منتدى ميراث الرسول

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    شفاء العليل [ 4 ]

    avatar
    اسرة التحرير
    Admin


    عدد المساهمات : 3695
    تاريخ التسجيل : 23/01/2014

    شفاء العليل [ 4 ] Empty شفاء العليل [ 4 ]

    مُساهمة من طرف اسرة التحرير السبت فبراير 19, 2022 2:15 pm

    شفاء العليل [ 4 ] Eslam_14

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    شفاء العليل في مسائل
    القضاء والقدر والحكمة والتعليل
    شفاء العليل [ 4 ] 1410
    ● [ تابع الباب العاشر ] ●
    ● فصل ●

    ويشبه هذا قول يوسف الصديق: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} فأخبر أنه يلطف لما يريده فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس واسمه اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية ومنه التلطف كما قال أهل الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} فكان ظاهر ما امتحن به يوسف من مفارقة أبيه وإلقائه في السجن وبيعه رقيقا ثم مراودة التي هو في بيتها عن نفسه وكذبها عليه وسجنه محنا ومصائب وباطنها نعما وفتحا جعلها الله سببا لسعادته في الدنيا والآخرة، ومن هذا الباب ما يبتلي به عباده من المصائب ويأمرهم به من المكاره وينهاهم عنه من الشهوات هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن" فالقضاء كله خير لمن أعطي الشكر والصبر جالبا ما جلب وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم من الأمور التي هي في الظاهر محن وابتلاء وهي في الباطن طرق خفية أدخلهم بها إلى غاية كمالهم وسعادتهم فتأمل قصة موسى وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون للأطفال ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدر هلاكه على يديه وهو يذبح الأطفال في طلبه فرماه في بيته وحجره على فراشه ثم قدر له سببا أخرجه من مصر وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه ثم قدر له سببا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعيلة ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجته ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون وهذا كله مما يبين أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته فكم في أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها وإخراجه بسببها من الجنة من حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها وكذلك ما قدره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب وكذلك فعله بعباده وأوليائه يوصل إليهم نعمة ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويحصر اللسان عن التعبير عنه وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وبأسمائه وصفاته وهو سبحانه قد أحاط علما بذلك كله قبل السماوات والأرض وقدره وكتبه عنده ثم يأمر ملائكته بكتابه ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد فيطابق حاله وشأنه لما كتب في الكتاب ولما كتبته الملائكة لا يزيد شيئا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده كان في علمه قبل أن يكتبه ثم كتبه كما في علمه ثم وجد كما كتبه قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما هم عاملون وما هم إليه صائرون ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها فأرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة للحجة عليهم لئلا يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زين لهم من الدنيا وبما ركب فيهم من الشهوات فذلك ابتلاه بشرعه وأمره وهذا ابتلاء بقضائه وقدره وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فأخبر في هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه وهذا من الحق الذي خلق به خلقه وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضا فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه وقدر عليهم الموت الذي ينالوا به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب وإن خبر في الآية الأولى أنه زين لهم ما على الأرض ليبتليهم به أيهم يؤثر ما عنده وابتلى بعضهم ببعض وابتلاهم بالنعم والمصائب فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودا عيانا بعد أن كان غيبا في علمه فابتلى أبوي الإنس والجن كل منهما بالآخر فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه فلهذا قال للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة فابتلى الأنبياء بأممهم وابتلى أممهم بهم وقال لعبده ورسوله وخليله إني مبتليك ومبتل بك وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} وفي الحديث الصحيح: "أن ثلاثة أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيرا فأعطاه الله البصر والغنى وبذل للسائل ما طلبه شكرا لله وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كان عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر وقال في الغنى إنما أوتيته كابرا عن كابر وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولا من نقص أو جهل وفقر وذنوب وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم بذلك عليه ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال حتى جعله بشرا سويا يسمع ويبصر ويقول وينطق ويبطش ويعلم فنسي مبدأه وأوله وكيف كان ولم يعترف بنعم ربه عليه كما قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُون} وأنت إذا تأملت ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى وجدت تحتها كنزا عظيما من كنوز المعرفة والعلم فأشار سبحانه بمبدأ خلقه مما يعلمون من النطفة وما بعدها إلى موضع الحجة والآية الدالة على وجوده ووحدانيته وكماله وتفرده بالربوبية والإلهية وأنه لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى لا يرسل إليهم رسولا ولا ينزل عليهم كتابا وأنه لا يعجز مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقا جديدا ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من الخير والشر فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم يكذبون ويكذبون رسلي ويعدلون بي خلقي وهم يعلمون من أي شيء خلقتهم ويشبه هذا قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} وهم كانوا مصدقين بأنه خالقهم ولكن احتج عليهم بخلقه لهم على توحيده ومعرفته وصدق رسله فدعاهم منهم ومن خلقه إلى الإقرار بأسمائه وصفاته وتوحيده وصدق رسله والإيمان بالمعاد وهو سبحانه يذكر عباده بنعمه عليهم ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه كما تضمنته سورة النعم وهي سورة النحل من قوله: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة} إلى قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فذكرهم بأصول النعم وفروعها وعددها عليهم نعمة نعمة وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم ليسلموا له فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قال مجاهد: "المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم" وقال عون بن عبد الله: "يقولون لولا فلان لكان كذا وكذا" وقال الفراء وابن قتيبة: "يعرفون أن النعم من الله ولكن يقولون هذه بشفاعة آلهتنا" وقالت طائفة: "النعمة ههنا محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارها جحدهم نبوته" وهذا يروى عن مجاهد والسدّي وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار فإنه إنكار لما هو أجل النعم أن تكون نعمة وأما على القول الأول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره فإن الذي قال إنما كان هذا لآبائنا ورثناه كابرا عن كابر جاحدا لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكرا وقالا إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر فقال إن كنتما كاذبين فصيركما الله إلى ما كنتما وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آباءهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمة وأما قول الآخرين لولا فلان لما كان كذا فيتضمن قطع إضافة النعمة إلى من لولاه لم تكن وإضافتها إلى من لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا وغايته أن تكون جزء من أجزاء السبب أجرى الله تعالى نعمته على يده والسبب لا يستقل بالإيجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه وهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب من إنعامه وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب وقد ينعم بدونه فلا يكون له أثر وقد يسلبه تسبيبيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة وأما قول القائل بشفاعة آلهتنا فتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمة فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له فمن المنعم على الحقيقة سواه قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا ذم الله سبحانه من أتاه شيئا من نعمة فقال إنما أوتيته على علم عندي وفي الآية الأخرى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} وقال البغوي: "على علم من الله أني له أهل" وقال مقاتل: "على خير علمه الله عندي" وقال آخرون: "على علم من الله أني له أهل" ومضمون هذا القول أن الله آتانيه على علمه بأني أهله وقال آخرون: "بل العلم له نفسه ومعناه أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب" قاله قتادة وغيره وقيل: المعنى قد علمت أني لما أوتيت هذا في الدنيا فلي عند الله منزلة وشرف وهذا معنى قول مجاهد "أوتيته على شرف" قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها لا يدل على اصطفائه واجتبائه وأنه محبوب لنا مقرب عندنا ولهذا قال في قصة قارون: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعا} فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك وشرف قدره وعلو منزلته عنده لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته علم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم ولهذا قال في الآية الأخرى: {بَلْ هِيَ فِتْنَة} أي النعمة فتنة لا كرامة ولكن أكثرهم لا يعلمون ثم أكد هذا المعنى بقوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي قد قال هذه المقالة الذين من قبلهم لما آتيناهم نعمنا قال قال ابن عباس: "كانوا قد بطروا نعمة الله إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا وقالوا هذه كرامة من الله لنا" وقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ولم يكن كذلك لأنهم وقعوا في العذاب ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا وتبين أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا وهو أن من منعناه إياها وقال أبو إسحاق: "معنى الآية أن قولهم إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه وإنا أهله أحبط أعمالهم فكنى عن إحباط العمل بقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ثم أبطل سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} "والمقصود أن قوله على علم عندي إن أريد به علمه نفسه كان المعنى أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلت بها إلى ذلك وحصلته بها وإن أريد به علم الله كان المعنى أوتيته على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وإني أهله وذلك من كرامتي عليه وقد يترجح هذا القول بقوله أوتيته ولم يقل حصلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ويدل عليه قوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي محنة واختبار والمعنى أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا بل أوتيه امتحانا منا وابتلاء واختبارا هل يشكر فيه أم يكفر وأيضا فهذا يوافق قوله: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه وذلك محض الكفر بها فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة وأنها من المنعم وحده فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها فإذا قال أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بها كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا من أشد منا قوة فهؤلاء اغتروا بقوتهم وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتهم ولا عن هذا علمه وعلى التقدير الثاني يتضمن ذم من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا لها فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره فقد جعل سببها ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر ليس ذلك جزاء على ما هو منه ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكل محض منته وفضله وجوده وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه وإن أضافها إليه من وجه دون وجه وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها فأسبابها من نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه فكسبه من نعمه فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته وشكره نعمة منه عليه كما قال داود: "يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك علي تستوجب شكرا آخر فقال: الآن شكرتني يا داود" ذكره الإمام أحمد وذكر أيضا عن الحسن قال: قال داود: "إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر كله لما أدّوا مالك علي من حق نعمة واحدة والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل إنما أوتيته على علم عندي ونظير ذلك قوله: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} قال ابن عباس: "يريد من عندي" وقال مقاتل: "يعني أنا أحق بهذا" وقال مجاهد: "هذا بعملي وأنا محقوق به" وقال الزجاج: "هذا واجب بعملي استحقيته" فوصف الإنسان بأقبح صفتين إن مسه الشر صار إلى حال القانط ووجم وجوم الآيس فإذا مسه الخير نسي أن الله هو المنعم عليه المفضل بما أعطاه فبطر وظن أنه هو المستحق لذلك ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال:: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ثم أضاف إلى ذلك ظنه الكاذب أنه إن بعث كان له عند الله الحسنى فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعا.
    ● فصل ●
    وفي قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} قول آخر أنه على علم الضال كما قيل على علم منه أن معبوده لا ينفع ولا يضر فيكون المعنى أضله الله مع علمه الذي تقوم به عليه الحجة لم يضله على جهل وعدم علم هذا يشبه قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} وقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ونظائره كثيرة وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده وهو يراها عيانا كما في الحديث: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" فإن الضال عن الطريق قد يكون متبعا لهواه عالما بأن الرشد والهدى في خلاف ما يعمل ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل به كان له ضدان الجهل وترك العمل به فالأول ضلال في العلم والثاني ضلال في القصد والعمل فقد وقع قوله على علم في قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم} وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} وفي قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} فالأول يرجع العلم فيه إلى الله قولا واحدا والثاني والثالث فيهما قولان والراجح في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أن يكون كالأول وهو قول عامة السلف والثالث فيه قولان محتملان وقد ذكر توجههما والله أعلم والمقصود ذكر مراتب القضاء والقدر علما وكتابة ومشيئة وخلقا.

