من طرف اسرة التحرير الأربعاء فبراير 10, 2021 6:53 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ تابع القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها ] ●
ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق و ذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع و ربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها و يزدرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض و وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه والقول الثاني يجوز إذا كان الشجر قليلا و كان بياض الثلثين أو أكثر و كذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب و نحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرماني قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر و كأنه لم يعجبه أظنه أراد الشجر لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف روايتان و أكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز و إن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن و لأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض و الشجر وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها و اشتراء النخل و دخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات و العنب في الإجارة تبعا وحجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع السنين و بيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع و المبتاع و فيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد ابن المثنى المحدث عن جابر وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاومة وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زبد قلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وفيهما عن أبي البحتري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز وفي مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا الثمر بالتمر ) وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكره الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الضرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل و ذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير إجماع والقول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر و دخول الشجر في الإجارة مطلقا وهذا قول ابن عقيل و إليه مال حرب الكرماني هذا القول كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال حدثنا عباد بن عباد بن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي و عليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين وفيها النخل و الشجر وأيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد و غيرها فأقر الأرض التي فيها النخل و العنب في أيدي أهل الأرض و جعل على كل جريب من جرب الأرض السواد و البيضاء خراجا مقدرا و المشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم و على جريب النخل ثمانية دراهم و على جريب الرطبة ستة دراهم و على جريب الزرع درهما و قفيزا من طعام والمشهور عند مالك و الشافعي و أحمد أن هذه ا لمخارجة تجري مجرى المؤاجرة وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة و أن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر و المسلمون في زمانه و بعده و لهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء وحجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة و الحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر و ما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر و قد لا يساقى عليها وهذا كما أن مالكا و الشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه و إن كان كثيرا و النخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد و سوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث و الربع فأما إن فاضل بين الجزءين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما في عقدين و قدم المساقاة فيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك و لأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه و مرتكب لما يظن أنه حرام و صابر و متضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط و يبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة و يبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة و الثوري و غيرهما و تارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة و يساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف و محمد و الشافعي في القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال و كذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل و العنب فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض و يتبرع له إما بإعراء الشجر و إما بالمحاباة في مساقاتها ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة و المنصوص عن أحمد و أكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك و غيره والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل سلف و بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك رواه الأئمة الخمسة أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي و ابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف و بيع فإذا جمع بين سلف و إجارة فهو جمع بين سلف و بيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع و الإجارة مثل الهبة و العارية و العرية و المحاباة في المساقاة و المزارعة و المبايعة و غير ذلك هي مثل القرض فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة و تبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالاقتراض إلا بالثمن الزائد للسلعة و المشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف و السلعة بألفين فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف و هكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر و رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها و إن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر و الذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة و يعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس و إما أن يتركوا ذلك و يتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر و الإضرار ما لا يعلمه إلا الله و إن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها 22 78 { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم } وفي الصحيحين إنما بعثتم ميسرين و يسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا والغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال و الآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومن استقرأ الشريعة في مواردها و مصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقوله { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ و لا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة و المنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة و يباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة يقضي عنه دينه من الزكاة و إن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال و حاله كحال الذين قال الله فيهم { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } و قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد و بعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا و عقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه قبل الأرض و الشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل و الشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر و أسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار و مياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا و كذلك ما ضربه من الخراج على السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض و الشجر كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير } ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره وإنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه و الحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة و المزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور و إما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة و المزارعة وإن قيل إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض و التبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل قد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر وأيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار و نعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم بأنفسهم ولا غالبهم و نعلم أن المساقاة و المزارعة لا تتيسر في كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين و ما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر و معلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر بارد لم يكن السلف من الصحابة و التابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر بمال أسيد بن الحضير و كما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذا الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة و التابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر فإن قيل فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر القبالات ربا قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل و العلوج قيل فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول القبالات ربا قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوها إنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء و ذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله و إما ربا الفضل و ذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها نخل بثمر فيكون المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل و الفلاحون من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر و أرض وفيها فلاحون يعملون تغل له ما تغل من الحنطة و التمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة و التمر و نحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم و الدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة و إن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخد بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء به عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يكتريه ليكويه فقط فقد قيل هو ربا والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كانت بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه و أيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا كانت الأرض و المساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر و السقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا و إن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة و إن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض و المساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة و إن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد و أكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم و عتق عليه العبد و إلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقويم العبد كله و بإعطاء الشريك حصته من القيمة و معلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف و إذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى و إنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة و إنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى و لذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها و إن أمكن تفريقهما بالحلب و إن كان بيع اللبن وحده لا يجوز وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن و أما إن كان المقصود هو الثمر فقط و منفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود و إنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل الأصل الثاني أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع و استئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع و إن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر و لبن الآدميات و البهائم و الصوف و الماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء و لهذا جرت في الوقف و العارية و المعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار و العيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام و نحوه فلا يوقف و أما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر و ما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية و غير ذلك عارية و شبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها و يأخذ ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها و ليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه 65 6 { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها و اللبن دخل ضمنا و تبعا كنقع البئر و هذا مكابرة للعقل و الحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله { فإن أرضعن لكم } و ضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك و إنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة و ليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها و استيفاء المنفعة و حال تشبه في الأعيان المحضة وهي حال انفصالها و قبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها و يعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض و يبذرها و يسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا و أن كان المشتري هو الذي يجد و يحصد كما لو باعها على الأرض و كان المشتري هو الذي ينقل و يحول و لهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة و الزرع و أما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى المكري حتى يسقيها و يلقحها و يدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها و يبذرها و يسقيها و لهذا سوى بينهما في المساقاة و المزارعة فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها و تحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة و المزارعة و ليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في الإنبات و مع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر و قد ينقص فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر و يكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا و إن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت قيل المعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج و معلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع و الثمر و إنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى و إن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها، وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا فظهر به أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل زهوها و بيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها و زرعها بعمله و سقيه ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها و العمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية و مؤنه التوفية على البائع كالكيل و الوزن و أما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا و إنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر و الزرع ولكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها و يسقيها و يحتلب لبنها قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها و يسقيها بجزء من درها و نسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون و إن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع و حينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا و أما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة و احتلابه كقطافها وهو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها و يحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض و الشجر هذا إذا أكرى الأرض و الشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها و يأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط و أكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل و بعضه عن مالك و أحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى و الثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن وعلى ذلك الأصل فيجوز و إن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه و بين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع و إجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن و بعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر و لهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا و لا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام في المعاوضات و غيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه و كذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء وفيه بيع أيضا فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا و إنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا و يريد أن يقيم في الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها و احتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه و لهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى و الشجر قليل مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب و نحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك و قياس أكثر نصوص أحمد و غيره و إن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك و أحمد و إن كان المقصود السكنى و الأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى و الشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق و أما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه و استأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين و إجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين ولو لم تكن السكنى المقصودة و إنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس و السقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا و غيرهم و قررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة و المنفعة و ربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير و قد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء و المؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية و القياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد و إن كانت المشقة في المقتاة أوكد و لهذا جوزها من منع الأجناس كمالك فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين أحدهما أن يقال إن النهى لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى 24 62 { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } وفي قوله { فعصى فرعون الرسول } وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى وتعريف المضاف إليه فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال تحمر و تصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر و إلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت و التفاح و العنب الأبيض و الإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ و الخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك و يسميه الدمشقيون الدراق أو باللين بلا تغير لون كالتين و نحوه و لذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب و كذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر ) و التمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته و صفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر و أما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و المراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه صلى الله عليه وسلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض و إنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون و عامة معنى لكل ما كان في معناه و ما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية و الاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير و قد بينا انتفاءه الطريق الثاني أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة و الإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير و معلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة و العموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف و يجوز أيضا تخصيصه بالإجماع و بالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز و اللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة و تارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض و تارة لا يتغير و إذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار و إنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة و الصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها البلوى وفي نظائرها و انظر في عموم كلام الله و رسوله لفظا و معنى حتى تعطيه حقه و أحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة و جريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى 7 157 { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } و أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة و أما اكتراء الأرض و الشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق و إنما هو نوع من الإجارة و نظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض و أنه نهى عن المخابرة و أنه نهى عن المزارعة و أنه قال لا تكروا في الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة و المزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح و إلى المزارعة المشروط فيها جزء معين وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة و المزارعة و قد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله 5 91 { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر }
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة