بسم الله الرحمن الرحيم
شرح إبن دقيق العيد للأربعين النووية
حديث : فضل الله تعالى ورحمته
*******************
37- [ عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال : ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف ].
" فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لُطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ. وقوله : ( عنده ) إشارة إلى الاعتناء بها. وقوله : ( كاملة ) للتأكيد وشدة الاعتناء بها. وقال : في السيئة التي هم بها ثم تركها : كتبها الله عنده حسنة كاملة، فأكدها بكاملة. وإن عملها كتبها سيئة واحدة، فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة، فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناءً عليه. وبالله التوفيق ".
قال الشراح لهذا الحديث :
هذا حديث شريف عظيم بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقدار تفضيل الله عز وجل على خلقه بأن جعل هم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة وجعل همه بالسيئة وإن لم يعملها حسنة وإن عملها سيئة واحدة فإن عمل الحسنة كتبها الله عشراً وهذا فضل عظيم بأن ضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات. وإنما جعل الهم بالحسنة حسنة لأن إرادة الخير هو فعل القلب لعقد القلب على ذلك. فإن قيل فكان يلزم على هذا القول أن يكتب لمن هم بالسيئة ولم يعملها سيئة لأن الهم بالشيء عمل من أعمال القلب أيضاً، قيل ليس كما توهمت فإن من كف عن الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر فجوزي على ذلك بحسنة وقد جاء في حديث آخر ( إنما تركها من جرّاي ) أي من أجلي وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : ( على كل مسلم صدقة قالوا فإن لم يفعل قال فليمسك عن الشر فإنه صدقة ) . ذكره البخاري في كتاب الآداب فأما إذا ترك السيئة مكرهاً على تركها أو عاجزاً عنها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى هذا الحديث.
قال الطبري وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال أن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك ورد لمقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من أعمال العبد أو سُمِع والمعنى أن الملكين الموكلين بالعبد يعلمان ما يهم بقلبه ويجوز أن يكون جعل الله تعالى لهم سبيلاً إلى علم ذلك كما جعل لكثير من الأنبياء سبيلاً في كثير من علم الغيب وقد قال الله في حق عيسى عليه السلام إنه قال لبني إسرائيل ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) ونبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبر بكثير من علم الغيب فيجوز أن يكون قد جعل الله للملكين سبيلاً إلى علم ما في قلب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا عزم عليه وقد قيل إن ذلك بريح تظهر لهما من القلب، وللسلف اختلاف في أي الذكرين أفضل ذكر القلب أو ذكر العلانية هذا كله قول ابن خلف المعروف بابن بطال وقال صاحب الإفصاح في كلام له وإن الله تعالى لما صرم هذه الأمة أخلفها على ما قصر من أعمارها بتضعيف أعمالها فمن هم بحسنة احتسب له بتلك الهمة حسنة كاملة لأجل أنها همة مفردة وجعلها كاملة لئلا يظن ظان أن كونها مجرد همة تنقص الحسنة أو تهضمها فبين ذلك، بأن قال حسنة كاملة وإن هم بالحسنة وعملها فقد أخرجها من الهمة إلى ديوان العمل وكتب له بالهمة حسنة ثم ضوعفت يعني إنما يكون ذلك على مقدار خلوص النية وإيقاعها في موضعها.
ثم قال بعد ذلك ( إلى أضعاف كثيرة ) هنا نكرة وهي أشمل من المعرفة فيقتضي على هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يكون ثم يقدر ليتناول هذا الوعد الكريم بأن يقول إذا تصدق الآدمي بحبة بر فإنه يحسب له ذلك في فضل الله تعالى إنه لو بذرت تلك الحبة في أزكى أرض وكان لها من التعاهد والحفظ والري فيما يقتضيه حالها ثم استحصدت، فظهر في حاصلها، ثم قدر ذلك الحاصل يدرس في أزكى أرض وكان التعاهد له على ما تقدم ذكره، ثم هكذا في السنة الثانية، ثم في السنة الثالثة والرابعة وما بعدها، ثم يستمر ذلك إلى يوم القيامة، فتأتي الحبة من البر والخردل والخشخاش أمثال الجبال الرواسي، وإن كانت الصدقة مثقال ذرة من جنس الإيمان، فإنه ينظر إلى ربح شيء يشتري في ذلك الوقت، ويقدر أنه لو بيع في أنفق سوق في أعظم بلد يكون ذلك الشيء فيه أشد الأشياء نفاقاً، ثم تضاعف ويتردد هذا إلى يوم القيامة، فتأتي الذرة بما يكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها وعلى هذا جميع أعمال البر في معاملة الله عز وجل، إذا خرجت سهامها عن نية خالصة وأفرغت في نوع قوس الإخلاص.
