من طرف اسرة التحرير الأربعاء فبراير 23, 2022 2:34 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ● [ الباب السابع عشر ] ●
● الباب السابع عشر : في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا وما دل عليه السمع والعقل من ذلك، أما الكسب فأصله في اللغة الجمع قاله الجوهري وهو طلب الرزق يقال كسبت شيئا واكتسبته بمعنى وكسبت أهلي خيرا وكسبت الرجل مالا فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل والكواسب الجوارح وتكسب تكلف الكسب انتهى والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه أحدها عقد القلب وعزمه كقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما عزمتم عليه وقصدتموه وقال الزجاج: "أي يؤاخذكم بعزمكم" على أن لا تبروا وأن لا تتقوا وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة وأنها تقتضي تعذيبا فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان اليمين والقول الأول أصح وهو قول جمهور أهل التفسير فإنه قابل به لغو اليمين وهو أن لا يقصد اليمين فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده وعزمه كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} فتعقيد الإيمان هو كسب القلب الوجه الثاني من الكسب: كسب المال من التجارة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} فالأول للتجار والثاني للزراع والوجه الثالث من الكسب: السعي والعمل كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فهذا كله للعمل واختلف الناس في الكسب والاكتساب هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق فقالت طائفة معناهما واحد قال أبو الحسن علي بن أحمد وهو الصحيح عند أهل اللغة: "ولا فرق بينهما" قال ذو الرمة: ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب وقال الآخرون الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ولا يقال يكتسب قال الحطيئة: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر هداك مليك الناس يا عمر قلت: والاكتساب افتعال وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعى وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا مالها فيه اجتهاد واهتمام وأما الجبر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول أحدها: أن يغنى الرجل من فقر أو يجبر عظمه من كسر وهذا من الإصلاح وهذا الأصل يستعمل لازما ومتعديا يقول جبرت العظم وجبر وقد جمع العجاج بينهما في قوله: قد جبر الدين الإله فجبر الأصل الثاني: الإكراه والقهر وأكثر ما يستعمل هذا على أفعل يقال أجبرته على كذا إذا أكرهته عليه ولا يكاد يجيء جبرته عليه إلا قليلا والأصل الثالث: من العز والامتناع ومنه نخلة جبارة قال الجوهري: "والجبار من النخل ما طال وفات اليد" قال الأعشى: طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قال: "أراد الطول والقوة والعظم" ذهب في هذا إلى الجبار من النخل وهو الطويل الذي فات الأيدي ويقال رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل قال قتادة: "كانت لهم أجسام وخلق عجيبة ليست لغيرهم" وقيل الجبار ههنا من جبره على الأمر إذا أكرهه عليه قال الأزهري: "وهي لغة معروفة كثير من الحجازيين يقولونها" وكان الشافعي رحمه الله يقول: "جبره السلطان" ويجوز أن يكون الجبار من أجبره على الأمر إذا أكرهه قال الفراء: "لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك" وهذا اختيار الزجاج قال الجبار من الناس العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وأما الجبار من أسماء الرب تعالى فقد فسره بأنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير والرب سبحانه كذلك ولكن ليس هذا معنى اسمه الجبار ولهذا قرنه باسمه المتكبر وإنما هو الجبروت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هو العظيم وجبروت الله عظمته والجبار من أسماء الملوك والجبر الملك والجبابرة الملوك قال الشاعر: وأنعم صباحا أيها الجبر أي أيها الملك وقال السدي: "هو الذي يجبر الناس ويقهرهم على ما يريد وعلى هذا فالجبار معناه القهار وقال محمد بن كعب: "إنما سمي الجبار لأنه جبر الخلق على ما أراد والخلق أدق شأنا من أن يعصوا ربهم طرفة عين إلا بمشيئته" قال الزجاج: "الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد" وقال ابن الأنباري: "الجبار في صفة الرب سبحانه الذي لا ينال" ومنه قولهم نخلة جبارة إذا فاتت يد المتناول فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان الملك والقهر والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت جبارة ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} أي مسلط تقهرهم وتكرههم على الإيمان وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس". فصل: إذا عرف هذا فلفظ الكسب تطلقه القدرية على معنى والجبرية على معنى وأهل السنة والحديث على معنى فكسب القدرية هو وقوع الفعل عندهم بإيجاد العبد وإحداثه ومشيئته من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده وكسب الجبرية لفظ لا معنى له ولا حاصل تحته وقد اختلفت عباراتهم فيه وضربوا له الأمثال وأطالوا فيه المقال فقال القاضي: "الكسب ما وجدوا عليه قدرة محدثة" وقيل: أنه المتعلق بالقادر على غير جهة الحدوث وقيل: أنه المقدور بالقدرة الحادثة قالوا: ولسنا نريد بقولنا ما وجدوا عليه قدرة محدثة أنها قدرة على وجوده فإن القادر على وجوده هو الله وحده وإنما نعني بذلك أن للكسب تعلقا بالقدرة الحادثة لا من باب الحدوث والوجود وقال الأسفرائيني: "حقيقة الخلق من الخالق وقوعه بقدرته من حيث صح انفراده به وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته وحقيقة الكسب من المكتسب وقوعه بقدرته مع انفرداه به ويختص القديم تعالى بالخلق ويشترك القديم والمحدث في الفعل ويختص المحدث بالكسب" قلت: مراده أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده وإطلاق لفظ الكسب يختص بالمحدث وإطلاق لفظ الفعل يصح على الرب سبحانه والعبد وقال أيضا: "كل فعل يقع على التعاون كان كسبا من المستعين" قلت: يريد أن الخالق يستقل بالخلق والإيجاد والكاسب إنما يقع منه الفعل على وجهه المعاونة والمشاركة منه ومن غيره لا يمكنه أن يستقل بإيجاد شيء البتة وقال آخرون: قدرة المكتسب تتعلق بمقدوره على وجه ما وقدرة الخالق تتعلق به من جميع الوجوه قالوا وليس كون الفعل كسبا من حقائقه التي تخصه بل هو معنى طرأ عليه كما يقول منازعونا من المعتزلة إن هذه الحركة لطف وهذا الفعل لطف وصيغة أفعل تصير أمرا بالإرادة لأنها حدثت بالإرادة واعتقاد الشيء على ما هو به يصير علما بسكون النفس إليه لا أنه يحدث كذلك به والأشياء قد تقترن في الوجود فتتغير أوصافها وأحكامها قالوا فالحركة إذا صادفت المتحرك بها على وجه مخصوص تسمى سباحة مثلا ولطما ومشيا ورقصا وقال الأشعري و ابن الباقلاني: "الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبا دون كونه موجودا أو محدثا فكونه كسبا وصف للوجود بمثابة كونه معلوما" ولخص بعض متأخريهم هذه العبارات بأن قال: "الكسب عبارة عن الاقتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل" فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما فهذا الاقتران هو الكسب ولهذا قال كثير من العقلاء إن هذا من محالات الكلام وإنه شقيق أحوال أبي هاشم وطفرة النظام والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه القائلون به كلاما وشيء من ذلك غير معقول ولا متصور والذي استقر عليه قول الأشعري: "أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها ولم يقع المقدور ولا صفة من صفاته بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة ولا تأثير للقدرة الحادثة فيه" وتابعه على ذلك عامة أصحابه والقاضي أبو بكر يوافقه مرة ومرة يقول: "القدرة الحادثة لا تؤثر في إثبات الذات وأحداثها ولكنها تقتضي صفة للمقدور زائدة على ذاته تكون حالا له" ثم تارة يقول: "تلك الصفة التي هي من أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى ولم يمتنع من إثبات هذا المقدور بين قادرين على هذا الوجه" وقد اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابا عظيما و اختلفت عباراتهم فيه اختلافا كثيرا وقد ذكره كله أبو القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري في شرح الإرشاد وذكر اختلاف طرائقهم واضطرابهم فيه ثم قال: "وقد قال الأستاذ في المختصر قول أهل الحق في الكسب لا يرجع إلى إثبات قدرة للعبد عليه" كما يقال أنه معلوم له إلا أن الإمام ادعى على الأستاذ أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرا في الحدوث فإنه لما نفي الأحوال وأثبت للقدرة الحادثة أثرا فلا يعقل الجمع بينهما إلا أن يكون الأثر في الحدوث ثم ذكر لنفسه مذهبا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن الأصحاب وهو قريب من مذهب المعتزلة والخلاف بينه وبينهم فيه في الاسم قال: "وهذه العقدة التي تورط الأصحاب فيها في الكسب شبيهة بالعقدة التي وقعت بين الأئمة في القراءة والمقروء "قالك "وما ذكره الإمام في النظامية