من طرف اسرة التحرير الجمعة ديسمبر 14, 2018 3:21 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الأدبية كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار إشارات الأطيار ● [ إشارة البوم ] ●
فناداه البوم وهو منفرد بالخراب مهموم، أيها الصديق الصادق، لا تكن بمقالة الخطاف واثق، ولا لعقله موافق، فإنه إن سلم من شبه زادهم، فما سلم من شبهة فرحهم وأعيادهم، وتكثير سوادهم، وقد علمت أن من كثر سواد قوم فهو منهم، ولو صحبهم ساعة صار مسئولا عنهم، وقد علمت أن مبدأ التفريط من آفة التخليط، والخلطة غلطة، وأول السيل نقطة، وأعلم أن السلامة في العزلة، فمن وليها لا يخاف عزله، فهلا استسن بسنتى، وتأسى بوحدتي، واعتزل المنازل والنازل، وزهد في المآكل والآكل، فلا أساكنهم في مساكنهم، ولا أزاحمهم في أماكنهم، ولا أجالسهم في مجالسهم، بل اخترت لنفسي الداثر من الجدران، ورضيت بالخراب على العمران، فسلمت من الأنكاد، وأمنت من شر الحساد، ولم أزل عن الأحباب فريدا، وعن الأتراب بعيدا، من كان مسكنه التراب، كيف يساكن الأتراب، ومن كان الليل والنهار يجريان من عمره، فكيف لا يقنع بالخراب، ومن علم أن الموت وراءه كيف يتعلق بالأسباب، ومن علم أن العمر قصير، وأن كل شىء إلى الفناء يصير، قنع من الدنيا باليسير، وبات على خشن الحصير، وأفطر على قرص الشعير، وعلم أن الخلق في المصير، فريق في الجنة، وفريق في السعير. أما أنا فنظرت إلى الدنيا وذهابها، وإلى الآخرة واقترابها، وإلى القيامة وحسابها، وإلى النفس واكتسابها، فشغلنى التفكير في حالي عن منزلي الخالي، وأذهلني ما على ومالي، عن أهلي ومالي، وأهمني صحتي واعتلالي عن القصور العوالي، فجلا اليقين عن بصر بصيرتي كل شبهة، فعلمت أن لا فرح يدوم ولا نزهة، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فعرفت من هو، وما عرفت ما هو، فحيث كنت لا أرى إلا هو، وإذا نطقت فلا أقول إلا هو، لأنه لا إله إلا هو، وفي ذلك أقول: أَفْرَدَنِى عَنْهُمْ هَوَاهُ . وَلَيْسَ لى مَقْصِدٌ سِوَاهُ أَهِيمُ وَحْدى بِصِدْقِ وَجْدِى . وَحُسْنِ قَصدِى عَسَى أَرَاهُ أَنْكَر ضَحْبى غَرَامَ قَلْبِى . وَمَا دَرَوْا بِالَّذِى دَهَاهُ أَحْبَبْتُ مَوَلى إِذَا تجلّى . يَقْتَبِسُ البَدْرُ مِنْ سَنَاهُ تَحيّر النَّاسُ فيه شَوْقاً . وَجُمْلَةُ النَّاس فِيه تَاهُ وَلاَ أسميه غير أنّى . إنْ غَلَبَ الوجدُ قُلتُ: ياهو فأخذت موعظته بمجامع قلبي، وقلت: هذا رحمة من ربي، وخلعت عني ملابس عجبى، إلا أن الهوى يقول: عج بي.
كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار تأليف : عز الدين المقدسي منتدى همســــــات . البوابة