ومن ذلك أيضاً فضل الله تعالى يتضاعف بالتحويل في مثل أن يتصدق الإنسان على فقير بدرهم فيؤثر الفقير بذلك الدرهم فقيراً آخر هو أشد منه فقراً فيؤثر به الثالث رابعاً والرابع خامساً وهكذا فيما طال فإن الله تعالى يحسب للمتصدق الأول بالدرهم عشرة فإذا تحول إلى الثاني انتقل ذلك الذي كان للأول إلى الثاني فصار للثاني عشرة دراهم وللأول عن عشر مئات، فإذا تصدق بها الثاني صارت له مائة وللثاني ألف وللأول ألف ألف وإذا تصدق بها صارت له مائة وللثاني عشرة آلاف فيضاعف إلى ما لا يعرف مقداره إلا الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً إن الله سبحانه وتعالى إذا حاسب عبده المسلم يوم القيامة وكانت حسناته متفاوتة فيهن الرفيعة المقدار وفيهم دون ذلك فإنه سبحانه بجوده وفضله يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا لأن جوده جل جلاله أعظم من أن يناقش من رضي عنه في تفاوت سعر بين حسنتين وقد قال جل جلاله : ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) كما إنه ( إذا قال العبد في سوق من أسواق المسلمين لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره رافعاً بها صوته كتب الله له بذلك ألفي ألف حسنة، ومحى عنه ألفي ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة ) على ما جاء في الحديث وهذا الذي ذكرناه إنما هو مقدار معرفتنا. لا على مقدار فضل الله سبحانه وتعالى. فإنه أعظم من أن يجحده أحد أو يحصره خلف.
شرح إبن دقيق العيد للأربعين النووية
حديث : فضل الله تعالى ورحمته
*******************
37- [ عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال : ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف ].
" فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لُطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ. وقوله : ( عنده ) إشارة إلى الاعتناء بها. وقوله : ( كاملة ) للتأكيد وشدة الاعتناء بها. وقال : في السيئة التي هم بها ثم تركها : كتبها الله عنده حسنة كاملة، فأكدها بكاملة. وإن عملها كتبها سيئة واحدة، فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة، فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناءً عليه. وبالله التوفيق ".
قال الشراح لهذا الحديث :
هذا حديث شريف عظيم بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقدار تفضيل الله عز وجل على خلقه بأن جعل هم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة وجعل همه بالسيئة وإن لم يعملها حسنة وإن عملها سيئة واحدة فإن عمل الحسنة كتبها الله عشراً وهذا فضل عظيم بأن ضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات. وإنما جعل الهم بالحسنة حسنة لأن إرادة الخير هو فعل القلب لعقد القلب على ذلك. فإن قيل فكان يلزم على هذا القول أن يكتب لمن هم بالسيئة ولم يعملها سيئة لأن الهم بالشيء عمل من أعمال القلب أيضاً، قيل ليس كما توهمت فإن من كف عن الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر فجوزي على ذلك بحسنة وقد جاء في حديث آخر ( إنما تركها من جرّاي ) أي من أجلي وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : ( على كل مسلم صدقة قالوا فإن لم يفعل قال فليمسك عن الشر فإنه صدقة ) . ذكره البخاري في كتاب الآداب فأما إذا ترك السيئة مكرهاً على تركها أو عاجزاً عنها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى هذا الحديث.
قال الطبري وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال أن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك ورد لمقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من أعمال العبد أو سُمِع والمعنى أن الملكين الموكلين بالعبد يعلمان ما يهم بقلبه ويجوز أن يكون جعل الله تعالى لهم سبيلاً إلى علم ذلك كما جعل لكثير من الأنبياء سبيلاً في كثير من علم الغيب وقد قال الله في حق عيسى عليه السلام إنه قال لبني إسرائيل ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) ونبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبر بكثير من علم الغيب فيجوز أن يكون قد جعل الله للملكين سبيلاً إلى علم ما في قلب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا عزم عليه وقد قيل إن ذلك بريح تظهر لهما من القلب، وللسلف اختلاف في أي الذكرين أفضل ذكر القلب أو ذكر العلانية هذا كله قول ابن خلف المعروف بابن بطال وقال صاحب الإفصاح في كلام له وإن الله تعالى لما صرم هذه الأمة أخلفها على ما قصر من أعمارها بتضعيف أعمالها فمن هم بحسنة احتسب له بتلك الهمة حسنة كاملة لأجل أنها همة مفردة وجعلها كاملة لئلا يظن ظان أن كونها مجرد همة تنقص الحسنة أو تهضمها فبين ذلك، بأن قال حسنة كاملة وإن هم بالحسنة وعملها فقد أخرجها من الهمة إلى ديوان العمل وكتب له بالهمة حسنة ثم ضوعفت يعني إنما يكون ذلك على مقدار خلوص النية وإيقاعها في موضعها.
ثم قال بعد ذلك ( إلى أضعاف كثيرة ) هنا نكرة وهي أشمل من المعرفة فيقتضي على هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يكون ثم يقدر ليتناول هذا الوعد الكريم بأن يقول إذا تصدق الآدمي بحبة بر فإنه يحسب له ذلك في فضل الله تعالى إنه لو بذرت تلك الحبة في أزكى أرض وكان لها من التعاهد والحفظ والري فيما يقتضيه حالها ثم استحصدت، فظهر في حاصلها، ثم قدر ذلك الحاصل يدرس في أزكى أرض وكان التعاهد له على ما تقدم ذكره، ثم هكذا في السنة الثانية، ثم في السنة الثالثة والرابعة وما بعدها، ثم يستمر ذلك إلى يوم القيامة، فتأتي الحبة من البر والخردل والخشخاش أمثال الجبال الرواسي، وإن كانت الصدقة مثقال ذرة من جنس الإيمان، فإنه ينظر إلى ربح شيء يشتري في ذلك الوقت، ويقدر أنه لو بيع في أنفق سوق في أعظم بلد يكون ذلك الشيء فيه أشد الأشياء نفاقاً، ثم تضاعف ويتردد هذا إلى يوم القيامة، فتأتي الذرة بما يكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها وعلى هذا جميع أعمال البر في معاملة الله عز وجل، إذا خرجت سهامها عن نية خالصة وأفرغت في نوع قوس الإخلاص.
ومن ذلك أيضاً فضل الله تعالى يتضاعف بالتحويل في مثل أن يتصدق الإنسان على فقير بدرهم فيؤثر الفقير بذلك الدرهم فقيراً آخر هو أشد منه فقراً فيؤثر به الثالث رابعاً والرابع خامساً وهكذا فيما طال فإن الله تعالى يحسب للمتصدق الأول بالدرهم عشرة فإذا تحول إلى الثاني انتقل ذلك الذي كان للأول إلى الثاني فصار للثاني عشرة دراهم وللأول عن عشر مئات، فإذا تصدق بها الثاني صارت له مائة وللثاني ألف وللأول ألف ألف وإذا تصدق بها صارت له مائة وللثاني عشرة آلاف فيضاعف إلى ما لا يعرف مقداره إلا الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً إن الله سبحانه وتعالى إذا حاسب عبده المسلم يوم القيامة وكانت حسناته متفاوتة فيهن الرفيعة المقدار وفيهم دون ذلك فإنه سبحانه بجوده وفضله يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا لأن جوده جل جلاله أعظم من أن يناقش من رضي عنه في تفاوت سعر بين حسنتين وقد قال جل جلاله : ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) كما إنه ( إذا قال العبد في سوق من أسواق المسلمين لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره رافعاً بها صوته كتب الله له بذلك ألفي ألف حسنة، ومحى عنه ألفي ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة ) على ما جاء في الحديث وهذا الذي ذكرناه إنما هو مقدار معرفتنا. لا على مقدار فضل الله سبحانه وتعالى. فإنه أعظم من أن يجحده أحد أو يحصره خلف.