    ● [ الباب الحادي عشر ] ●
    ● الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة
    وقد تقدم في أول الكتاب ما دل على ذلك من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة فنذكر هنا بعض ما لم نذكره قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء لا تختص بزبور داود والذكر أم الكتاب الذي عند الله والأرض الدنيا وعباده الصالحون أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هذا أصح الأقوال في هذه الآية وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول إنهم يرثون الأرض من الكفار ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء" وكتب في الذكر كل شيء فهذا هو الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والكتب المنزلة قد أطلق عليه الزبر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر} أي أرسلناهم بالآيات الواضحات والكتب التي فيها الهدى والنور والذكر ههنا الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما التوراة والإنجيل والذكر في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} هو القرآن ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه وكتابته له بعد علمه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} فجمع بين الكتابين الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم والكتاب المقارن لأعمالهم فأخبر أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم ونبه بكتابته لها على ذلك قال نكتب ما قدموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم وآثارهم ما سنوا من سنة خير أو شر فاقتدي بهم فيها بعد موتهم وقال ابن عباس في رواية عطاء: "آثارهم ما أثروا من خير أو شر" كقوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فإن قلت قد استفيد هذا من قوله قدموا فما أفاد قوله: {آثَارَهُمْ} على قوله قلت أفاد فائدة جليلة وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه وما تولد من أعمالهم فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر وهو أثر أعمالهم فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها وهذا القول أعم من قول مقاتل وكأن مقاتلا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبا وتمثيلا لا حصرا وإحاطة وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: "نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا واحتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" وقد روى مسلم في صحيحه نحوه من حديث جابر وأنس وفي هذا القول نظر فإن سورة يس مكية وقصة بني سلمة بالمدينة إلا أن يقال هذه الآية وحدها مدنية وأحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها إما من النبي صلى الله عليه وسلم وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك نزلت مرتين والمقصود أن خطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم قال عمر بن الخطاب: "لو كان الله سبحانه تاركا لابن آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر" وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة" والمقصود أن قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها فيه وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وقد اختلف في الكتاب ههنا هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ على قولين فقالت طائفة المراد به القرآن وهذا من العام المراد به الخاص أي ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} ويجوز أن يكون من العام المراد به عمومه والمراد أن كل شيء ذكر فيه مجملا ومفصلا كما قال ابن مسعود: "وقد لعن الواصلة والمستوصلة ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه فقالت امرأة لقد قرأت القرآن فما وجدته فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدته قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة" وقال الشافعي ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها وقالت طائفة المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس وكان هذا القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه فإنه قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول وأنها لم تخلق سدى بل هي معبدة مذللة قد قدر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ثم قال إلى ربهم يحشرون فذكر مبدأها ونهايتها وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول، ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به فلم نفرط فيه من شيء بل أخبرناكم بكل ما كان وما هو كائن إجمالا وتفصيلا ويرجحه أمر آخر وهو أن هذا ذكر عقيب قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء ولم يفرط فيه من شيء ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق وكمال قدرته وعلمه وسعة ملكه وكثرة جنوده والأمم التي يحصيها غيره وهذا يتضمن أنه لا إله غيره ولا رب سواه وأنه رب العالمين فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه فهذا استدلال بأمره وذاك بخلقه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وشهد لهذا أيضا قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولمن نصر إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول لما سألوا آية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك فإنه قادر على ذلك وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم أذلوا أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة أن لم يؤمنوا ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف يعجز عن إنزال آية ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم وكتبهم وقدر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر بل الأمر كله له من يشأ يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فهو أظهر القولين والله أعلم وقال: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: "في اللوح المحفوظ المقري عندنا" قال مقاتل: "أن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله" والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه فتبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب وقوله لدينا يجوز فيه أن تكون من صلة أم الكتاب أي أنه في الكتاب الذي عندنا وهذا اختيار ابن عباس ويجوز أن يكون من صلة الخبر أنه عليّ حكيم عندنا ليس هو كما عند المكذبين به أي وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف والإحكام وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: "أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة ثم قرأ عطية: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} "والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كتب لهم من الشقاوة وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء قال: "يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ" فالكتاب على هذا القول الكتاب الأول ونصيبهم ما كتب لهم من الشقاوة وأسبابها وقال ابن زيد والقرطبي والربيع بن أنس: "ينالهم ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال فإذا فني نصيبهم واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم ورجح بعضهم هذا القول لمكان حتى التي هي للغاية يعني أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت ولمن نصر القول الأول أن يقول حتى في هذا الموضع هي التي تدخل على الجمل ويتصرف الكلام فيها إلى الابتداء كما في كقوله: فيا عجبا حتى كليب تسبني
    والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين فهو نصيبهم من الشقاوة ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك فعمت الآية هذا النصيب كله وذكر هؤلاء بعضه وهؤلاء بعضه هذا على القول الصحيح وأن المراد ما سبق لهم في أم الكتاب وقالت طائفة المراد بالكتاب القرآن قال الزجاج: "معنى نصيبهم من الكتاب ما أخبر الله من جزائهم نحو قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}"
    قال أرباب هذا القول وهذا هو الظاهر لأنه ذكر عذابهم في القرآن في مواضع ثم أخبر أنه ينالهم نصيبهم منه والصحيح القول الأول وهو نصيبهم الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا ولهذا القول وجه حسن وهو أن نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم وآثروه على غيره كما أن حظ المؤمنين منه كان الهدى والرحمة فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم وقريب من هذا قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تجعلونه حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به قال الحسن: "تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به" وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال عطاء ومقاتل: "كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ" وروى حماد بن زيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال: "كتب عليهم قبل أن يعملوه" وقالت طائفة: "المعنى أنه يحصى عليهم في كتب أعمالهم" وجمع أبو إسحاق بين القولين فقال: "مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه ومكتوب عليهم إذا فعلوه للجزاء" وهذا أصح وبالله التوفيق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: "ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه" وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق الفرج ذلك كله ويكذبه" وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قد قبلنا يا ِرسول الله قالوا: جئنا لنسألك عن هذا الأمر قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي ينقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها" كما في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي".

    شفاء العليل [ 4 ] Fasel10

    كتاب : شفاء العليل في مسائل
    القضاء والقدر والحكمة والتعليل
    تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    شفاء العليل [ 4 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 2:28 pm