من طرف اسرة التحرير الأربعاء فبراير 10, 2021 7:23 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ تابع القاعدة الخامسة ] ●
والصواب أن الخلاف في الجميع في الطلاق وغيره كما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة ولا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه و يكون قوله إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله فعلي أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذاك والله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم فأحد القولين أنه يقع به كما تقدم و القول الثاني أنه لا يلزمه الوقوع ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق و توقف في كونه يمينا يوجب الكفارة لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر كداود و أبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق واختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما ورد نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها إحداها كون الأصل تحريم العقود الثانية أنه لا يباح إلا ما كان في معنى النصوص الثالثة أن الطلاق المؤجل و المعلق لم يندرج في عموم النصوص و أما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج و الغضب و فرقوا بين نذر التبرر و نذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط و بين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب و سنتكلم عليه وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع ذكرناها و كذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج و الغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب الشافعي و إحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه و إحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية فإن التسوية بين الحلف بالنذر و الحلف بالعتق هو المتوجه و لهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق و العتاق و اعتقده بعض المالكية مجمعا عليه وأيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي طوالق لأفعلن فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن و علي الحج لأفعلن و الذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع فقال في البويطي وهو كتاب مصري من أجود كتبه و ذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة و يسمون ذلك الشرط صفة و يقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك وهذه التسمية لها وجهان أحدهما أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة أو إذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف و كذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه و الثاني أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر و نحوها حروف الصفات فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف و الوجه الأول هو الأصل فإن هذا يعود إليه إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار و المجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به فإذا كان الشافعي و غيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية المذكور في القرآن و قاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } و معلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة وقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه و بين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين فكذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفة كالخلع حيث المقصود فيه العوض و الطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه فإنه انما يقاس بما في الكتاب و السنة ما أشبهه و معلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة و بين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء و الدليل على هذا القول الكتاب و السنة و الأثر و الاعتبار أما الكتاب فقوله سبحانه { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } فوجه الدلالة أن الله قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لهم تحلتها وقد ذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس له تحلة لكان مخالفة للآية كيف وهذا عام لا يحض منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي فإن اليمين معقودة فوجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف و التوسعة وهذا موجود في اليمين بالعتق و الطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج و الغضب فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء الأمانة و نحوها فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر و يتقي و يصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا و الآخرة ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه و إن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا و الدين ما لا خفاء به أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا في غاية الاتصال و بينهما من الأولاد و العشرة ما يجعل في طلاقهما في أمر الدين ضررا عظيما و كذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطء بقتل النفس ولهذا قال أحمد في إحدى الروايتين متابعة لعطاء إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك أو أعتق عبيدي فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لا أعتقت عبيدي وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون وسنتكلم عليه إن شاء الله وأيضا فإن الله تعالى قال { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم } وهى تقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم لأن قول لا شئ استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال وانتفاء موجب المغفرة والرحمة عن هذا الفاعل وأيضا قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } والحجة فيها كالحجة في الأولى وأوفى فإنه قال { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وهذا عام يشمل تحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ثم يبين وجه المخرج من ذلك بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته أى فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ثم قال ذلك كفارة أيمانكم إ ذا حلفتم وهذا عام كعموم قوله واحفظوا أيمانكم ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك ) فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما الحلف بالطلاق موافقة لابن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء أو ما كان في معنى ذلك مما سنذكره إن شاء الله وهذه الدلالة بينة على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله تعالى { تحلة أيمانكم } و { كفارة أيمانكم } عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء فإن قيل المراد بالآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام أو الإضافة في قوله { عقدتم الأيمان } و { تحلة أيمانكم } منصرفا إلى اليمين المعهود عندهم وهى اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة اليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت وهنا سؤال ممن يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث فيقال لفظ اليمين يشمل هذا كله بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله كقوله صلى الله عليه وسلم ( النذر حلفة ) وقول الصحابة لمن حلف بالهدى والعتق كفر يمينك وكذلك فهمته الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سنذكره ولإدخال العلماء لذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك ) ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال { لم تحرم ما أحل الله لك } ثم قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به ابن عباس وغيره وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية وعلى كل تقدير فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا وأيضا فإن قوله تعالى { لم تحرم ما أحل الله لك } إما أن يراد به لم تحرمه بلفظ الحرام وإما لم تحرمه باليمين بالله ونحوها وإما لم تحرمه مطلقا فإن أريد الأول أو الثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله يمين فنعم وأن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في عموم قوله { لم تحرم ما أحل الله لك } وحينئذ فقوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال لأن هذا حكم ذلك الفعل فلا يد أن يطابق جميع صوره لأن تحريم الحلال هو سبب قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضى للتعميم وهكذا التقرير في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها وأيضا فنقول سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله وأن ما سوى اليمين بالله لا يلزم بها حكم فمعلوم أن الحلف بصفات الله سبحانه كالحلف به كما لو قال وعزة الله أو لعمر الله أو والقرآن العظيم فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الأستعاذة لا تكون إلا بالله وصفاته في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أعوذ بوجهك ) و ( أعوذ بكلمات الله التامات ) و ( أعوذ برضاك من سخطك ) ونحو ذلك وهذا أمر مقرر عند العلماء وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته وكذلك لو قال فعلى تحرير رقبة وإذا قال فامرأتي طالق وعبدي حر فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فإن قوله على الحج والصوم عقد لله ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فإذا حنث ولم يف به فقد ترك ما عقده لله كما أنه إذا فعل المحلوف به فقد ترك ما عقده بالله يوضح ذلك أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه لأنه لعظمته في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله فإذا حل ما ربطه فقد انقضت عظمته في قلبه وقطع السبب الذي بينه وبينه كما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال سبحانه { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } وقال صلى الله عليه وسلم في عد الكبائر فيما روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقطع بها مالا يغير حق ) وذلك لأنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقض الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله لكن أباح الله له حل هذا العقد الذي عقده به كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها ولهذا قال أكثر أهل العلم إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا فهى يمين بمنزلة قوله والله لأفعلن لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من إجلال الله وإكرامه الذي هو حق الله ومثله الأعلى في السموات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح له وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله { سبح اسم ربك الأعلى } كما أن الذكر يكون تارة لاسم الله كما في قوله { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } وكذلك الذكر مع التسبيح في قوله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا } فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وقصدا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وكما قال في موضع آخر { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالإيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث يتغير إيمانه بزوال حقيقته كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) كما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر إذ قد اشترى بها ثمنا قليلا فلا خلاق له في الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعل ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به كغرض الحالف في اليمين الغموس فشرع له الكفارة لأنه حل هذه العقدة وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الخيانة على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة وإذا ظهر أن موجب اليمين انعقاد الفعل بهذا الإيمان الذي هو إيمانه بالله فإذا عدم الفعل كان مقتضاه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله إن فعلت كذا وجب على كذا أنه عند الحلف يجب ذلك الفعل لولا ما شرع من الكفارة يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال ) أخرجاه في الصحيحين فجعل اليمين الغموس في قوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك في أحد تولى العلماء وبهذا يحصل الجواب على قولهم المراد به اليمين المشروعة وأيضا فقوله { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم } فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها حراما او نحوه فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله فيجعل الله عرضة ليمينه فإذا كان الله قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم بالحلف به من البر والتقوى فالحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف وجب أن لا يكون مانعا وإن لم يكن داخلا فهو أولى أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى فغيره أولى أن نكون منتهين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا ثبت أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين إن وفى ذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقى ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور فقد يكون خروج أهله وماله عنه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقى فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى كفارته التي افترض الله عليه ) ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من استلج في أهله فهو أعظم إنما ) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم إثما من التكفير واللجاج هو التمادي في الخصومة ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في المخاصمة ولهذا تسمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الإمتناع من الحنث فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ) أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين فكفر عن يمينك وائت هو الذي خير وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ) وفي رواية ( فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا شر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه وقوله هنا على يمين هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمى الأمر المحلوف عليه يمينا كما سمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك وكذلك أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى في قصته وقصة أصحابه لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه فقال ( والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ) ثم قال ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) وفي رواية في الصحيحين ( إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ) وروى مسلم في صحيحه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير ) وفي رواية لمسلم أيضا ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير ) وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ) ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه ورواه النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته ) وهذا صريح في أنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك أصحابه فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام فروى أبو داود في سنته حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك ) ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ( لا يمين ولا نذر ) لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ) يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدى أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن فعل المحلوف عليه من المعصية و القطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك أنه لا يلزمه ما في اليمين و النذر من الإيجاب و التحريم وهذا الثاني هو الظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب به على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة و لأن لفظ النبي صلى الله عليه و سلم يعم ذلك كله و أيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر و الطلاق و العتاق في اليمين و الحلف في كلام الله و رسوله ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فقال أن شاء الله فلا حنث عليه ) رواه أحمد و النسائي و ابن ماجة و الترمذي و قال حديث حسن و لفظ أبي داود قال حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى ) و رواه أيضا من طريق عبد الوارث عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف فاستثنى فإن شاء رجع و إن شاء ترك غير حنث ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ) رواه أحمد و الترمذي و ابن ماجة و لفظه فله ثنياه و النسائي وقال فقد استثنى ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر و بالطلاق و بالعتاق في هذا الحديث وقالوا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه و إنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء و إنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق و العتاق و الفرق بين إيقاعهما و الحلف بهما ظاهر و سنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ) فكذلك يدخل في قوله ( ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير و ليكفر عن يمينه ) فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله فإن قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ) لفظ العموم فيه مثله في قوله ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير و ليكفر عن يمينه ) و إذا كان لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء كما نص عليه أحمد في غير موضع ومن قال إن الرسول قصد بقوله ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ) جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله و بالنذر و بالطلاق و بالعتاق و أما قوله ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ ) إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله و النذر فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد و الحكم فيهما من جنس واحد وهو رافع اليمين إما بالاستثناء و إما بالتكفير وعند هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق و العتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام فقوم قالوا يدخل في ذلك الطلاق و العتاق أنفسهما حتى لو قال أنت طالق إن شاء الله و أنت حر إن شاء الله دخل ذلك في عموم الحديث وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وغيرهما وقوم قالوا لا يدخل في ذلك الطلاق و العتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك و إحدى الروايتين عن أحمد والقول الثالث أن إيقاع الطلاق و العتاق لا يدخل في ذلك بل يدخل فيه الحلف بالطلاق و العتاق وهذا الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث و نفعته المشيئة رواية واحدة وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و جمهور التابعين فإن ابن عباس و أكثر التابعين كسعيد بن المسيب و الحسن لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان ثم قد ذكرنا عن الصحابة و جمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة و الهدى و العتاقة و نحو ذلك يمينا مكفرة وهذا معنى قول أحمد في غير موضع لا استثناء في الطلاق و العتاق ليسا من الأيمان وقال أيضا الثنيا في الطلاق لا أقول بها و ذلك أن الطلاق و العتاق حرفان واقعان وقال أيضا إنما يكون الاستثناء فيما تكون فيه كفارة و الطلاق و العتاق لا يكفران وهذا الذي قاله ظاهر و ذلك أن إيقاع الطلاق و العتاق ليسا يمينا أصلا و إنما هو بمنزلة العفو عن القصاص و الإبراء من الدين و لهذا لو قال و الله لا أحلف على يمين ثم إنه أعتق عبيدا له أو طلق امرأته أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض فإنه لا يحنث ما علمت أحدا خالف في ذلك فمن أدخل إيقاع الطلاق و العتاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث ) فقد حمل العام ما لا يحتمله كما أن من أخرج من هذا العام قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله إن شاء الله أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه فإن هذا اليمين بالطلاق و العتاق وهما ليسا من الأيمان فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة و الحج و نحوهما و ذلك معلوم بالاضطرار عقلا و عرفا و شرعا و لهذا لو قال و الله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق حنث وقد تقدم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سموه يمينا و كذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا فمعنى اليمين موجود فيه فإنه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه و المعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له و إلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معنى هذا معنى الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق و العتاق و على مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك و كذلك قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق بخلاف ما لو عنى الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه فإن هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة و الطلاق و العتاق لا يكفران كلام حسن بليغ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج حكم الاستثناء و حكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة واحدة فلا يفرق بين ما جمعه النبي صلى الله عليه وسلم و لأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل فإن الأحكام التي هي الطلاق و العتاق و نحوهما لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها فإنها واجبة بوجود أسبابها فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله و إنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد و نحوها والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة و المخالفة بالحنث أخرى فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة و المخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق و عدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه و إن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة فالاستثناء و التكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقال بعد ذلك قول أحمد و غيره الطلاق و العتاق لا يكفران كقوله وقول غيره لا استثناء فيهما وهذا في إيقاع الطلاق و العتاق أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما و إنما هو تكفير للحلف بهما كما أنه إذا حلف بالصلاة و الصيام و الصدقة و الحج و الهدي و نحو ذلك في نذر اللجاج و الغضب فإنه لم يكفر الصلاة و الصيام و الهدي و الحج و إنما كفر الحلف بهما و إلا فالصلاة لا كفارة فيها و كذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها و كما أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد و موافقيه من القائلين بنذر اللجاج و الغضب و ليس ذلك تكفير للعتق و إنما هو تكفير للحلف به فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة و هذا موجب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه و أما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب مالك و إحدى الروايتين عن أحمد فهو قول مرجوح و نحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه و سنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء إن الحلف بالطلاق و العتاق لا كفارة فيه لأنه لا استثناء فيه لزم من هذا القول أنه لا استثناء في الحلف بهما و أما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح في الحلف بهما الاستثناء ولا يصح فيه الكفارة فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن أحمد و لكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أولا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه و يعتقد أنها غير لوازم والفقهاء من أصحابنا و غيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله و قياسه فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه و إذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم و خرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء وعنه في الاستثناء روايتان فهذا مبني على تخريج مالم يتكلم بنفي ولا إثبات هل يسمى ذلك مذهبا له أو لا يسمى و لأصحابنا فيه خلاف مشهور فالأثرم و الخرقي و غيرهما يجعلونه مذهبا له و الخلال و صاحبه و غيرهما لا يجعلونه مذهبا له و التحقيق أنه قياس قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه و أيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به و ملزما له إذا أوقعه صاحبه و كذلك العتق و كذلك النذر
● [ يتم متابعة القاعدة الخامسة ] ●
رحلات إبن بطوطة الجزء الأول منتدى توتة وحدوتة - البوابة