له وجه غير أنه مما انفرد بإطلاقه" ولكل ناظر نظره والله يرحمنا وإياه قلت: الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما ونحن نذكر كلامه بلفظه قالك "قد تقرر عند كل حاظ! بعقله مترق عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب سبحانه يطالب عباده بأعمالهم في حياتهم ودواعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها في مآلهم" وتبين بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم به ومكنهم من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث والزواجر عن الفواحش الموبقات وما نيط ببعضها من الحدود والعقوبات ثم تلفت على الوعد والوعيد وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء عما يتوجه على المردة العتاة من الحساب والعقاب وسوء المنقلب والمآب وقول الله لهم لم تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة لئلا يكون للناس علي حجة وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو مستقر على تقليده مصمم على جهله ففي المصير إليه أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون فإن زعم من لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلا وإذا طولب بمتعلق طلب الله بفعل العبد تحريما وفرضا ذهب في الجواب طولا وعرضا وقال لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون قيل له ليس لما جئت به حاصل كلمة حق أريد بها باطل نعم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق وقد فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه عزت قدرته طالب عباده بما أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومة فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال وفيه إبطال الشرع ورد ما جاء به النبيون فإذا لزم المصير بأن القدرة الحادثة تؤثر في مقدورها واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين إذ الواحد لا ينقسم فإن وقع بقدرة الله استقل بها وأسقط أثر القدرة الحادثة ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله تعالى فإن الفعل الواحد لا بعض له وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعى الاستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالبا بالشرائع وفيه أبطال دعوة المرسلين وبين أن يثبت نفسه شريكا لله في إيجاد الفعل الواحد وهذه الأقسام بجملتها باطلة ولا ينجى من هذه الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى وذلك أن قائلا لو قال العبد يكتسب وأثر قدرته الاكتساب والرب سبحانه خالق لما العبد مكتسب له قيل له فما الكسب وما معناه وأديرت الأقسام المتقدمة على هذا القائل فلا يجد عنه مهربا ثم قال فنقول قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعا ولكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرا وخلقا فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة فعلا للعبد وإنما هي صفته وهي ملك لله وخلق له فإذا كان موقع الفعل خلقا لله فالواقع به مضاف خلقا إلى الله تعالى وتقديرا وقد ملك الله تعالى العبد اختيارا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم الله من حيث أنه وقع بفعل الله ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف ولكنهم ادعوا استبدادا بالاختراع وانفراد بالخلق والابتداع فضلوا وأضلوا وتبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله سبحانه قلنا أحدث الله تعالى القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه وهيأ أسباب الفعل وسلب العبد العلم بالتفاصيل وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواع مستحثة وخيرة وإرادة وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها العبد على ما علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالاقتداء والقدرة خلق الله ابتداء ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ولما هيأ أسباب وقوعه ومن هدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور منهي وفعله تقدير لله من أدلة خلق مقضي ونحن نضرب في ذلك مثلا شرعيا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك آن يتصرف في مال سيده ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث أن سببه إذنه ولولا إذنه لم ينفذ التصرف ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة ويعاقب فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه لمن وعاه حق وعيه وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره, فإن قيل على ماذا تحملون آيات الطبع والختم والإضلال في القرآن وهي متضمنة اضطرار الرب سبحانه للأشقياء إلى ضلالتهم, قلنا إذا أباح الله حل هذا الإشكال والجواب عن هذا السؤال لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض فنقول أولا من أنبأ الله سبحانه عن الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين بالإيمان مطالبين بالإسلام والتزام الأحكام مطالبة تكاليف ودعاء مع وصفهم بالتمكن والاقتدار والإيثار كما سبق تقريره ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين مصدودين قهرا مدعوين فالتكليف عنده إذا بمثابة ما لو شد من الرجل يداه ورجلاه رباطا وألقي في البحر ثم قيل له لا تبتل وهذا أمر لا يحمل شرائع الرسل عليه إلا عائب بنفسه مجترئ على ربه ولا فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين في قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وبين أمر التكليف فإذا بطل ذلك فالوجه في الكلام على هذه الآي وقد غوى في حقائقها أكثر الفرق أن يقول إذا أراد الله بعبد خيرا أكمل عقله وأتم بصيرته ثم صرف عنه العوائق والدوافع وأزاح عنه الموانع ووفق له قرناء الخير وسهل له سبله وقطع عنه الملهيات وأسباب الغفلات وقيض له ما يقربه إلى القربات فيوافيها ثم يعتادها ويمرن عليها وإذا أراد الله بعبده شرا قدر له مما يبعده عن الخير ويقصيه وهيأ له أسباب تماديه في الغي وحبب إليه التشوف إلى الشهوات وعرضه للآفات وكلما غلبت عليه دواعي النفس خنست دواعي الخير ثم يستمر على الشرور على مر الدهور ويأتي مهاويها ويتعاون عليه الوسواس ونزعات الشيطان ونزفات النفس الإمارة بالسوء فتنسخ الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره فذلكم الطبع والختم والأكنة وأنا أضرب في ذلك مثلا فأقول لو فرضنا شابا حديث العهد بحلمه لم تهذبه المذاهب ولم تحنكه التجارب وهو على نهاية في غلمته وشهوته وقد استمكن من بلغة من الحطام وخص بمسحة من الجمال ولم يقم عليه قوام يزعه عن ورطات الردى ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى ووافاه أخدان الفساد وهو في غلواء شبابه يحدث نفسه بالبقاء أمدا بعيدا فما أقرب من هذا وصفه من خلع العذار والبدار إلى شيم الأشرار وهو مع ذلك كله مؤثر مختار ليس مجبرا على المعاصي والزلات ولا مصدودا عن الطاعات ومعه من العقل ما يستوجب به اللائمة إذا عصى فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه فإنه ليس ممنوعا ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم وقضائه الفصل محجوج بحجة الله ألا أن يتغمده الله برحمته وهو أرحم الراحمين وهذا الذي ذكرته بين في معاني الآيات لا يتمارى فيه موفق قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أراد أنهم استمروا على المخالفات وأصرا بانتهاك الحرمات فقست قلوبهم وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقد جمعت بين تفويض الأمور كلها نفعها وضرها خيرها وشرها إلى الإله جلت قدرته وبين إثبات حقائق التكليف وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول ألست في هذا أهدى سبيلا وأقوم قيلا ممن يقدر الطبع منعا والختم صدا ودفعا ثم ينفي التكاليف بزعمه وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقا فذهب ذاهبون إلى أن المخذولين ممنوعون مدفوعون لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق وهم مع ذلك ملزمون وهذا خطب جسيم وأمر عظيم وهو طعن في الشرائع وإبطال للدعوات وقد قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} وقال إبليس:: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُد} نعوذ بالله من سوء النظر في مواقع الخطر وذهب طوائف من الضلال إلى أن العبد يعصي والرب لما يأتي به كاره فهذا خبط في الأحكام الإلهية ومزاحمة في الربوبية ولو لم يرد الرب من الفجار ما علمه منهم في أزليته لما فطرهم مع علمه بهم كيف وقد أكمل قواهم وأمدهم بالعدد والعدد والعتاد وسهل لهم طريق الحيد عن السداد, فإن قيل: فعل ذلك بهم ليطيعوه, قلنا أنى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه ويهلكون أنفسهم ويهلكون أولياءه وأنبيائه ويشقون شقاوة لا يسعدون بها أبدا ولو علم سيد عن وحي أو أخبار نبي أنه لو أمد عبده بالمال لطغى وأبق وقطع الطريق فأمده بالمال زاعما أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد وهو مع ذلك يقول أعلم أنه لا يفعل ذلك قطعا فهذا السيد مفسد عبده وليس مصلحا له باتفاق من أرباب الألباب فقد زاغت الفئتان وضلت الفرقتان واعترضت إحداهما