من طرف اسرة التحرير الأحد أبريل 13, 2014 2:49 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
المقامات للزمخشري
من خطبة الكتاب إلى مقامة الصمت
● [ خطبة الكتاب ] ●
بسم اللّه الرحمن الرحيم
أحمَدُهُ على ما أدرَجَ من آلائهِ. في تضاعيفِ ابتلائهِ. وما رَزَقَني من دَرْك الغِبْطة. بما أذاقَني مِن مَسّ السَخطَة. وما تَهدَّلَ عليَّ مِن ثَمَرِ ألطافه. حتى استَمكنَتْ أصابعي مِنَ اقتطافهِ. واستَعينُهُ في الاستقامةِ على سَواء سبيلِهُ. وأستعيذ بهِ مِنَ الاستنامةِ إلى الشيطان وتَسويلهِ. وأُصلّي على المُبتَعث بالفُرقانِ السّاطعْ. والبرْهانِ القاطِعْ. مُحَمّدٍ وآلهِ.
هذهِ مَقَاماتٌ أنشأها الإمام فخْرُ خوارِزْمَ أبو القاسمِ محمودُ بنُ عُمَرَ الزَّمخشريُّ والذي ندَبَهُ لإنشائْها أنَهُ أرِيَ في بعض ِإغفاآتِ الفجرِ كأنّما صَوَّتَ بهِ منْ يقولُ لهُ يا أبا القاسمِ أجَلٌ مكتوبٌ. وأمَلٌ مكذوبٌ. فهَبَّ مِنْ إغفاآته تلكَ مَشخوصاً بهِ ممّا هالَهُ منْ ذلكَ ورَوَّعَهُ. ونَفّرَ طائرهُ وفزَّعَهْ. وضمَّ إلى هذه الكلماتِ ما ارتفعَت بهِ مقامَهْ وآنسَها بأخَواتٍ قلائِلَ ثمَّ قطع لمُراجعةِ الغَفلة عنِ الحقائقِ وعادة الذُهولِ عن الجِدّ بالهزْلِ فلما أصيبَ في مستهلّ شَهرِ اللّه الأصمّ الواقعِ في سَنةِ ثنتيْ عشرَةَ بعدَ الخمسِمائةِ بالمَرْضةِ النّاهكةِ التي سمّاها المُنذِرَة كانت سببَ إنابتِهِ وفَيئتهْ. وتغير حالهِ وهيئتهْ. وأخذهِ على نفسهِ الميثاقَ للّهِ إنْ مَنَّ اللّه عليهِ بالصّحةِ أنْ لا يطأ بأخمَصِهِ عتَبَةَ السلطانِ. ولا واصلٍ بخدمةِ السلطانِ أذْيالَهُ وأنْ يربأَ بنفسهِ ولسانهِ عن قرْضِ الشعرِ فيهمْ. ورفعِ العقيرةِ في المدحِ بينَ أيديهمْ. وأنْ يعفَّ عن ارتزاقِ عَطِيّاتهم. وافتراضِ صِلاتِهمْ. مَرسوماً وإدراراً وتسويفاً ونحوِه. ويجِدَّ في إسقاطِ اسمه من الديوانِ ومحْوِهِ. وأن يُعنّفَ نفسَهُ حتى تقِئَ ما استطعَمَتْ في ذلك فيما خَلالها في سِي جاهليّتها وتتقنّعَ بقُرصيّها وطمْريَها وأنْ يعتصِمَ بحبلِ التَوكلِ ويتمسَك. ويتَبتّلَ إلى ربّهِ ويتنسّكْ. ويجعلَ مسكنَهُ لنفسهِ محبَساً. ويتخذَهُ لها مخيّساً. ولا يَريمَ عن قرَارهِ ما لمْ يضَطرَّهُ أمرٌ ذو خيرٍ لا يجدُ الصالحُ بُداً من توليّهِ بخطوةٍ. وأن لا يُدرّس منَ العلومِ التي هو بصددِها إلا ما هوَّ مهيبٌ بدارسهِ إلى الهُدى. رادعٌ لهُ عنْ مُشايعةِ الهَوى. ومُجدٍ عليهِ في عُلومٍ القراءاتِ والحديثِ وأبوابِ الشرعِ منْ عرَفَ منه أنهُ يقصدُ بارتيادهِِ وجهَ اللّه تعالى ويرْمي به الغرضَ الراجعَ إلى الدينِ ضارباً صفَحاً عمّن يطلُبهُ ليتّخذهُ أههبةً للمبُاهاةِ وآلةً للمنُافسةِ ويتسوَّرَ على اقتباسهِ إلى الحُظوةِ عندَ الخائضينَ في غَمراتِ الدنّيا والتسميّ بينَ ظهرَانيهم بالفاضلِ والتلقبِ بالبارعِ وذريعةً إلى ما نزعَ هوَ يدهُ منهُ وتابَ التوبةَ النّصوحَ مِنَ الرجوعِ إليه أو يرجعَ اللّبنُ في الضّرْعِ وحينَ أتاحَ اللّه لَهُ الصّحةَ التي لا يُطاقُ شكرُها وألطفَ له في الوفاءِ بما عهِدَ. والضّمانِ الذي لا يخيسنَّ به إلا ظالمُ نفسهِ انتدبَ للرجوع إلى رئاسِ عملهِ في إنشاءِ المقاماتِ حتى تمّمَها خمسين مقامةً يعظُ فيها نفسهُ وينهاها أن تركنَ إلى ديدنها الأوّل بفكرٍ فيه وذكرٍ لهُ إلا على سبيلِ التندمِ والتحسرِ ويأمرُها أن تلَجَّ في الاستقامةِ على الطريقةِ المُثلى وإلقاءِ الشراشرِ على ما يقتضيهِ ما أبرمَه منَ الميثاقِ وأكدّه منَ العقدِ فِعلَ الحازمِ الذي استثناهُ اللّه في عقلهِ وفضلهِ وجدّهِ وثباتهِ. منْ كثيرٍ من الناسِ ولم يأتلِ فيما يعودُ على مُقتبسيها بجليلِ النّفعِ وعظيمِ الجَدوَى. في بابي العِلمِ والتقوى. منَ انتقاءِ ألفاظِها. إحكامِ أسجاعها وتفويفِ نسجِها. وإبداعِ نظمِها. وإيداعِها المعاني التي تزيدُ المُستبصرَ في دينِ اللّه استبصاراً. والمُعتبرَ من أولي الألبابِ اعتباراً. واللّه يسألُ أن يُلقيَ عليها قُبولاً من القُلوبِ ويرزُقَها مَيلاً منَ النفوسِ وإنصاتاً من الأسماعِ وتَسييراً في البلادِ وأن يستنطقَ ألسنِةَ منْ طرأتْ عليه من أفاضل المسلمين بالدعوةِ الطّيبةِ لمُنشئها والتَرحمِ على مقتضبِها واللّه تعالى مرَجوّ الإجابةْ. لمنْ يسألهُ منْ أهل الإنابةْ.
