بّسم الله الرّحمن الرّحيم
فتح البارى ـ صحيح البخارى
باب : كيف كان بدء الوحى
حديث أَوَّلُ مَا بُدِئ مِنْ الْوَحْى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ -اللَّيَالِى ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ،{ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ : فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ : ( زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى ). فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَر َ: ( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى ). فَقَالَتْ خَدِيجَة ُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِى، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِى. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَة ُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَمُخْرِجِى هُمْ ) قَال َ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِى، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّى وَفَتَرَ الْوَحْى }.
{ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِى قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْى - فَقَالَ فِى حَدِيثِه ِ: ( بَيْنَا أَنَا أَمْشِى إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ. فَقُلْتُ : زَمِّلُونِى ). فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فَحَمِى الْوَحْى وَتَتَابَعَ }. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِى، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ " بَوَادِرُه ُ".
الشرح
قوله: (حدثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس فى الليث بن سعد الفهمى فقيه المصريين. وعقيل بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهرى نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبى -صلى الله عليه وسلم-، على إتقانه وإمامته.
(1/ 23) قوله: (من الوحى) يحتمل أن تكون " من " تبعيضية، أى: من أقسام الوحى، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز.
قوله: (الرؤيا الصالحة) وقع فى رواية معمر ويونس عند المصنف فى التفسير " الصادقة " وهى التى ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له فى اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
قوله: (فى النوم) لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين فى اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.
قوله: (مثل فلق الصبح) بنصب مثل على الحال، أى مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أى جاءت مجيئا مثل فلق الصبح. والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذى لا شك فيه. قوله: (حبب) لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحى الإلهام. والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له. وحراء بالمد وكسر أوله كذا فى الرواية وهو صحيح. وفى رواية الأصيلى بالفتح والقصر وقد حكى أيضا، وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية. هو جبل معروف بمكة. والغار: نقب فى الجبل وجمعه غيران.
قوله: (فيتحنث) هى بمعنى يتحنف، أى يتبع الحنفية وهى دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء فى كثير من كلامهم. وقد وقع فى رواية ابن هشام فى السيرة" يتحنف"بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.
قوله: (وهو التعبد) هذا مدرج فى الخبر، وهو من تفسير الزهرى كما جزم به الطيبى ولم يذكر دليله. نعم فى رواية المؤلف من طريق يونس عنه فى التفسير ما يدل على الإدراج.
قوله: (الليالى ذوات العدد) يتعلق بقوله يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل. وهو بالنسبة إلى المدد التى يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهى شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق. والليالى منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء. وينزع بكسر الزاى أى: يرجع وزنا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه فى التفسير.
قوله: (لمثلها) أى: الليالى. والتزود استصحاب الزاد. ويتزود معطوف على يتحنث. وخديجة هى أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، تأتى أخبارها فى مناقبها.
قوله: (حتى جاءه الحق) أى: الأمر الحق، وفى التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أى بغته. وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحى إليه بذلك فى المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك فى اليقظة عقب ما تقدم فى المنام. وسمى حقا لأنه وحى من الله تعالى. وقد وقع فى رواية أبى الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى فى المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: " يا محمد " فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: " يا محمد، جبريل جبريل " فهرب فدخل فى الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم فناداه فهرب. ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه (اقرأ باسم ربك) ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبى الأسود، وابن لهيعة ضعيف. وقد ثبت فى صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا : " لم أره - يعنى جبريل - على صورته التى خلق عليها إلا مرتين "، وبين أحمد فى حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التى خلق عليها، والثانية عند المعراج. وللترمذى من طريق مسروق عن عائشة: " لم ير محمد جبريل فى صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد " وهذا يقوى رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى. ووقع فى السيرة التى جمعها سليمان التيمى فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبى - صلى الله عليه وسلم -فى حراء وأقرأه (اقرأ باسم ربك) ثم انصرف، فبقى مترددا، فأتاه من أمامه فى صورته فرأى أمرا عظيما.
(1/ 24) قوله: (فجاءه) هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحى حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.
