اسرة التحرير- Admin
- عدد المساهمات : 3695
تاريخ التسجيل : 23/01/2014
من طرف اسرة التحرير الجمعة فبراير 18, 2022 3:17 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الإسلامية
شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
● [ الباب الثالث ] ●
● الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم.
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى" وفي رواية "كتب لك التوراة بيده" وفي لفظ آخر: "تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قدر على قبل أن أخلق"، وفي لفظ آخر: "احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى"، وفي لفظ آخر: "احتج آدم وموسى فقال له موسى أنت الذي أخرجتنا خطيئتك من الجنة" وذكر الحديث متفق على صحته وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق بخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك وقال لو صح لبطلت نبوات الأنبياء فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة كما ردوا أحاديث الرؤية وأحاديث علو الله على خلقه وأحاديث صفاته القائمة به وأحاديث الشفاعة وأحاديث نزوله إلى سمائه ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده وأحاديث تكلمه بالوحي كلاما يسمعه من شاء من خلقه حقيقة إلى أمثال ذلك وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وكما ردت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول فهو أصلهم الذي عليه يعولون وجنتهم التي إليها يرجعون، ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث ووجه الحجة التي توجهت لآدم على موسى فقالت فرقة إنما حجه لأن آدم أبوه فحجه كما يحج الرجل ابنه وهذا الكلام لا محصل فيه البتة فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن أو العبد أو السيد ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة وقالت فرقة إنما حجه لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة وهذا من جنس ما قبله إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة ويقبل الله شهادتهم عليهم وإن كانوا من غير أهل شريعتهم وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولا يجوز لومه وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه أحدها: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه ولا جعله حجة على موسى ولم يقل أتلومني على ذنب قد تبت منه، الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله واجتباه بعده وهداه فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلا عن كليم الرحمن، الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه وهذا أيضا فاسد من وجهين أحدهما: أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف وإنما قال أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق فلم يتعرض للدار وإنما احتج في القدر السابق الثاني أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف فيلومهم بعد الموت ويلومهم يوم القيامة وقالت فرقة أخرى إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة وتفرد الرب سبحانه بربوبيته وإنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه وأنه لا راد لقضائه وقدره وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قالوا ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة لأنه شهد نفسه عدما محضا والأحكام جارية عليه معروفة له وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث وهو شر من مسلك القدرية في رده وهم إنما ردوه إبطالا لهذا القول وردا على قائليه وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم وأخطأوا في رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم ولم يبق للحدود معنى ولا يلام جان على جنايته ولا ظالم على ظلمه ولا ينكر منكر أبدا ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في إشارته العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل وأعرف خلق الله به رسله وأنبياؤه وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر وإنما أرسلوا لإنكار المنكر فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصرته بالأمر والقدر فإن الأمر يوجب عليه الإنكار والقدر يعينه عليه وينفذه له فيقوم في مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي مقام فاعبده وتوكل عليه فنعبده بأمره وقدره ونتوكل عليه في تنفيذ أمره بقدره فهذا حقيقة المعرفة وصاحب هذا المقام هو العارف بالله وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم وأما من يقول: أصبحت منفعلا لما يختاره منى ففعلي كله طاعات
ويقول أنا وإن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومشيئته ويقول العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر فخارج عما عليه الرسل قاطبة وليس هو من أتباعهم وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج في القدر عن المشركين أعداء الرسل فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} إلى قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فهذه أربع مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس حيث احتج عليه بقضائه فقال:: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فإن قيل قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولو شاء الرحمن ما عبدناهم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون وأهل السنة جميعا يقولون لو شاء الله ما أشرك به مشرك ولا كفر به كافر ولا عصاه أحد من خلقه فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون قيل أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين وأفجر الفاجرين ولم ينكر عليهم صدقا ولا حقا بل أنكر عليهم أبطل الباطل فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتا لقدره وربوبيته ووحدانيته وافتقارا إليه وتوكلا عليه واستعانة به ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين وإنما قالوه معارضين به لشرعه ودافعين به لأمره فعارضوا شرعه وأمره ودفعوه بقضائه وقدره ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر وأيضا فإنهم احتجوا بمشيئتة العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه فجمعوا بين أنواع من الضلال معارضة الأمر بالقدر ودفعه به والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدعي التحقيق والمعرفة أو يدعي فيه ذلك وقالوا العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك وقد أعاذه الله منه فإنه قال في باب التوبة من منازل السائرين ولطائف التوبة ثلاثة أشياء، أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين: أن يعرف عبرته في قضائه وبره في مسيره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته، والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته، واللطيفة الثانية: أن يعلم أن طلب البصير الصادق سنته لم تبق له حسنه بحال لأنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل، واللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم، فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا بل مشاهدة الحكم تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباله فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد كان شيخ الإسلام في ذلك موافقا للأمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة وكلامه المتقدم بين في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيرد إلى محكم كلامه والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام فقال الفناء عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه به ومعرفته به وبصفاته سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة مثاله رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض فأذهله ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به وهذا تقريب والأمر فوق ذلك فكيف بمن أشهده الله عز وجل فردانيته حيث كان ولا شيء معه فرأى الأشياء مواتا لا قوام لها إلا بقدرته فشهدها خيالا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل أثقالها والتخلق بأخلاقها وصفى الله عبده من درنه ويكشف لقلبه فيرى حقائق الأشياء فمتى تجلت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة الفردانية تلاشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح ويكون العبد في ذلك آكلا شاربا فلا يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده لكن يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات سكره ويبقى وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلال وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم التمييز ويقوى على حاله فيتصرف وذلك هو البقاء بحيث يتصرف في الأشياء ولا يحجب عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولاه الله عز وجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على مقام المريد فيصير به يسمع وبه ينطق كما جاء في الحديث الصحيح ووجه آخر وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحوة والتمييز فيستر من قلبه محل الزهد والصبر والورع لا بمعنى أن تلك المقامات ذهبت وارتفع عنها العبد لكن بمعنى أن الشهود ستر محلها من القلب وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي فصارت فيما وجده الواجد من وجود الحق ضمنا وتبعا وصار القلب مشتغلا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى بحيث لو فتش قلب العبد لوجد فيه الزهد والورع وحقائق الخوف والرجاء مستورا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها وفي حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله لا بوجود نفسه إذا علمت ذلك انحل إشكال قوله إن مشاهدة العبد لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده إلى معنى الحكم أي أن صفة حكم الله حشت بصيرته وملأتها فشهد قيام الله على الأشياء وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق ويسمى هذا جمعا لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه التصرفات اجتمع قلبه ولضعف قلبه حين هذا الاجتماع لم يتسع للتمييز الشرعي بين الحسن والقبيح بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فتش لوجد حكم التحسين والتقبيح مستورا في طي مشهده ذلك وبالله التوفيق، وتلخيص ما ذكره شيخنا رحمه الله أن للفعل وجهين وجه قائم بالرب تعالى وهو قضاؤه وقدره له وعلمه به والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول وملاحظة للوجه الثاني والكمال أن لا يغيب بأحد الملاحظتين عن الأخرى بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته فيشهد الربوبية والعبودية فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} وقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه وضعف المحل فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالرب تعالى من غير إنكار له فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائما في قلبه ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الرب تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته فيغيب بشهود الحكم عن المحكوم به فضلا عن صفته فإذا لم يشهد له فعلا فكيف يشهد كونه حسنا أو قبيحا وهذا أيضا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائما في قلبه وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه وبالله التوفيق، فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه وعباد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة ولو أغضبهم غيرهم وقصر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة مع أنه وافق فيه المشيئة فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي الآمن هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه وأنه لا رب غيره ولا إله سواه فكيف يعبدون معه إلها غيره فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم وأن الأمر كله لله وأن كل شيء ما خلا الله باطل فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك فكانت حجة الله هي البالغة وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق، إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة المحنة التي نالت الذرية ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة وفي لفظ خيبتنا فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال أن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة هذا جواب شيخنا رحمه الله وقد يتوجه جواب آخر وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع ويضر في موضع فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق فإنه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود فإذا لامه لائم بعد ذلك قال كان ما كان بقدر الله، ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل، فإن قيل فقد احتج عليّ بالقدر في ترك قيام الليل وأقره النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن علي: "أن رسول الله صلى الله عيه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال لهم ألا تصلون قال فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}"، قيل علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم وإنما قال أن نفسه ونفس فاطمة بيد الله فإذا شاء أن يوقظها ويبعث أنفسها بعثها وهذا موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي: "إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء" وهذا احتجاج صحيح صاحبه يعذر فيه فالنائم غير مفرط واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" فتضمن هذا الحديث الشريف أصولا عظيمة من أصول الإيمان أحدها: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال وعليم يحب العلماء ونظيف يحب النظافة ومؤمن يحب المؤمنين ومحسن يحب المحسنين وصابر يحب الصابرين وشاكر يحب الشاكرين، ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض، ومنها أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته فأمره بأن يعبده وأن يستعين به ثم قال ولا تعجز فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال فإن غلبك أمر فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبة وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه وبالله التوفيق.
● [ الباب الرابع ] ●
● الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك
عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقا في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه وعن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" رواه مسلم وعن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فأنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص" وفي لفظ آخر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك" قال زهير بن معاوية أحسبه قال: "الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أم غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا" وفي لفظ آخر إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله ولبضع وأربعين ليلة ثم ذكر نحوه وهذا الحديث بطرقه انفرد به مسلم وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة وإذا أراد أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه" متفق عليه وقال ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن سعيد بن عبد الرحمن بن هنيدة حدثهم أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام معها يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله بأمره ثم يقول يا رب شقي أم سعيد فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها" قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن بكر بن سوادة الجدمي عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت يعني النطفة في الرحم أربعين أتى ملك النفس فعرج إلى الرب فقال يا رب عبدك أذكر أو أنثى فيقضي الله بما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو كائن وذكر بقية الحديث وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى عن هلال عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الله تعالى أخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك فيسأل الملك عند ذلك فيقول يا رب أسقط أم يتم فيبين له ثم يقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له ثم يقول له أقطع رزقه مع خلقه فيقضيهما جميعا فوالذي نفس محمد بيده لا ينال إلا ما قسم له يومئذ إذا أكل رزقه قبض" وقال عبد الله بن أحمد أنا العلاء ثنا أبو الأشعث ثنا أبو عامر عن الزبير بن عبد الله حدثني جعفر بن مصعب قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلائقه فيقول كذا وكذا فما شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم" وفي المسند من حديث إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر أن أم الدرداء حدثته عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه ومضجعه وأثره وشقي أم سعيد" وقال ابن حميد ثنا يعقوب بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم تلبث أربعة أشهر وعشرا ثم تنفخ فيها الروح ثم تلبث أربعين ليلة ثم يبعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو سعيدا" وروى ابن أبي خيثمة ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السعيد من سعد في بطن أمه" رواه أبو داود في القدر عن عبد الرحمن عن حماد عن هشام بن حسان عن محمد به وقال أحمد بن عبد أنبأنا علي بن عبد الله بن ميسر ثنا عبد الحميد بن بيان ثنا خالد بن عبد الله عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه" وقال سعيد عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" وقال شعبة عن مخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال: "إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها فاتبعوا ولا تبتدعوا فإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وأن شر الروايا روايا الكذب وشر الأمور محدثاتها وكل ما هو آت قريب" رواهن أبو داود في القدر وذكر الطبري من رواية أبي إسحاق عن أبي عبدة عنه أنه كان يجيء كل يوم خميس يقوم قائما لا يجلس فيقول إنما هما اثنتان فأحسن الهدى هدى محمد وأصدق الحديث كتاب الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدث ضلالة إن الشقي من شقي في بطن أمه وأن السعيد من وعظ بغيره ألا فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما ليس آتيا وأن من شرار الناس بطال النهار جيفة الليل وأن قتل المؤمن كفر وإن سبابه فسوق ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ألا إن شر الروايا روايا الكذب وأنه لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صفيه ثم لا ينجزه ألا وأن الكذب يهدى إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار وأن الصدق يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة وأن الصادق يقال له صدق وبر وأن الكاذب يقال له كذب وفجر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا وأنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا ألا هل تدرون ما العضة هي النميمة التي تفسد بين الناس" وهذا متواتر عن عبد الله وبلغ معاوية أن الوباء اشتد بأهل دار فقال لو حولناهم عن مكانهم فقال له أبو الدرداء: كيف لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها فكأن معاوية وجد على أبي الدرداء فقال له كعب يا معاوية لا تجد على أخيك فإن الله سبحانه لم يدع نفسا حين تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إلا كتب خلقها وخلقها وأجلها ورزقها ثم لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش فإذا دنا أجلها خلقت تلك الورقة حتى تيبس ثم تسقط فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها ذكره أبو داود عن محمود بن خالد ثنا مروان ثنا معاوية بن سلام حدثني أخي زيد بن سلام عن جده ابن سلام قال بلغ معاوية فذكره وقال أبو داود ثنا واصل بن عبد الأعلى ثنا ابن فضيل عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم عن مجاهد في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وفي الصحيحين عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "توفي صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" ولا يناقض هذا حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري في صحيحه من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين حول إبراهيم الخليل في الروضة فإن الأطفال منقسمون إلى شقي وسعيد كالبالغين فالذي رآه حول إبراهيم السعداء من أطفال المسلمين والمشركين وأنكر على عائشة شهادتها للطفل المعين أنه عصفور من عصافير الجنة فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه واختلفت في وقت هذا التقدير وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم وحديث أنس غير مؤقت وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوما وفي لفظ بأربعين ليلة وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتي رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة ولهذا قال في حديث ابن مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير فاتفقت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر السابق ومراتب التقدير وما يؤتى أحد إلا من غلط الفهم أو غلط في الرواية ومتى صحت الرواية وفهمت كما ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق وبالله التوفيق.
● [ الباب الخامس ] ●
● الباب الخامس: في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر
قال تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} وهذه هي ليلة القدر قطعا لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ومن زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط قال سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ليلة القدر ليلة الحكم وقال سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم وقال ابن علية ثنا ربيعة بن كلثوم قال قال رجل للحسن وأنا أسمع أرأيت ليلة القدر في كل رمضان هي قال نعم والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان وأنها لليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها وذكر يوسف بن مهران عن ابن عباس قال يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال يحج فلان ويحج فلان وذكر عن سعيد بن جبير في هذه الآية أنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى وقال مقاتل يقدر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلاده وعباده إلى السنة القابلة وقال أبو عبد الرحمن السلمي يقدر أمر السنة كلها في ليلة القدر وهذا هو الصحيح أن القدر مصدر قدر الشيء يقدره قدرا فهي ليلة الحكم والتقدير وقالت طائفة ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة من قولهم لفلان قدر في الناس فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدرا وشرفا مع ما يكون فيها من التقدير فقد أصاب وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف والخطر فقد غلط أن الله سبحانه أخبر أن فيها يفرق أي يفصل الله ويبين ويبرم كل أمر حكيم.
● [ الباب السادس ] ●
● الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي
قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ذكر الحاكم في صحيحه من حديث أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مرة ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقال مجاهد والكلبي وعبيد ابن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويمنع وينصر ويعز ويذل ويفك عانيا ويشفي مريضا ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويتوب على قوم ويكشف كربا ويغفر ذنبا ويضع أقواما ويرفع آخرين دخل كلام بعضهم في بعض وقد ذكر الطبراني في المعجم والستة وعثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي عن عبد الله بن مسعود قال: "إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات والأرض نور وجهه وأن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة فيعرض عليه أعمالكم فيها على ما يكره فيغضبه ذلك وأول من يعلم غضبه العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة ثم ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا سمع صوته فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة فتلك ست ساعات ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله في كتابه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال هذا شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى" قال الطبراني ثنا بشر بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق أنا حماد بن سلمة عن أبي عبد السلام عن عبد الله أو عبيد الله ابن مكرز عن ابن مسعود فذكره وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن أبي عبد السلام عن أيوب بن عبيد الله الفهري أن ابن مسعود قال: "أن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.." فذكر الحديث إلى قوله "فيسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة" فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وقد قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه فيثبت الله تعالى منه ما فيه ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو وذكر ابن مردويه في تفسيره من طرق إلى بقية عن أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه أن أول خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول من بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عند الذكر وقال اقرؤا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه وقال آدم ثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن مقسم عن ابن عباس إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب وفي تفسير الأشجع عن سفيان عن منصور عن مقسم عن ابن عباس قال كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم بعث الحفظة على آدم وذريته وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة وعشية ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت والذي يتردى من جبل والذي يقع والذي يحرق بالنار فيحفظوا عليه ذلك كله وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم.
كتاب : شفاء العليل في مسائل
القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
منتدى ميراث الرسول - البوابة