● [ مقامة المراشد ] ●
يا أبا القاسمِ إنَّ خِصالَ الخيرِ كتّفاحِ لبنانْ. كيفَ ما قلبّتها دعتكَ إلى نفسِها. وإنَّ خصالَ السوءِ كحسَكِ السّعدانِ أنّى وجهّتها نهتْكَ عنْ مسّها. فعليكَ بالخيرِ إن أردتَ الرُفولَ في مطارفِ العزّ الأقعسْ وإياكَ والشرّ فإنَّ صاحبَهُ ملتفٌ في أطمارِ الأذلِّ الأتعسْ. أقبلْ على نفسكَ فسُمها النظرَ في العواقبْ. وبصّرْها عاقبةَ الحذر المُراقبْ. وناغِها بالتذكرةِ الهادية إلى المَراشدْ. ونادها إلى العمل الرّافعِ والكلمِ الصاعدْ. وألجِمها عمّا يكلمُ دينها. ويثلمُ يقينها. وحاسبها قبلَ أن ْتحاسَبْ وعاتبْها قبل أن تُعاتب. وأخلصِ اليقينَ. وخالصِ المتّقينْ. وامشِ في جادَّة الهادينَ الدَّالينْ. وخالفْ عنْ بُنيّاتِ طرُقِ العادينَ الضالينْ. واعلمْ أنَّ الحاملَ على الضلالْ. صِل اصلالْ. لسعتُهُ لا ينفعُكَ منها الرّقي. إلا إذا كانت رُقيتك التقى. سَقى اللّه أصداءَ قومٍ هفَوْا ثم انتعشوا. وجدوُّا فيما أجدَى عليهمْ وانكمشوا ويحكَ إخلطْ نفسك بغمارهمْ. واحملهْا على شقِّ غُبارهم. فعسيتَ بفضلِ اللّه تنجو. وتفوزُ ببعضِ ما ترْجو.
● [ مقامة التقوى ] ●
يا أبا القاسم العمرُ قصيرْ. وإلى اللّه المصيرْ. فما هذا التقصيرْ. إنَّ زبِرجَ الدٌّنيا قد أضلّك. وشيطانَ الشهوةِ قد استزلّكَ. لو كنتَ كما تدَّعي من أهل اللبِ والحِجى. لأتيتَ بما هو أحرَى بكَ وأحجى. ألا إنَّ الأحجى بك أن تلوذَ بالرّكنِ الأقوَى. ولا رُكنَ أقوَى من ركنِ التقوى. الطرقُ شتى فاخترْ منها منهََجاً يهديكْ. ولا تخطُ قدماكَ في مضلةٍ ترديكْ. ألجادَّة بيّنةٌ. والمحجّةُ نيرةٌ. والحجةُ متّضحةْ. والشبهةُ متفضحةْ. ووجوهُ الدلالةِ وضاءٌ. والحنيفيةُ نقيّةٌ بيضاءُ. والحقُّ قد رُفعتْ ستورهْ. وتبلّج فسطعَ نورهْ فلِمَ تغالطُ نفسَكْ. ولمَ تكابرُ حِسّك. ليت َشِعري ما هذا التواني. والمواعظُ سيرُ السّواني.
● [ مقامة الرضوان ] ●
يا أبا القاسم أجلٌ مكتوبْ. وأملٌ مكذوبْ. وعملٌ خيرُهُ يقطرُ وشرهُ يسيلْ. وما أكثرَ خطأهُ وصوابهُ قليلْ. أنتَ بينَ أمرينِ لذَّةِ ساعةٍ بعدَها قرعُ السنِّ والسقوطُ في اليدْ. ومشقّة ساعةٍ يتلُوهَا الرضوانُ وغبطةُ الأبدْ. فما عُذركَ في أنْ ترقلَ كلَّ هذا الإرقالِ إلى الشقاءِ وطولِ الحرمانْ. وأنْ تغذَّ كلَّ هذا الإغذاذِ إلى النارِ وغضبِ الرحمنْ. وأينَ علتكَ في أن تشرُدَ شرادَ الظليمْ. عن رضوانِ اللّه ودارِ النعيمْ. هيهاتَ لا عذرَ ولا علّة إلا أنَّ عاجلاً حَداك حبُّه على إيثارهْ. ودعاكَ داعي الشهوةِ إلى اختيارهِ. ألا إنَّ تمامَ الشقْوةْ أن تقعُد أسيرَ الشهوةْ. أيها العاقل ُلا يعجبنّك هذا الماءُ والرَّونقْ. فإنهُ صفوٌ مخبوٌ تحتهُ الرَّنق. ولا يغرَّنكَ هذا الرواءُ المونق. فوراءهُ البلاءُ الموبقْ. سبحانَ اللّه. أيَّ جوهرةٍ كريمةٍ أوليتْ. وبأيّ لؤلؤةٍ يتيمةٍ حليّتْ. وهي عقلكَ ليَعقلك. وحجُركْ ليحجرك. ونهيُتك لتنهاكَ وأنتَ كالخلو العاطلْ. لفرط تسرعكَ إلى الباطلْ.
● [ مقامة الإرعواء ] ●
يا أبا القاسم شهوتكَ يقظَى فأنِمها. وشبابكَ فرصةٌ فاغتنْمها. قبل أن تقولَ قد شابَ القذالْ. وسكتَ العذّالْ. أكففْ قليلاً منْ غربِ شطارتكْ. وانتهِ عنْ بعضِ شرارتكَ. حينَ عيدانُ نشاطَكَ تخفق. وألسنةُ عذّالكَ تنطقْ. وعيونُ الغواني. إليكَ رواني وعوُدكَ ريّانْ. وظِلكَ فينانْ. وخطية قدّكَ عسّالة. وفي عمرو قوَّتكَ بسالةْ. ثمَّ إياكَ أن تنزلَ على طاعةِ هواكَ في الاستنامةِ إلى الشيطانِ وخطراتهِ. والرُّكونِ إلى اتباعِ خطواتهِ. فإنَّ منْ تسويلاتهِ لك. وتخييلاته إليك. أنْ لاتَ حين ارعواءْ. وأينَ عنكَ زمانُ الانتهاء. على رسلكَ حتى ينحنيَ غصنُ القامة ويبرُقَ ضلعُ الهامةْ. وترى التنومةَ ثغامةْ. فأمّا وميعةُ الشبيبةِ معكْ. فإن صاحَ بكَ واعظٌ فلا أسمعكْ. هذهِ حبائلهُ ومصايدهُ. وحيلهُ ومكايدهُ. والعجبُ من نفسكَ أنها تستلذ الوقوعُ فيها. وإنْ لم ترْجُ الخلاصَ منها.
● [ مقامة الزاد ] ●
يا أبا القاسم اتركِ الدُّنيا قبلَ أن تتركَكْ. وافرَكها قبلَ أنْ تفركَك. طلِّقِ القائلةَ بملءِ فيها أنا غدَّارةٌ غرَّارةْ. ختّالةٌ ختّارة. وما الفائِل رأيهُ إلا مَن رآني على الأخرى مختارَة. لاتَني أيُامها ولياليها ينحتن من أقطارِكْ. فقضِّ فيها أسرعَ ما تقضي أهمَّ أوطارِك. إنَّ أهمَّ أوطاركْ فيها تزودُك منها. فالبدارَ البدارَ قبلَ إشخاصِك عنها. لكلِّ رُفقةٍ ظاعنةٍ يومٌ يتواعَدونهْ. وميقاتٌ مضروبٌ لا يكادون يظعنونَ دونهْ. فيتمهّلونَ في الاستعدادِ قبل حلولِ الميعادْ. ويتدبّرونَ تعبيةَ الجهازِ وتهيئةَ الزَّاد. حتى إذانهضوا نهضوا ملأ المَزاود والمَزاد. ألا إنَّ النَّذير بمفاجأةِ رحيلكَ يصيحُ بك في بُكرتكَ وأصيِلك. فقُلْ لي أينَ جهازُكَ المعبّأ. وأينَ زادُكَ المُهيّأ. وأينَ ما يقتلُ به الطّوى والظّمألا أينَ. كأنّي بكَ قدْ فوجئتَ بركوبِ السفرِ الشّاسعْ. والشقةِ ذاتِ الأهوالِ والفظائعْ. وليس في مزودِكَ كفُّ سويقٍ يفثأ من سورةِ طَواكْ. ولا في إدواتكَ جُرعةُ ماء تُطفئُ من وقدةِ صداكْ. فيا حسرتا لو أنَّ يا حسرَتا تُغني. ويا أسفا لو أنَّ يا أسفا تجدِي.
● [ مقامة الزهد ] ●
يا أبا القاسم ما لكَ لا ترفضُ هذهِ الفانيةَ رفضاً. ولا تنفضُ يديكَ عن طلبِها نفضاً. ألمْ ترَ كيفَ أبغضَها اللّه وأبغضَها أنبياؤهُ. ومقتَها ومقتها أولياؤهُ. ولوْلا استيجابُها أن تكونَ مرفوضة لوزَنَت عندَ اللّه جناحَ بعوضةْ. إن راقَكَ رُواؤها الجميلُ فما وراءهُ مشوَّهْ. ما هَيَ إلا اسمٌّ ذُعافٌ بالعسل مموَّه. منغّصةُ المسارّ لمْ تخلُ من أذى. مطروقةُ المشارب لم تصفُ من قَذَى معَ كلِّ استقامةٍ فيها اعوجاجْ. وفي كلِّ دَعةٍ منَ المشقّة مِزاجْ. شهدُها مشفوعٌ بإبرِ النّحلِ. رُطبها مصحوبٌ بسلاّء النّخلِ. أمامَ الظفرِ بغنيمتها الاصطلاءُ بنارِ الحرْب. قبلَ اعتناقِ سيبِها معانقةُ أبناءِ الطعنِ والضرْب. اذكرِ المرْواني وما مُني به من خطّةٍ على رأسهِ مصبوبهْ، حين َغُصّتْ بحبةِ الرمّان حُبابتهُ المحبوبةُ. ثمَّ هَبها مُروَّقة المشاربْ. مصفّقةً من الشوائبِ. قدْ صفتْ لصاحبِها كلُّ لذَّة. وأظلّتهُ سحابةُ اللهوِ هاطلةً مُرذَّه. أما يكفي تيقُّنُ المسرورِ بزوالِ ما هو فيه منغّصاً لسرورِها. وزاجراً للعاقلِ أن يلوِي على غرورِها. بلى إنْ نزلَ اللبيبُ على قضيةِ لُبّه. إن دَعاهُ داعي الشهوةِ لم يلبّه. وهيهاتَ إنَّ مدعوَّ الهوى لمجيب. وإنَّ سهمَ دعوةِ الدَّاعي لمصيب. اللّهمَّ إلا عبداً بحبلِ اللّه يعتصمْ. ويتمسّكُ بعروتهِ التي لا تنفصمْ.
طوبَى لعبدٍ بحبلِ اللّه معتصمهْ ... على صراطٍ سويٍّ ثابتٍ قدمُهْ.
رثِّ اللباسِ جديدِ القلبِ مُستترٍ ... في الأرضِ مشتهرٍ فوقَ السماءِ سِمُه.
إذا العيونُ اجتلتهُ في بذاذتهِ ... تعلو نواظُرها عنهُ وتقتحمهُ.
ما زالَ يستحقرُ الدُّنيا بهمتهِ ... حتى ترقَّتْ إلى الإخرى بهِ همَمُه.
فذاكَ أعظمُ من ذي التاج متّكئاً ... على النّمارقِ محْتَفاً بهِ حشمهُ.