على القواعد الشرعية وزاحمت الأخرى أحكام الربوبية واقتصد الموفقون فقالوا مراد الله من عباده ما علم أنهم إليه يصيرون ولكنه لم يسلبهم قدرتهم ولم يمنعهم مراشدهم فقرت الشريعة في نصابها وجرت العقيدة في الأحكام الإلهية على صوابها, فإن قيل كيف يريد الحكيم السفه فقد أوضحنا أن الأفعال متساوية في حق من لا ينتفع ولا يتضرر ولكن إذا أخبر أنه مكلف مطالب عباده مزيح عللهم فقوله الحق وكلامه الصدق وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منا إذا رأى جواريه وعبيده يمرج بعضهم في بعض وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع فلا يحسن تركهم على ما هم عليه والرب سبحانه يطلع على سوء أفعالهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون ثم قال قد أطلقت أنفاسي ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم من يسرد لي هذا الفصل لكان وحق القائم على كل نفس بما كسبت أحب إلي من ملك الدنيا بحذافيرها أطول أمدها" انتهى كلامه بلفظه وهذا توسط حسن بين الفريقين وقد أنكره عليه عامة أصحابه منهم الأنصاري شارح الإرشاد وغيره وقالوا هو أقرب من مذهب المعتزلة ولا يرجع الخلاف بينه وبينهم إلا إلى الاسم فقط وأن هذا مما انفرد به ولكن بقي عليه فيه أمور منها أنه نفى كراهة الله لما قدره من المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له وأنه إذا كان قد قدر الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبه ولا يكرهه وإن كانت قدرة العبد واختياره مؤثرة في إيجاد الفعل عنده بأقدار الرب سبحانه وقد أصاب في هذا وأجاد ولكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يكرهه إذا كان واقعا قول في غاية البطلان وهو مخالف لصريح العقل والنقل والذي قاده إلى ذلك قوله أن المحبة هي الإرادة والمشيئة وأن كل ما شاءه فقد أراده وأحبه ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبة لزمه أحد أمرين باطلين لا بد له من التزامه أما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان أو القول بأنه ما شاء ذلك ولا قدره ولا قضاه وقد قال بكل من المتلازمين طائفة قالت طائفه لا يحبها ولا يرضاها فما شاءها ولا قضاها وقالت طائفة هي واقعة بمشيئته وإرادته فهو يحبها ويرضاها فاشترك الطائفتان في هذا الأصل وتباينا في لازمه وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة الأنعام والنحل والزخرف فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} وكذلك حكى عنهم في النحل ثم قال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال في الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرهم عليه وأنه لولا محبته له ورضاه به لما شاءه منهم وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل قالوا كيف يأمر بالشيء قد شاء منا خلافه وكيف يكره منا شيئا قد شاء وقوعه ولو كرهه لم يمكنا منه ولحال بيننا وبينه فكذبهم سبحانه في ذلك وأخبر أن هذا تكذيب منهم لرسله وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم ويبغضه ويمقته وأنه لولا بغضه وكراهته لما أذاق المشركين بالله عذابه فإنه لا يعذب عبده على ما يحبه ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه وأنه يحبه ويرضى به ومجرد إقراره لهم قدرا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء وإلا كان الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبا له مرضيا ثم أخبر سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن وهو أكذب الحديث وأنهم لذلك كانوا أهل الخرص والكذب ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين إحداهما ما ركبّه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح والباطل والأسماع والأبصار التي هي آلة إدراك الحق والتي يفرق بها بينه وبين الباطل والثانية إرسال رسله وإنزال كتبه وتمكينهم من الإيمان والإسلام ولم يؤاخذهم بأحد الأمرين بل بمجموعها لكمال عدله وقطعا لعذرهم من جميع الوجوه ولذلك سمى حجته عليهم بالغة أي قد بلغت غاية البيان وأقصاه بحيث لم يبق معها مقال لقائل ولا عذر لمعتذر ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قبله ثم ختم الآية بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته وهذا من تمام حجته البالغة فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته لزم وجوده عند مشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كان هذا من أعظم أدلة التوحيد ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه فما احتججتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من أظهر الأدلة على بطلانه وفساده فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدا له وافتقارا والتجاء إليه وبراءة من الحول والقوة إلا به ورغبة إليه أن يقيلهم مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع لنفعهم ذلك ولفتح لهم باب الهداية ولكن ذكروه معارضين به أمره ومبطلين به دعوة الرسل فما ازدادوا به إلا ضلالا والمقصود أنه سبحانه قد فرق بين حجته ومشيئته وقد حكى أبو الحسن الأشعري في مقالاته اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك والذي حكى عنه ابن فورك في كتاب تجريده لمقالاته أنه كان يفرق بين ذلك قال: "وكان لا يفرق بين الود والحب والإرادة والمشيئة والرضا وكان لا يقول أن شيئا منها يخص بعض المردات دون بعض بل كان يقول أن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول معه الإبهام وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنا من أهل الخير كما علم والكافر أيضا مراد أن يكون كافرا كما علم من أهل الشر ويحب أن يكون ذلك كذلك كما علم وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار ويقيد اللفظ بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ" انتهى والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبه والفقهاء كلهم وجمهور المتكلمين والصوفية أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات وإن كانت واقعة بمشيئته فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده ويبغض أعمالهم ولا يحب ذلك وإن وجد بمشيئته قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وقال:: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال:: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} وقال:: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقال:: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها فهذا صريح في إبطال قول من تأول النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه ويحبها إذا وقعت فهو يحبها ممن وقعت منه ولا يحبها ممن لم تقع منه وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها وحال وقوعها وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث والله منزه عن محبة القبيح والخبيث بل هو أكره شيء إليه قال الله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين ولأجل ذلك يثبطهم عنها فكيف يحب نفاقهم ويرضاه ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر ولذلك قالوا لا يجب شكره على نعمه عقلا فعن هذا الأصل قالوا أن مشيئته هي عين محبته وإن كل ما شاءه فهو محبوب له ومرضى له ومصطفى ومختار فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل أن يقولوا أنه يبغض الأعيان والأفعال التي خلقها ويحب بعضها بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر فحثوا به على الشرع والقدر والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة وكابروا لأجلها صريح العقل وسووا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر وقالوا هما سواء لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مساو للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر ليس في هذا ما يقتضي حسنه ولا في هذا ما يقتضي قبحه وجعلوا هذا المذهب شعارا لأهل السنة والقول بخلافه قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ولعمر الله أنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه وقد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح والمقصود أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له وكل معدوم فهو مكروه له وانضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه وأنه لا يفعل شيئا لمعنى ألبتة وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب وأنه لا يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع والغرائز وأن تكون أسبابا أو يكون لها أثر انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر والتزموا لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا و فسادا و هي من أول شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها فإن فساد اللازم من فساد ملزومه فإن قيل الكراهة والمحبة ترجع إلى المنافرة والملائمة للطبع وذلك محال في حق من لا يصف بطبع ولا منافرة ولا ملائمة قيل قد دلت النصوص التي لا تدفع على وصفه تعالى بالمحبة و الكراهة فتبينكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملائمة الطبع ومنافرته باطل وهو كنفي كل مبطل حقائق أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية توصل بها إلى نفي ما وصف به نفسه كتسمية الجهمية المعطلة صفاته أعراضا ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وسموا أفعاله القائمة به حوادث ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وقالوا لا تحله الحوادث كما قالت المعطلة لا تقوم به الأعراض وسموا علوه على خلقه واستواءه على عرشه وكونه قاهرا فوق عباده تحيزا وتجسما ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه واستوائه على عرشه وسموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه واليدين والأصبع جوارح وأعضاء ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء: {إِنْ هِيَ إِلاَّأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّالظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} فتوصلوا بالتشبيه والتجسيم والتركيب والحوادث والأعراض والتحيز إلى تعطيل صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأخلوا تلك الأسماء من معانيها وعطلوها من حقائقها فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته ما الفرق بينك وبين من نفى كونه مريدا لاستلزام الإرادة حركة النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها ونفى سمعه وبصره لاستلزام ذلك تأثر السمع والبصر بالمسموع والمبصر وانطباع صورة المرئي في الرائي وحمل الهواء الصوت المسموع إلى إذن السامع ومن نفى علمه لاستلزامه انطباع صورة المعلوم في النفس الناطقة ونفي غضبه ورضاه لاستلزام ذلك حركة القلب وانفعاله بما يرد عليه من المؤلم والسار ونفي كلامه لاستلزام الكلام محلا يقوم به ويظهر منه من شفة ولسان ولهوات ولما لم يكن أحدا أقر بوجود رب العالمين طرد ذلك وقع في التناقض ولا بد فإنه أي شيء أثبته لزمه فيه ما التزم كمن أثبت ما نفاه هو من غير فرق البتة ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: "لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين" والمقصود أنا لا نجحد محبته تعالى لما يحبه وكراهته لما يكرهه لتسمية النفاة ذلك ملائمة ومنافرة وينبغي التفطن لهذا الموضع فإنه من أعظم أصول الضلال فلا نسمي العرش حيزا ولا نسمي الاستواء تحيزا ولا نسمي الصفات إعراضا ولا الأفعال حوادث ولا الوجه واليدين والأصابع جوارح وأعضاء ولا إثبات صفات كماله التي وصف بها نفسه تجسيما وتشبيها فنجني جنايتين عظيمتين جناية على اللفظ وجناية على المعنى فنبدل الاسم ونعطل معناه ونظير هذا تسمية خلقه سبحانه لأفعال عباده وقضائه السابق جبرا ولذلك أنكر أئمة ألسنة كالأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وغيرهم هذا اللفظ قال الأوزاعي والزبيدي: "ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما جاءت السنة بلفظ الجبر كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأشج عبد القيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما فقال: بل جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على ما يحب" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جبله على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية وإن كانا خلقين قائمين بالعبد فإن من الأخلاق ما هو كسبي ومنها ما لا يدخل تحت الكسب والنوعان قد جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يهب ما جبل عبده عليه من محاسن الأخلاق ويكره ما جبله عليه من مساويها فكلاهما بجبله وهذا محبوب له وهذا مكروه كما أن جبريل صلوات الله عليه مخلوق له وإبليس عليه لعائن الله مخلوق له وجبريل محبوب له مصطفى عنده وإبليس أبغض خلقه إليه ومما يوضح ذلك أن لفظ الجبر لفظ مجمل فإنه يقال أجبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم الرجل على البيع ومعنى هذا الجبر أكرهه عليه ليس معناه أنه جعله محبا لذلك راضيا به مختارا له والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله محبا له مختارا لإيقاعه راضيا به كارها لعدمه فإطلاق لفظ الجبر على ذلك فاسد لفظا ومعنى فإن الله سبحانه أجل وأعز من أن يجبر عبده بذلك المعنى وإنما يجبر العاجز عن أن يجعل غيره فاعلا بإرادته ومحبته ورضاه وأما من جعل فعل العبد مريدا محبا مؤثرا لما يفعله فكيف يقال أنه جبره عليه فهو سبحانه أجل وأعظم وأقدر من أن يجبر عبده ويكرهه على فعل يشاؤه منه بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعلا جعله قادرا عليه مريدا له