قوله: (ما أنا بقارئ) ثلاثا. " ما " نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكى عن الأخفش، جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفى، أى ما أحسن القراءة. فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: (اقرأ باسم ربك) أى: لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان فى الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية، ذكره السهيلى. وقال غيره: إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص. ورده الطيبى بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتة. فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟ أجاب أبو شامة: بأن يحمل قوله أولا: " ما أنا بقارئ " على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام. ويؤيده أن فى رواية أبى الأسود فى مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ وفى رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق: ماذا أقرأ، وفى مرسل الزهرى فى دلائل البيهقى: كيف أقرأ، كل ذلك يؤيد أنها استفهامية. والله أعلم.
قوله: (فغطنى) بغين معجمة وطاء مهملة. وفى رواية الطبرى بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمنى وعصرنى، والغط حبس النفس، ومنه غطه فى الماء، أو أراد غمنى ومنه الخنق. ولأبى داود الطيالسى فى مسنده بسند حسن: فأخذ بحلقى.
قوله: (حتى بلغ منى الجهد) روى بالفتح والنصب، أى: بلغ الغط منى غاية وسعى. وروى بالضم والرفع أى: بلغ منى الجهد مبلغه.
وقوله: " أرسلنى " أى أطلقنى، ولم يذكر الجهد هنا فى المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف فى التفسير.
قوله: (فرجع بها) أى: بالآيات أو بالقصة.
قوله: (فزملوه) أى: لفوه. والروع بالفتح: الفزع.
قوله: (لقد خشيت على نفسى) دل هذا مع قوله " يرجف فؤاده " على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال:"زملونى". والخشية المذكورة اختلف العلماء فى المراد بها على اثنى عشر قولا: أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به فى عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربى وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلى على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضرورى له أن الذى جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى. ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة . ثالثها: الموت من شدة الرعب. رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبى جمرة. خامسها: دوام المرض. سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة. سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب. ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه. تاسعها: أن يقتلوه. عاشرها: مفارقة الوطن. حادى عشرها: تكذيبهم إياه. ثانى عشرها: تعييرهم إياه. وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض. والله الموفق.
قوله: (فقالت خديجة: كلا) معناها: النفى والإبعاد، ويحزنك: بفتح أوله والحاء المهملة والزاى المضمومة والنون من الحزن. ولغير أبى ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاى المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزى. ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفى ذلك أبدا بأمر استقرائى وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به. والكل بفتح الكاف: هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى: (وهو كل على مولاه)
وقولها:" وتكسب المعدوم " فى رواية الكشميهنى وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابى: الصواب المعدم بلا واو أى الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذى لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة. فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم بن ثابت فى الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه.
(25/1) قال أعرابى يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد فى وصف ذئب " كسوب كذا المعدوم من كسب واحد " أى: مما يكسبه وحده. انتهى. ولغير الكشميهنى " وتكسب " بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح. قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش. وكان النبى -صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة محظوظا فى التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به فى الوجوه التى ذكرت فى المكرمات. وقولها: " وتعين على نوائب الحق " هى كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفى رواية المصنف فى التفسير من طريق يونس عن الزهرى من الزيادة"وتصدق الحديث " وهى من أشرف الخصال. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه فى هذه القصة " وتؤدى الأمانة ". وفى هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
قوله: (فانطلقت به) أى مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء.
وقوله: " ابن عم خديجة " هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: (تنصر) أى: صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقى من بقى من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل. وأما زيد بن عمرو فسيأتى خبره فى المناقب إن شاء الله تعالى.
قوله: (فكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانية). وفى رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية. ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربى. والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبرانى والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبرانى كما كان يكتب الكتاب العربى، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه . وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا، كتيسر حفظ القرآن الذى خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء فى صفتها " أناجيلها صدورها ".
قولها: " يا ابن عم " هذا النداء على حقيقته، ووقع فى مسلم " يا عم " وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة. وإنما جوزنا ذلك فيما مضى فى العبرانى والعربى لأنه من كلام الراوى فى وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد فى جميع ما أشبهه. وقالت فى حق النبى -صلى الله عليه وسلم- : اسمع من ابن أخيك. لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة فى عدد النسب إلى قصى بن كلاب الذى يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية فى درجة إخوته. أو قالته على سبيل التوقير لسنه. وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: " اسمع من ابن أخيك " أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبى -صلى الله عليه وسلم -وذلك أبلغ فى التعليم.
قوله: (ماذا ترى) فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به فى دلائل النبوة لأبى نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد فى هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذى رأى.
قوله: (هذا الناموس الذى نزل الله على موسى). وللكشميهنى " أنزل الله "، وفى التفسير " أنزل " على البناء للمفعول وأشار بقوله: " هذا " إلى الملك الذى ذكره النبى -صلى الله عليه وسلم -فى خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره.
(26/1) والناموس: صاحب السر، كما جزم به المؤلف فى أحاديث الأنبياء. وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر. والأول: الصحيح الذى عليه الجمهور. وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا: جبريل -عليه السلام -.
وقوله: " على موسى " ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى -عليه السلام -مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم. أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبى -صلى الله عليه وسلم -بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته، وأما ما تمحل له السهيلى من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى فى عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه فى حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل فى التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهرى فى هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى. والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف. نعم فى دلائل النبوة لأبى نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه فى هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتنى، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذى لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبى -صلى الله عليه وسلم- له قال له: ناموس موسى للمناسبة التى قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: (يا ليتنى فيها جذع) كذا فى رواية الأصيلى، وعند الباقين: " يا ليتنى فيها جذعا " بالنصب على أنه خبر كان المقدرة، قاله الخطابى، وهو مذهب الكوفيين فى قوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم). وقال ابن برى: التقدير: يا ليتنى جعلت فيها جذعا. وقيل: النصب على الحال، إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل فى الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيلى. وضمير " فيها " يعود على أيام الدعوة. والجذع - بفتح الجيم والذال المعجمة - هو: الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى. قوله: (إذ يخرجك) قال ابن مالك: فيه استعمال " إذ " فى المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر) هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد . وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا فى مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضى لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوى ذلك هنا أن فى رواية البخارى فى التعبير " حين يخرجك قومك " وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبنى عليه من أن إيقاع المستقبل فى صورة المضى، تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية فى هذه دون تلك مع وجوده فى أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وفيه دليل على جواز تمنى المستحيل إذا كان فى فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، هو مستحيل عادة. ويظهر لى أن التمنى ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
قوله: (أو مخرجى هم) بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجى خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبى -صلى الله عليه وسلم -أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضى الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التى تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج.
قوله: (إلا عودى) وفى رواية يونس فى التفسير " إلا أوذى " فذكر ورقة أن العلة فى ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
قوله: (إن يدركنى يومك) إن شرطية، والذى بعدها مجزوم.
(27/1) زاد فى رواية يونس فى التفسير: " حيا " ولابن إسحاق: " إن أدركت ذلك اليوم " يعنى: يوم الإخراج. قوله: (مؤزرا) بهمزة أى: قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون فى اللغة مؤزر من الأزر. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره فى نصرته، قال الأخطل : " قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم " البيت.
قوله: (ثم لم ينشب) بفتح الشين المعجمة أى: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أى: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما فى السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس فى الإسلام. فإن تمسكنا بالترجيح فما فى الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو فى قوله: وفتر الوحى، ليست للترتيب، فلعل الراوى لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك فى أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع. وفتور الوحى عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان -صلى الله عليه وسلم -وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى المؤلف فى التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك.
(فائدة): وقع فى تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبى، أن مدة فترة الوحى كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقى أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحى اليقظة وقع فى رمضان. وليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين وهى ما بين نزول " اقرأ " و " يا أيها المدثر " عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبى من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبى خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين فى قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم.
وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدى هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافى إلا إن صحب النافى دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلى هذه الرواية فجمع بها المختلف فى مكثه -صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه قال: جاء فى بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفى رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذى اعتمده السهيلى من الاحتجاج بمرسل الشعبى لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما، وسيأتى مزيد لذلك فى كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
(28/1) قوله: (قال ابن شهاب: أخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب - أى بالسند المذكور - وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحى وقوله الملك الذى جاءنى بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبى كثير الآتية فى التفسير عن أبى سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن (يا أيها المدثر) أول ما نزل، ورواية الزهرى هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال، وسياق بسط القول فى ذلك فى تفسير سورة اقرأ.
قوله: (فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين، وللأصيلى بفتح الراء وضم العين، أى: فزعت، دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج.
قوله: (فقلت: زملونى زملونى) وفى رواية الأصيلى وكريمة زملونى مرة واحدة. وفى رواية يونس فى التفسير فقلت دثرونى فنزلت (يا أيها المدثر قم فأنذر) أى: حذر من العذاب من لم يؤمن بك (وربك فكبر) أى: عظم (وثيابك فطهر) أى: من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان كما سيأتى من تفسير الراوى عند المؤلف فى التفسير، والرجز فى اللغة: العذاب، وسمى الأوثان هنا رجزا لأنها سببه.
قوله: (فحمى الوحى) أى جاء كثيرا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور، إذ لم ينته إلى انقطاع كلى فيوصف بالضد وهو البرد.
قوله: (وتتابع) تأكيد معنوى، ويحتمل أن يراد بحمى: قوى، وتتابع: تكاثر، وقد وقع فى رواية الكشميهنى وأبى الوقت " وتواتر "، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل.
(تنبيه) خرج المصنف بالإسناد فى التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله " تتابع " : قال عروة - يعنى بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم - : " رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب " قال البخارى: يعنى قصب اللؤلؤ. قلت: وسيأتى مزيد لهذا فى مناقب خديجة إن شاء الله تعالى.
قوله: (تابعه) الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف فى قصة موسى. وفيه من اللطائف قوله عن الزهرى: سمعت عروة.
قوله: (وأبو صالح) هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخارى عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبى صالح عنه. ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان فى تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطى - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحرانى ، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد فى مسنده عن كاتب الليث.
قوله: (وتابعه هلال بن رداد) بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه فى الزهريات للذهلى.
قوله: (وقال يونس) يعنى ابن يزيد الأيلى، ومعمر هو ابن راشد. (بوادره) يعنى: أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهرى فوافقا عقيلا عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهى اللحمة التى بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان فى أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، وقد بينا ما فى رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا فى أثناء السيا ، والله الموفق. وسيأتى بقية شرح هذا الحديث فى تفسير سورة (اقرأ باسم ربك) إن شاء الله تعالى.
فتح البارى، شرح صحيح البخارى، للإمام ابن حجر العسقلانى
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ -اللَّيَالِى ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ،{ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ : فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ : ( زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى ). فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَر َ: ( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى ). فَقَالَتْ خَدِيجَة ُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِى، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِى. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَة ُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَمُخْرِجِى هُمْ ) قَال َ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِى، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّى وَفَتَرَ الْوَحْى }.
{ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِى قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْى - فَقَالَ فِى حَدِيثِه ِ: ( بَيْنَا أَنَا أَمْشِى إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ. فَقُلْتُ : زَمِّلُونِى ). فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فَحَمِى الْوَحْى وَتَتَابَعَ }. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِى، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ " بَوَادِرُه ُ".
الشرح
قوله: (حدثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس فى الليث بن سعد الفهمى فقيه المصريين. وعقيل بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهرى نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبى -صلى الله عليه وسلم-، على إتقانه وإمامته.
(1/ 23) قوله: (من الوحى) يحتمل أن تكون " من " تبعيضية، أى: من أقسام الوحى، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز.
قوله: (الرؤيا الصالحة) وقع فى رواية معمر ويونس عند المصنف فى التفسير " الصادقة " وهى التى ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له فى اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
قوله: (فى النوم) لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين فى اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.
قوله: (مثل فلق الصبح) بنصب مثل على الحال، أى مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أى جاءت مجيئا مثل فلق الصبح. والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذى لا شك فيه. قوله: (حبب) لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحى الإلهام. والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له. وحراء بالمد وكسر أوله كذا فى الرواية وهو صحيح. وفى رواية الأصيلى بالفتح والقصر وقد حكى أيضا، وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية. هو جبل معروف بمكة. والغار: نقب فى الجبل وجمعه غيران.
قوله: (فيتحنث) هى بمعنى يتحنف، أى يتبع الحنفية وهى دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء فى كثير من كلامهم. وقد وقع فى رواية ابن هشام فى السيرة" يتحنف"بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.
قوله: (وهو التعبد) هذا مدرج فى الخبر، وهو من تفسير الزهرى كما جزم به الطيبى ولم يذكر دليله. نعم فى رواية المؤلف من طريق يونس عنه فى التفسير ما يدل على الإدراج.
قوله: (الليالى ذوات العدد) يتعلق بقوله يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل. وهو بالنسبة إلى المدد التى يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهى شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق. والليالى منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء. وينزع بكسر الزاى أى: يرجع وزنا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه فى التفسير.
قوله: (لمثلها) أى: الليالى. والتزود استصحاب الزاد. ويتزود معطوف على يتحنث. وخديجة هى أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، تأتى أخبارها فى مناقبها.
قوله: (حتى جاءه الحق) أى: الأمر الحق، وفى التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أى بغته. وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحى إليه بذلك فى المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك فى اليقظة عقب ما تقدم فى المنام. وسمى حقا لأنه وحى من الله تعالى. وقد وقع فى رواية أبى الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى فى المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: " يا محمد " فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: " يا محمد، جبريل جبريل " فهرب فدخل فى الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم فناداه فهرب. ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه (اقرأ باسم ربك) ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبى الأسود، وابن لهيعة ضعيف. وقد ثبت فى صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا : " لم أره - يعنى جبريل - على صورته التى خلق عليها إلا مرتين "، وبين أحمد فى حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التى خلق عليها، والثانية عند المعراج. وللترمذى من طريق مسروق عن عائشة: " لم ير محمد جبريل فى صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة فى أجياد " وهذا يقوى رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى. ووقع فى السيرة التى جمعها سليمان التيمى فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبى - صلى الله عليه وسلم -فى حراء وأقرأه (اقرأ باسم ربك) ثم انصرف، فبقى مترددا، فأتاه من أمامه فى صورته فرأى أمرا عظيما.
(1/ 24) قوله: (فجاءه) هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحى حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.
قوله: (ما أنا بقارئ) ثلاثا. " ما " نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكى عن الأخفش، جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفى، أى ما أحسن القراءة. فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: (اقرأ باسم ربك) أى: لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان فى الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية، ذكره السهيلى. وقال غيره: إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص. ورده الطيبى بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتة. فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟ أجاب أبو شامة: بأن يحمل قوله أولا: " ما أنا بقارئ " على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام. ويؤيده أن فى رواية أبى الأسود فى مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ وفى رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق: ماذا أقرأ، وفى مرسل الزهرى فى دلائل البيهقى: كيف أقرأ، كل ذلك يؤيد أنها استفهامية. والله أعلم.
قوله: (فغطنى) بغين معجمة وطاء مهملة. وفى رواية الطبرى بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمنى وعصرنى، والغط حبس النفس، ومنه غطه فى الماء، أو أراد غمنى ومنه الخنق. ولأبى داود الطيالسى فى مسنده بسند حسن: فأخذ بحلقى.
قوله: (حتى بلغ منى الجهد) روى بالفتح والنصب، أى: بلغ الغط منى غاية وسعى. وروى بالضم والرفع أى: بلغ منى الجهد مبلغه.
وقوله: " أرسلنى " أى أطلقنى، ولم يذكر الجهد هنا فى المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف فى التفسير.
قوله: (فرجع بها) أى: بالآيات أو بالقصة.
قوله: (فزملوه) أى: لفوه. والروع بالفتح: الفزع.
قوله: (لقد خشيت على نفسى) دل هذا مع قوله " يرجف فؤاده " على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال:"زملونى". والخشية المذكورة اختلف العلماء فى المراد بها على اثنى عشر قولا: أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به فى عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربى وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلى على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضرورى له أن الذى جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى. ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة . ثالثها: الموت من شدة الرعب. رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبى جمرة. خامسها: دوام المرض. سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة. سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب. ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه. تاسعها: أن يقتلوه. عاشرها: مفارقة الوطن. حادى عشرها: تكذيبهم إياه. ثانى عشرها: تعييرهم إياه. وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض. والله الموفق.
قوله: (فقالت خديجة: كلا) معناها: النفى والإبعاد، ويحزنك: بفتح أوله والحاء المهملة والزاى المضمومة والنون من الحزن. ولغير أبى ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاى المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزى. ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفى ذلك أبدا بأمر استقرائى وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به. والكل بفتح الكاف: هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى: (وهو كل على مولاه)
وقولها:" وتكسب المعدوم " فى رواية الكشميهنى وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابى: الصواب المعدم بلا واو أى الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذى لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة. فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم بن ثابت فى الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه.
(25/1) قال أعرابى يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد فى وصف ذئب " كسوب كذا المعدوم من كسب واحد " أى: مما يكسبه وحده. انتهى. ولغير الكشميهنى " وتكسب " بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح. قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش. وكان النبى -صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة محظوظا فى التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به فى الوجوه التى ذكرت فى المكرمات. وقولها: " وتعين على نوائب الحق " هى كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفى رواية المصنف فى التفسير من طريق يونس عن الزهرى من الزيادة"وتصدق الحديث " وهى من أشرف الخصال. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه فى هذه القصة " وتؤدى الأمانة ". وفى هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
قوله: (فانطلقت به) أى مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء.
وقوله: " ابن عم خديجة " هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: (تنصر) أى: صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقى من بقى من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل. وأما زيد بن عمرو فسيأتى خبره فى المناقب إن شاء الله تعالى.
قوله: (فكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانية). وفى رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية. ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربى. والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبرانى والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبرانى كما كان يكتب الكتاب العربى، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه . وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا، كتيسر حفظ القرآن الذى خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء فى صفتها " أناجيلها صدورها ".
قولها: " يا ابن عم " هذا النداء على حقيقته، ووقع فى مسلم " يا عم " وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة. وإنما جوزنا ذلك فيما مضى فى العبرانى والعربى لأنه من كلام الراوى فى وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد فى جميع ما أشبهه. وقالت فى حق النبى -صلى الله عليه وسلم- : اسمع من ابن أخيك. لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة فى عدد النسب إلى قصى بن كلاب الذى يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية فى درجة إخوته. أو قالته على سبيل التوقير لسنه. وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: " اسمع من ابن أخيك " أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبى -صلى الله عليه وسلم -وذلك أبلغ فى التعليم.
قوله: (ماذا ترى) فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به فى دلائل النبوة لأبى نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد فى هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذى رأى.
قوله: (هذا الناموس الذى نزل الله على موسى). وللكشميهنى " أنزل الله "، وفى التفسير " أنزل " على البناء للمفعول وأشار بقوله: " هذا " إلى الملك الذى ذكره النبى -صلى الله عليه وسلم -فى خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره.
(26/1) والناموس: صاحب السر، كما جزم به المؤلف فى أحاديث الأنبياء. وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر. والأول: الصحيح الذى عليه الجمهور. وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا: جبريل -عليه السلام -.
وقوله: " على موسى " ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى -عليه السلام -مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم. أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبى -صلى الله عليه وسلم -بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته، وأما ما تمحل له السهيلى من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى فى عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه فى حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل فى التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهرى فى هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى. والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف. نعم فى دلائل النبوة لأبى نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه فى هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتنى، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذى لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبى -صلى الله عليه وسلم- له قال له: ناموس موسى للمناسبة التى قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: (يا ليتنى فيها جذع) كذا فى رواية الأصيلى، وعند الباقين: " يا ليتنى فيها جذعا " بالنصب على أنه خبر كان المقدرة، قاله الخطابى، وهو مذهب الكوفيين فى قوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم). وقال ابن برى: التقدير: يا ليتنى جعلت فيها جذعا. وقيل: النصب على الحال، إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل فى الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيلى. وضمير " فيها " يعود على أيام الدعوة. والجذع - بفتح الجيم والذال المعجمة - هو: الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى. قوله: (إذ يخرجك) قال ابن مالك: فيه استعمال " إذ " فى المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر) هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد . وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا فى مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضى لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوى ذلك هنا أن فى رواية البخارى فى التعبير " حين يخرجك قومك " وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبنى عليه من أن إيقاع المستقبل فى صورة المضى، تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية فى هذه دون تلك مع وجوده فى أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وفيه دليل على جواز تمنى المستحيل إذا كان فى فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، هو مستحيل عادة. ويظهر لى أن التمنى ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
قوله: (أو مخرجى هم) بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجى خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبى -صلى الله عليه وسلم -أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضى الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التى تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج.