● [ مقامة الإنابة ] ●
يا أبا القسم هل لكَ في جآذرِ جاسمْ. إنْ أنعمتَ فلا أنعمَ اللّه بالكْ ولا وصلَ حبالكْ. ولا فُضَّ فو مَن ماءَكَ بالحقِّ ونبّهكَ. وعضَّك بالملامِ وعضهَك. أصبْوةً وحق مثلكَ أن يصحو لا أن يصبو أنزاعاً وقد حانَ لكَ أن تنزعَ لا أن تنزِعَ ما أقبح لمثلكَ الفُكاهةَ والدُّعابة وديدَنَ المِمْزاحِ التِّلعابةُ. يا هذا الجدَّ الجِدْ. فقدْ بلغتَ الأشدْ وخلّفتَ ثنيّةَ الأربعينْ. ولهَزَ الفتيرُ لداتكَ أجمعينْ. أبعدَ ما عطّلتَ شبيبتكَ في التغزلِ والتشبيب. وذهبتَ بصفوةِ عُمركُ في صفةِ الحبِّ والحبيبْ. وأضلتَ حلمكَ في أوديةِ الهوَى. وعكفتَ همّكَ على أبرقِ الحِمى وسقطِ اللّوى. واتخذتَ بقَرَ الجواءِ بلائكَ وفتنتكْ. ووهبتَ لظباءِ وجرَةَ ذكائكَ وفِطنتكْ. تريدُ ويحكَ أن تُصرَّ على ما فعلتْ. وأن تشيّع النارَ التي أشعلتْ. مهلاً مهلاً. فلستَ لذلكَ أهلاً. وعليكَ بالخُروقِ الواهيةِ متُنوقّاً في رفوِها. وبالكلومِ الداميةِ متنطّساً في أسوها. أنِبْ إلى اللّه لعلَّ الإنابةَ تمحّصْ. وافزَعْ إلى اللّه لعلَّ الفزعَ يخلّصْ. وما أكادُ أظن لِسعةِ آثامكَ إلا أنَّ عفوَ اللّه أوسعْ. ولا أكادُ أشك نظراً في كرمهِ الشاملِ إلا أنّي معَ ذلك أفزعْ.
● [ مقامة الحذر ] ●
يا أبا القاسم إحزُر نفسَك إنْ تعلّقتْ ببعضِ أطرافِها جمرَه. أو أصابتهُ منَ الماءِ المغليّ قطرَه. هل تتمُّ عندَ صدمةِ ذلكَ لأنْ تقلّبَ فكراً في خَطَبٍ مهم. أو ترفعَ رأساً لحبيبٍ ملمْ. أو تلقي سمَعاً إلى ما تتهاوى إليه الأسماعْ. وتتقاذفُ نحوهُ القلوبُ والطبّاع. أم بها في تلكَ الوهلةِ ما يشغلها عن أن تنطِقَ في شأنٍ يعينها بحرْف. أو ترميَ إلى أحبِّ خلقِ اللّه إليها بطرفْ. كلا ولو كنتَ ممّنْ يعطفُ الأعنَةَ بإصبعْ. ويتبسَّطُ في مهابِّ الرياحِ الأربعْ لشغلكَ التألمُ عن كبرياءِ سلطانِك. ولأدرجَ تلكَ الأعنَةِ تحتَ مطاوي نسيانك. هذا وإنَّ الجمرَةَ والقطرَةَ كِلتاهما هَنَةٌ يسيره. ومدَّةُ إيلامِها ساعةٌ قصيرة. ثمَّ إنها على ذلكَ لتُنسيكَ جميعَ ما همّتُكَ إليه عائرة. وأفكارُكَ عليهِ دائرةْ. وتشخصُ بك عنِ المضجعِ الممهودْ. وتطلقُ حُبَوتَكَ في المحفلِ المشهودْ. فنارُ اللّه التي حسبُكَ ما سمعتَ من فظاعةِ وصفِها وهوْلْه. وكفاكَ فيها ما قالهُ الصادقُ المصدَّقُ في قولهْ. وأفظعُ ذلكَ كله أنَّ عذابها أبدٌ سرْمدٌ. ليسَ له منتهى ولا أمد. هلا جعلتَها ممثّلةً قداَّم ناظريكَ كأنكَ تشاهدُ عينَها. وكأنّه لا برزَخَ بينك وبينَها. إنْ كنتَ كما تزعُمُ بما نطَقَ به الوحيُ مؤمناً. وكما تدّعي بصحتهِ موقناً. فإنَّ أدنى ما يحتكمُ عليك تبصرُ تلكَ الحالْ. ويقَتالُ تصورُ تلكَ الأهوالْ. ان تكونَ في جميعِ ساعاتِك إمّا لا على صفتكَ في الساعةِ التي آلمكَ فيها مسُّ الجمرةِ التي خطبُها هيّن. وآذتكَ إصابةُ القطرةِ التي مقدارُ أذاها بيّنْ. قلقاً متأوِّهاً. نزِقاً متولهّاً. لا تلتفتُ إلى الدنيا التفاتةَ راغبْ. ولا ترتاحُ لأجلِ ما تعطيكَ من عُجالةِ الرّاكبْ، ولا تفطُنُ لكرّاتها ودُوَلها أساءَتْ أم سَرَّتْ. ولا لأيامهِا ولياليها أعَقتْ أمْ برَّتْ.
● [ مقامة الاعتبار ] ●
يا أبا القاسم قد رأيتَ العصرَينِ كيفَ يقرضانِ الأعمارْ. ويهدمانِ العمارةَ والعمّار. ويُسكنان الديارَ غيرَ بُناتها. ويورثانِ الأشجارَ جنُاةً بعدَ جنُاتها. ويُملكانِ صاحبةَ الغيرَانِ غيرَهْ بعدما كانَ ينهالكُ عليها غيرَهْ. ويقسمانِ ما دَوَّخ في اكتسابهِ القرى والمدائنْ. وأقفلَ عليهِ المخابئَ والمخازنْ. بينَ حي كحيّاتِ الوادي. كلُّهم لهُ حسّادٌ وأعادي. فروَيدكَ بعضَ هذا الحِرْصِ الشديدْ على تشييدِ الِبنَاءِ الجديدْ. ولا يصُدَّنكَ إبارُ السُّحُقِ الجبّار عنِ التّبتُّلِ إلى الملكِ الجبّار وإيّاكَ والكلَفَ ببيضاتٍ الخُدور وقسماتهِنَّ المشبهةِ بالبُدورْ وأنْ تعلِّقَ همّتك بأعلاقِ الأموالْ والاستيثاقِ منها بالأبوابِ والأقفالْ. واستنظِرْ نفسَكَ إن تقاضَتك إيثارَ الملاهي. واستمهلِها إن طالبتكَ بارتكابِ المنَاهي، إلى أن يتفضَّلَ عليكَ ذُو الطولِ والمنّةِ. بالوصولِ إلى دارِ الجنّة.
● [ مقامة التسليم ] ●
جديدانِ يَبْلى بتناسُخِهما كلُّ جديد. ويكلُّ على تعاقبِهما كلُّ حديدْ. وطلوعُ شمسٍ وغروبُ شمسْ. يطّرحانِ كلَّ إنسي تحتَ الرَّمْس. وما الدَّهرُ إلا أمسٌ ويومٌ وغدْ. وما العيشُ إلا ضَنْكٌ ورغَدْ. وأيُهما قُيَّضَ لإنسانْ. فقد وُكِّلَ بإزالتهِ مرُّ الزمانُ. فَذُو اللبِّ منْ جعلَ لذاتهِ كأوصابهْ وسوَّى بينَ حالَتيْ عُرسهِ ومُصابهِ. ولمْ يفصلْ بينَ طعْمَيْ أريهِ وصابهِ فإذا اعتوَرَهُ النعيمُ والبُوس لمْ يعتقَبْ عليهِ التهلُّلُ والعُبوسْ. ذاكَ لأنهُ مسلِّمٌ لمجتلبِ القضا عالمٌ أنَّ كل ذلكَ إلى انقِضا. والذي بينَ دفّيه قلبٌ هَواءْ قد تياسرتَهُ الشهواتُ والأهواءٌ. لا استبصارَ يزَعهُ. ولا رويةَ تردَعُهْ. لا يعرِفُ الغناثةَ والسِّمنَ إلا في بدنهِ وماشيتهِ. ولا يفطنُ للقلةِ والكثرةِ إلا في ضبنتهِ وحاشيتهْ. لا يعبأ بدينهِ أغَثٌ هوَ أم سمينٌ. بل هوَ بالغثاثةِ قمينْ. ولا يكترِثُ بخيرهِ أقليلٌ هو أمْ كثيرْ. بل هوَ بالقّلةِ جديرْ. ولا يرى النقصانَ إلا ما وقعَ في مالهِ. ولا يُبالي به في سيرهِ وأعمالهِ. قدْ رانَ على قلبهِ حُبُّ الدنيا رَينا. وزانهُ الشيطانُ في عينهِ زينا فذاكَ إن نزَلَ بهِ بعضُ اللأواءْ رُزِءَ فيهِ أيضاً بمثوبةِ العَزاءْ ولا يدري أنَّ الرُّزء بالثوابِ أطَمْ. وإنْ سالَ بهِ البحرُ الغِطمْ.
رُزْءُ الفَتى بثوابهِ لعزائهِ ... يُنْسي الشديدَ الصَّعبَ منْ أرزائهِ.
ليسَ الفتى إلا فتىً إن نابهُ ... عزَّاءُ دهرٍ عَزَّ في عزَّائهِ.
والعِزُّ أن يلوي على الصَّبرِ الّذي ... يمشي ثوابُ اللّه تحتَ لوِائهِ.
● [ مقامة الصمت ] ●
يا أبا القاسم زعمتَ أنّكَ ما ألممْتَ بمعاطاةِ كأسِ العُقار لا في أوقاتِ الطّيشِ ولا إذ لبستَ ثوبَ الوَقار. وإنَّ حُمَيّاها لمْ تطرِ في هامتكِ. ولا دبّتْ في مفاصلِكِ. ولم تقفْ على حقيقةِ أثرِها وعملِها. ولا عرفْتَ ما معنى نشوتَهِا وثملِها. وأنّكَ منَ المصونينَ عمّا يُدنُّيها ويُدْني منها. والآمنينَ أنْ تُسألُ يومَ العرضِ أعمالُكَ عنها. إيهاً وإن صدرَتْ زعمتُكْ عنْ مصدوقَه وكانتْ كلمتُك محضةً غيرَ ممذوقه. فغيبةُ الأخِ المسلمِ من تعاطي الكأسِ أحرَمْ. والإمساكُ عنْ عرضهِ من تركِ المُعاقرةِ ألزَمْ إنَّ المُغتابَ فضَّ اللّه فمَه. يأكلُ لحمَ المُغتابِ ويشربُ دمَهُ. وذاكَ لعَمرُ اللّه شرٌ من شرْبِ ماءِ الكَرْمِ. وأغمسُ لصاحبِها في غِمارِ الإثمِ والجُرْم. فاسجُنْ يا أبا القاسم لسانَك. وأطبقْ عليهِ شفتيكَ وأسنانك. ثمَّ لا تُطلقْ عنهُ إلا ما ترى النطقَ منَ الصمتِ أفضلْ. وإلى رِضى اللّهِ وما يُزْلفُ إليهِ أوصلَ. وإلا فكنْ كأنّكَ أخرَسْ. واحذْر لِسانكَ فإنّهٌ ُ سبعٌ أو أفرَسْ. حسبُكَ ما أورَدَكَ إيّاهُ من المواردِ. وما صَبَّ في الأعراضِ منَ الصَّوارِدْ.
شعر:
ألا رُبَّ عبدٍ كفَّ أذيالَهُ ولَمْ ... يكُفَّ عنِ الجارِ القريبِ أذاتَهُ.
رطيبٌ بثَلبِ المسلمينَ لِسانهُ ... وإنْ كانَ لَمْ يَبلل براحٍ لَهاتَهُ.
ويرجو نجاةً منْ تَوجُّهِ سخطةٍ ... عَليهِ وكلا أعَزَّ نجاتَهُ.
كتاب : المقامات
المؤلف : أبو القاسمِ محمودُ بنُ عُمَرَ الزَّمخشريُّ
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة