبير " ( 3571 ) . = = ... وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " القناعة " 1/106 ، والطبراني في " الكبير " ( 10088 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1283 ) ، وهو حديث ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
عن ابن مسعود مرفوعاً : ( سَلُوا الله مِنْ فَضلِه ، فإنَّ الله يُحِبُّ أنْ يُسأل ) .
وفيه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من لا يسألِ الله يغْضَبْ عليه )(1) .
وفي حديثٍ آخرَ : ( ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجَتَه كلَّها حتَّى يسأله شِسْعَ نعلِه إذا انقطع )(2) .
وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة ، وقد بايع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه على أنْ لا يسألوا النَّاسَ شيئاً، منهم : أبو بكر الصدِّيق ، وأبو ذر ، وثوبان ، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته ، فلا يسأل أحداً أنْ يُناوله إياه(3)
__________
(1) الجامع الكبير ( 3373 ) .
وأخرجه : أحمد 2/442 و447 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 658 ) ، وابن ماجه ( 3827 ) ، وأبو يعلى ( 6655 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2452 ) وفي " الدعاء " ، له ( 23 ) ، والحاكم 1/491 ، وهو حديث ضعيف .
(2) أخرجه : البزار في " البحر الزخار " ( 3475 ) ، وأبو يعلى ( 3403 ) ، وابن حبان ( 866 ) و( 894 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 25 ) ، وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 2/289 ، وهو حديث قويٌّ .
(3) ومن هذه الأحاديث ما خرجه مسلم 3/96 ( 1043 ) عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً ، فقال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : ( ألا تبايعون رسول الله ؟ ) قال : فبسطنا أيدينا ، وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك ؟ قال : ( على أنْ تعبدوا الله ولا تشركون به شيئاً ، والصلوات الخمس . وتطيعوا ( وأسر كلمة خفية ) ، ولا تسألوا الناس شيئاً ) . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم . فما يسأل أحداً يناوله إياه .
أخرجه أيضاً : ابن زنجويه في "الأموال" ( 2065 ) ، وأحمد 6/27 ، وأبو داود ( 1642 ) ، وابن ماجه ( 2867 ) ، والبزار في " البحر الزخار " ( 2764 ) ، والنسائي 1/229 ، وابن حبان ( 3385 ) ، والطبراني في "الكبير" 17/( 67 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 335 ) و( 1929 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3519 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود : أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إنَّ بني فُلان أغاروا عليّ فذهبوا بابني وإبلي ، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إن آل محمَّدٍ كذا وكذا أهل بيت(1) ، مالهم مدٌّ من طعامٍ أو صاع ، فاسأل الله - عز وجل - ) فرجع إلى امرأته ، فقالت : ما قالَ لك ؟ فأخبرها، فقالت : نِعْمَ ما ردَّ عليك ، فما لبث أنْ ردَّ الله عليه ابنَه وإبله أوفرَ ما كانت ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فصعد المنبر فحَمِدَ الله وأثنى عليه ، وأمر الناس بمسألة الله - عز وجل - والرغبة إليه ، وقرأ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (2) (3) .
وقد ثبت في "الصحيحين" (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ الله - عز وجل - يقولُ : ( هل من دَاعٍ ، فأستجيبَ له ؟ هل من سائل فأُعْطِيَه ؟ هل من مُستغفرٍ فأغْفِرَ له ؟ ) .
وخرَّج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله تعالى : من ذا الذي دعاني فلم أُجبه ؟ وسألني فلم أُعطه ؟ واستغفرني فلم أغفر له ؟ وأنا أرحمُ الراحمين )(5) .
__________
(1) عبارة : ( أهل بيت ) لم ترد في ( ص ) .
(2) الطلاق : 2-3 .
(3) أخرجه : الحاكم 1/543 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/106 من رواية أبي عبيدة ، عن أبيه عبد الله بن مسعود ولم يسمع منه .
(4) صحيح البخاري 9/175 ( 7494 ) و8/88 ( 6321 ) و2/66 ( 1145 ) ، وصحيح مسلم 2/175 ( 758 ) ( 168 ) .
(5) لم أجده وقد أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 10/187 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1087 ) من قول يزيد بن هارون عن بعض الكتب السابقة .
● [ الصفحة التالية ] ●
واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين ؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا
الضَّرر ، ونيل المطلوب ، وجلبِ المنافع ، ودرء المضارِّ ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه ؛ لأنَّه حقيقة العبادة ، وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول : اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك(1) ، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه . كما قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } (2) ، وقال : { مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } (3) .
والله سبحانه يحبّ أنْ يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج ، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه ، ويَغْضَبُ على من لا يسأله ، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله ، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أنْ يَنْقُصَ من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك كله : يكره أنْ يُسأل ، ويُحبُّ أنْ لا يُسألَ ، لعجزه وفقره وحاجته . ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك : ويحك ، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه ، ويُظهِرُ لك فقرَه ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول : ادعني أستجب لك ؟!(4)
وقال طاووس لعطاء : إياك أنْ تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة ، أمرك أنْ تسأله ، ووعدك أنْ يُجيبك(5) .
__________
(1) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/211 .
(2) يونس : 107 .
(3) فاطر : 2 .
(4) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/176 .
(5) ذكره أبو نعيم في " الحلية " 4/11 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/172 .