قوله: (إلا عودى) وفى رواية يونس فى التفسير " إلا أوذى " فذكر ورقة أن العلة فى ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
قوله: (إن يدركنى يومك) إن شرطية، والذى بعدها مجزوم.
(27/1) زاد فى رواية يونس فى التفسير: " حيا " ولابن إسحاق: " إن أدركت ذلك اليوم " يعنى: يوم الإخراج. قوله: (مؤزرا) بهمزة أى: قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون فى اللغة مؤزر من الأزر. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره فى نصرته، قال الأخطل : " قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم " البيت.
قوله: (ثم لم ينشب) بفتح الشين المعجمة أى: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أى: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما فى السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس فى الإسلام. فإن تمسكنا بالترجيح فما فى الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو فى قوله: وفتر الوحى، ليست للترتيب، فلعل الراوى لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك فى أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع. وفتور الوحى عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان -صلى الله عليه وسلم -وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى المؤلف فى التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك.
(فائدة): وقع فى تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبى، أن مدة فترة الوحى كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقى أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحى اليقظة وقع فى رمضان. وليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين وهى ما بين نزول " اقرأ " و " يا أيها المدثر " عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبى من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبى خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين فى قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم.
وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدى هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافى إلا إن صحب النافى دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلى هذه الرواية فجمع بها المختلف فى مكثه -صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه قال: جاء فى بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفى رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذى اعتمده السهيلى من الاحتجاج بمرسل الشعبى لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما، وسيأتى مزيد لذلك فى كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
(28/1) قوله: (قال ابن شهاب: أخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمة بكذا. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن فى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب - أى بالسند المذكور - وأخبرنى أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحى وقوله الملك الذى جاءنى بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبى كثير الآتية فى التفسير عن أبى سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن (يا أيها المدثر) أول ما نزل، ورواية الزهرى هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال، وسياق بسط القول فى ذلك فى تفسير سورة اقرأ.
قوله: (فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين، وللأصيلى بفتح الراء وضم العين، أى: فزعت، دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج.
قوله: (فقلت: زملونى زملونى) وفى رواية الأصيلى وكريمة زملونى مرة واحدة. وفى رواية يونس فى التفسير فقلت دثرونى فنزلت (يا أيها المدثر قم فأنذر) أى: حذر من العذاب من لم يؤمن بك (وربك فكبر) أى: عظم (وثيابك فطهر) أى: من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان كما سيأتى من تفسير الراوى عند المؤلف فى التفسير، والرجز فى اللغة: العذاب، وسمى الأوثان هنا رجزا لأنها سببه.
قوله: (فحمى الوحى) أى جاء كثيرا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور، إذ لم ينته إلى انقطاع كلى فيوصف بالضد وهو البرد.
قوله: (وتتابع) تأكيد معنوى، ويحتمل أن يراد بحمى: قوى، وتتابع: تكاثر، وقد وقع فى رواية الكشميهنى وأبى الوقت " وتواتر "، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل.
(تنبيه) خرج المصنف بالإسناد فى التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله " تتابع " : قال عروة - يعنى بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم - : " رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب " قال البخارى: يعنى قصب اللؤلؤ. قلت: وسيأتى مزيد لهذا فى مناقب خديجة إن شاء الله تعالى.
قوله: (تابعه) الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف فى قصة موسى. وفيه من اللطائف قوله عن الزهرى: سمعت عروة.
قوله: (وأبو صالح) هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخارى عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبى صالح عنه. ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان فى تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطى - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحرانى ، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد فى مسنده عن كاتب الليث.
قوله: (وتابعه هلال بن رداد) بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه فى الزهريات للذهلى.
قوله: (وقال يونس) يعنى ابن يزيد الأيلى، ومعمر هو ابن راشد. (بوادره) يعنى: أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهرى فوافقا عقيلا عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهى اللحمة التى بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان فى أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، وقد بينا ما فى رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا فى أثناء السيا ، والله الموفق. وسيأتى بقية شرح هذا الحديث فى تفسير سورة (اقرأ باسم ربك) إن شاء الله تعالى.
فتح البارى، شرح صحيح البخارى، للإمام ابن حجر العسقلانى