محبا مختارا لإيقاعه وهو أيضا قادر على أن يجعله فاعلا له باختياره مع كراهته له وبغضه ونفرته عنه فكل ما يقع من العباد بإرادتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه الذي جعلهم فاعلين له سواء أحبوه و أبغضوه وكرهوه وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين كما يجبر غيره من لا يقدر على جعله فاعلا بإرادته ومشيئته نعم نحن لا ننكر استعمال لفظ الجبر فيما هو أعم من ذلك بحيث يتناول من قهر غيره وقدر على جعله فاعلا لما يشاء فعله وتاركا لما لا يشاء فعله فإنه سبحانه المحدث لإرادته له وقدرته عليه قال محمد بن كعب القرطبي في اسم الجبار: "أنه سبحانه هو الذي جبر العباد على ما أراد" وفي الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه: "اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها" فالجبر بهذا المعنى معناه القهر والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئا وقع ولا بد وإن لم يشأ لم يكن ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء والفرق بين هذا الجبر وجبر المخلوق لغيره من وجوه، أحدها أن المخلوق لا قدرة له على جعل الغير مريدا للفعل محبا له والرب تعالى قادر على جعل عبده كذلك، الثاني أن المخلوق قد يجبر غيره إجبارا يكون به ظالما معتديا عليه والرب أعدل من ذلك فإنه لا يظلم أحدا من خلقه بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والإحسان بل عدله فيهم من إحسانه إليهم كما سنبينه إن شاء الله تعالى، الثالث أن المخلوق يكون في جبره لغيره سفيها أو عائبا أو جاهلا والرب تعالى إذا جبر عبده على أمر من الأمور كان له في ذلك من الحكمة والعدل والإحسان والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد، الرابع أن المخلوق يجبر غيره لحاجته إلى ما جبره عليه ولانتفاعه بذلك وهذا لأنه فقير بالذات وأما الرب تعالى فهو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه وليس به حاجة إلى أحد، الخامس أن المخلوق يجبر غيره لنقصه فيجبره ليحصل له الكمال بما أجبره عليه والرب له الكمال المطلق من جميع الوجوه وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما يليق بهم فالمخلوق يجبر غيره ليتكمل والرب تعالى منزه عن كل نقص فكماله المقدس ينفي الجبر، السادس أن المخلوق يجبر غيره على فعل يعينه به على غرضه لعجزه عن التوصل إليه إلا بمعاونته له فصار الفعل من هذا والقهر والإكراه من هذا محصلا لغرض المكره كما أن المعين لغيره باختياره شريك له في الفعل والرب تعالى غني عما سواه بكل وجه فيستحيل في حقه الجبر، السابع أن المجبور على ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقا ضروريا بينه وبين ما يريد فعله باختياره ومحبته فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما علم بالحس والاضطرار الفرق بينهما وهو كالتسوية بين حركة المرتعش وحركة الكاتب وهذا من أبطل الباطل، الثامن أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المكره على الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة ويقولون قد أكره على كذا وجبره السلطان عليه وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضا على ذم من فعل القبائح باختياره وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك فمن سوى بين الأمرين فقد خرج عن موجب الشرع والعقل والفطرة، التاسع أن من أمر غيره بمصلحة المأمور وما هو محتاج إليه ولا سعادة له ولا فلاح إلا به لا يقال جبره على ذلك وإنما يقال نصحه وأرشده ونفعه وهداه ونحو ذلك وقد لا يختار المأمور المنهي ذلك فيجبره الناصح له على ذلك من له ولاية الإجبار وهذا جبر الحق وهو جائز بل واقع في شرع الرب وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه لا نمنع هذا الجبر، العاشر أن الرب ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فجعله العبد فاعلا لقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى والمخلوق لا يقدر أن يجعل غيره فاعلا إلا بإكراهه له على ذلك فإن لم يكرهه لم يقدر على غير الدعاء والأمر بالفعل وذلك لا يصير العبد فاعلا فالمخلوق هو يجبر غيره على الفعل ويكرهه عليه فنسبه ذلك إلى الرب تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي لا يجعل غيره فاعلا إلا بجبره له وإكراهه فكمال قدرته تعالى وكمال علمه وكمال مشيئته وكمال عدله وإحسانه وكمال غناه وكمال ملكه وكمال حجته على عبده تنفي الجبر.
كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية منتدى ميراث الرسول - البوابة